أصول المجتمع، أو النشوء التطوّري للتنظيم الاجتماعي الإنساني المتمايز؛ هو أحد المواضيع الهامّة في علم الأحياء التطوّري، وعلم الإنسان، وعلم الآثار في عصور ما قبل التاريخ والعصر الحجري القديم.[1][2] لجأت العديد من المناقشات التي جرت منذ زمن هوبز[3] وروسّو[4] مرارًا وتكرارًا إلى المسائل الفلسفية والأخلاقية والتطوّرية.
أصول المجتمع في الطبيعة
أصل الفئات الاجتماعية
توماس هوبز
يُمكن القول بأنّ نظرية توماس هوبز هي النظرية الأكثر تأثيرًا في موضوع الأصول الاجتماعية البشرية، إذ جادل هوبز في كتابه اللفياثان[5] الفكرة القائلة بأنّ المجتمع سينهار باتّجاه بيلّوم أومنيوم كونترا أومنيس «حرب الجميع ضد الجميع» دون وجود حكومة قوّية:
في مثل هذه الحالة، لا مكان للصناعة؛ لأنّ نتاجها غير مؤكّد: وبالتالي لا مكان لثقافة الأرض؛ ولا للملاحة؛ ولا للاستفادة من السلع الأساسية القابلة للاستيراد عن طريق البحر؛ ولا الأبنية المتينة؛ ولا معدّات التنقل، ولا معدّات الإزالة، تتطلّب هذه الأشياء الكثير من القوّة، لا معرفة بوجه الأرض؛ ولا حساب للوقت؛ ولا فنون؛ ولا خطابات؛ ولا مجتمع؛ والأسوأ من ذلك كلّه، الخوف المستمر، وخطر الموت العنيف؛ وحياة الإنسان، وحيدة، وفقيرة، وسيّئة، ووحشية، وقصيرة.
– «القسم الثالث عشر: عن الحالة الطبيعية للبشرية على مستوى الجور والبؤس»، اللفياثان.
تتمثّل ابتكارية هوبز في إسناد تشكيل المجتمع إلى «عقد اجتماعي» تأسيسي، يتنازل الخاضعون للمملكة من خلاله عن جزء من حرّيتهم مقابل حصولهم على الأمن.
يصبح من المستحيل تشكيل المجتمع قبل تأسيس الدولة في حال قبول فكرة هوبز. ماتزال مدرسة الفكر هذه ذات تأثير كبير حتّى يومنا هذا.[6] يبرز عالم الآثار البريطاني كولن رينفرو (نبيل رينفرو من كيمستهورن) في هذا المجال، إذ يشير إلى أنّ الدولة لم تظهر إلا بعد فترة طويلة من تطوّر الإنسان العاقل. يرى رينفرو أن الممثّلين الأوائل لنوعنا قد يكونوا عصريين من الناحية التشريحية، بينما لم يكونوا عصريين في إدراكهم وسلوكهم. على سبيل المثال، افتقروا إلى القيادة السياسية، أو التعاون واسع النطاق، أو الإنتاج الغذائي، أو الأديان المنظّمة، أو القانون أو الأعمال الفنّية الرمزية. كان البشر صيّادون وجامعو ثمار بكلّ بساطة، إذ أكلوا أي طعام يجدونه في المناطق المجاورة لهم كما تفعل القردة الموجودة الآن. يقترح ريفنرو فكرةً مثيرةً للجدل ومتمثّلةً بأنّ الصيّادين وجامعي الثمار يفكّرون ويتفاعلون اجتماعيًّا وفق خطوط لا تختلف اختلافًا جذريًا عن نظرائهم البدائيين غير البشريين. وعلى وجه الخصوص، يرى ريفنرو أنّهم لا «ينسبون معنًى رمزيًا للأشياء المادّية»، ولذلك «لا يمتلكون [عقلًا] متطوّرًا بشكل كامل».
وعلى الرغم من ذلك، يؤكّد علماء الأجناس البشرية المختصّون بالصيّادين وجامعي الثمار على الفكرة القائلة بأنّ الشعوب التي تبحث عن الطعام الموجودة حاليًا تمتلك مؤسسات اجتماعية بكل تأكيد،[7] ولا سيما حقوقًا وواجبات مؤسسية مدوّنة في نظم القرابة الرسمية. تخدم الطقوس المعقّدة مثل احتفالات التدشين في ترسيخ العقود والالتزامات بصورة مستقلّة تمامًا عن الدولة. يضيف بعض العلماء الأخرون بأنّه ما دمنا نتحدّث عن «الثورات البشرية» («التحولات الرئيسية» في التطوّر البشري)، فالثورة لم تكن ثورة العصر الحجري الحديث بل صعود الثقافة الرمزية التي برزت في نهاية العصر الحجري الأوسط.[8][9]
يناقش عالم الإنسان اللاسلطوي بيير كلاستر فكرةّ مناقضةً لفكرة هوبز تمامًا، إذ يرى أنّ الدولة والمجتمع متنافرين بصورة متبادلة: فالمجتمع الحقيقي يكافح دائمًا للانتصار على الدولة.[10]
جان جاك روسّو
اتّفق جان جاك روسو مع هوبز، إذ جادل بأن المجتمع قد وُلد بموجب عقد اجتماعي. وعلى الرغم من ذلك، يرى روسّو أنّ السيادة مسؤولية جميع السكّان، الذين يبرمون العقد بشكل مباشر مع بعضهم البعض. أوضح روسّو أنّ «المشكلة» تتمثّل في «إيجاد شكل من أشكال الارتباط الذي سيدافع ويحمي شخص وممتلكات كلّ مشارك في هذا الارتباط بقوّة مشتركة موحّدة؛ بينما لا يخضع أيّ منهم إلا لنفسه ويبقى كلّ منهم حرًّا مثلما عهد، على الرغم من اتحاده مع الجميع». هذه هي المشكلة الأساسية التي يمدّنا العقد الاجتماعي بحل لها. تابع روسو قائلًا بأنه يمكن تقليل بنود العقد ليصبح مكونًا من بند واحد، «الفردية المطلقة لكل مشارك، مع إعطائه كامل حقوقه، بهدف ترسيخ مجتمع متكامل. يتنازل كلّ رجل عن نفسه من أجل الجميع، يتنازل عن نفسه لأجل لا أحد؛ ولأنه لا يوجد مشارك إلا ويمتلك الحقوق ذاتها، يكسب المرء ما يعادل خسارته، بالإضافة إلى زيادة في القوّة للحفاظ على ما يمتلك». وبعبارة أخرى: «يضع كلّ منا شخصه وكلّ ما في قوّته في المشاع تحت التوجيه الأعلى للإرادة العامة؛ ومن خلال قدرتنا المؤسسية، نعتبر كلّ عضو بصفته جزءًا لا يتجزأ من الكل». وفي الوقت ذاته، يخلق هذا الفعل المشترك هيئةً أخلاقيةً وجماعيةً بدلًا من الشخصية الفردية لكل طرف موجود في العقد؛ إذ تتألف هذه الهيئة من أكبر عدد ممكن من الأعضاء الذين يمكن التصويت لهم في المجلس، وبذلك يمكن الاستفادة من الوحدة والهوية المشتركة والحياة والإرادة التي يقدّمها هذا الفعل.[11] ومن خلال هذه الوسيلة، لا يكسب كل فرد من أفراد المجتمع القدرات الجماعية وحسب، بل يكسبون ولأوّل مرّة العقلية العقلانية أيضًا:
يسفر الانتقال من حالة الطبيعية إلى الحالة المدنية عن حدوث تغيير ملحوظ في الإنسان؛ وذلك من خلال استبدال الحدس في السلوك بالعدالة، ومدّ أفعاله بالأخلاق التي كان يفتقر لها سابقًا. وحينها فقط، عندما يحلّ صوت الواجب محلّ الدوافع الجسدية وحقّ الرغبة، يجد الإنسان الذي لم يفكّر إلا بنفسه أنّه مجبر على التصرّف وفقًا لمبادئ مختلفة، وعلى التشاور مع عقله قبل الاستماع إلى رغباته.
– جان جاك روسّو، العقد الاجتماعي والخطابات. ترانس. جي. دي. إتش. كول. الإصدار الجديد. لندن & ميلبورن: دينت. بوك 1، القسم 8..
السير هنري سامر ماين
جادل ماين في كتابه المؤثّر القانون القديم (1861) أنّ الوحدة الأساسية للتنظيم الاجتماعي الإنساني في العصور الأولى هي الأسرة الأبوية:
إن تأثير الأدلّة المستمدّة من الاجتهادات المقارنة هو إثبات وجهة نظر الحالة البدائية للجنس البشري، والتي تُعرف باسم النظرية الأبوية.
ـــــــــــــــــ ماين، إتش. إس. 1861. القانون القديم. جون موراي. الصفحة: 122.
إن تأثير الأدلّة المستمدّة من الاجتهادات المقارنة هو إثبات وجهة نظر الحالة البدائية للجنس البشري، والتي تُعرف باسم النظرية الأبوية.
– ماين، إتش. إس. 1861. القانون القديم. جون موراي. الصفحة: 122.
اعتُبرت دوافع ماين سياسية جزئيًا، إذ كانت عدائية اتجاه الأفكار الثورية الفرنسية وغيرها من الأفكار الاجتماعية الراديكالية. سعى ماين إلى تقويض إرث روسّو وغيره من دعاة حقوق الإنسان الطبيعية، وذلك من خلال التأكيد على أنّه لم يمتلك أيّ شخص حقوقًا على الإطلاق في البداية؛ «يخضع كلّ شخص يعيش الجزء الأكبر من حياته تحت الاستبداد الأبوي فعليًا إلى التحكّم في جميع تصرفاته، وذلك بموجب نظام معتمد على النزوة، لا على القانون». لا يخضع أطفال الأبوي لما يسمّيه ماين «استبدادًا» وحسب، بل يتأثّر كل من زوجته وعبيده بنفس القدر من الاستبداد. يعتبر ماين أن فكرة القرابة ذاتها هي طريقة لتصنيف أولئك الذين خضعوا قسريًا لقوانين المستبد التعسفية ببساطة. أرفق ماين حجّته هذه بالقليل من الداروينية فيما بعد. استشهد داروين في كتابه «أصل الإنسان» بتقارير تفيد بأن ذكور الغوريلا التي تعيش في البرية تحتكر لنفسها أكبر عدد من الإناث، التي يدافعون عنها بعنف. أيّد ماين تكهّنات داروين التي تفيد بأنّ «الرجل البدائي» قد «عاش في مجتمعات صغيرة، وامتلك كلّ منهم أكبر عدد يمكنهم الحصول عليه من الزوجات؛ إذ يحميهنّ من جميع الرجال الآخرين بصورة غيورة». أوضح ماين ما يعنيه بمصطلح «الأبوية» تحت وطأة الضغط، إذ قال بأنّ «الغيرة الجنسية المنغمسة بالسلطة قد تكون بمثابة تعريف للعائلة الأبوية».
المراجع
- Sahlins, M. D. 1960. The origin of society. Scientific American 203(3): 76–87.
- Runciman, W.G. (ed.), The origin of social institutions. Oxford: Oxford University Press, pp. 235–54.
- Hobbes, T. (2010). Leviathan: Or the Matter, Forme, and Power of a Common-Wealth Ecclesiasticall and Civill, ed. by Ian Shapiro. New Haven & London: Yale University Press.
- Rousseau, J.-J. 1973 [1762]. The social contract. In Jean-Jacques Rousseau, The Social Contract and Discourses. Trans. G. D. H. Cole. New edition. London & Melbourne: Dent, pp. 179–309.
- Thomas Hobbes. Leviathan: Or the Matter, Forme, and Power of a Common-Wealth Ecclesiasticall and Civill, ed. by Ian Shapiro (Yale University Press; 2010).
- W. G. Runciman (ed.), The Origin of Human Social Institutions. Oxford: Oxford University Press
- Lévi Strauss, C. 1969. The Elementary Structures of Kinship. London: Eyre and Spottiswoode.
- Mellars, P. A., K. Boyle, O. Bar-Yosef and C. Stringer (eds), 2007. Rethinking the Human Revolution: new behavioural and biological perspectives on the origin and dispersal of modern humans. Cambridge: McDonald Institute for Archaeological Research.
- Knight, C., C. Power and I. Watts 1995. The human symbolic revolution: A Darwinian account. Cambridge Archaeological Journal. 5(1): 75–114.
- Clastres, P. 1977. Society Against the State. Trans. R. Hurley in collaboration with A. Stein. Oxford: Blackwell.
- Rousseau, J.-J. 1973 [1762]. The social contract. In Jean-Jacques Rousseau, The Social Contract and Discourses. Trans. G. D. H. Cole. New edition. London & Melbourne: Dent. Book I, Ch. 6.