يقول عمر وبن الجاحظ في سبب تأليف كتابه، أنه لما خص الله عز وجل الملوك بكرامته، وأكرمهم بسلطانه، ومكن لهم في البلاد، وخولهم أمر العباد، أوجب على علمائهم تعظيمهم، وتوقيدهم، وتعزيزهم وتقريظهم، كما أوجب عليهم طاعتهم، والخضوع لهم، ومنها أن أكثر العامة، وبعض الخاصة، لما كانت تجهل الأقسام التي تحب لملوكها عليها حصرنا آدابها في كتابنا هذا لنجعلها قدوة لها، وإماماً لتأدبها، وبعد فإن كتاب "التاج في أخلاق الملوك" قد دار جدل نسبته إلى الجاحظ وقد حاول بعض المحققين والشراح استبعاد نسبه إليه، لأن اسمه لم يرد في عداد أسماء الكتب التي ذكر الجاحظ أنه ألفها في مقدمته لكتاب "الحيوان"، وهذا السبب غير معقول لأن التاريخ وضع هذا الكتاب متقدم على تاريخ وضع الجاحظ لكتابه "الحيوان" هذا أولاً وثانياً ولأن المستقرئ لأسلوب هذا الكتاب، ولأغراضه عامة، يدرك التشابه العظيم القائم بينه وبين سائر المصنفات الجاحظية.
وبالعودة إلى محتوى الكتاب يرى القارئ أنه يتضمن أبواباً يضاف إلى المقدمة دار الحديث في تلك الأبواب حول الدخول على الملوك، ومطاعمتهم، ومنادمتهم، وفي صفات الندماء وما يجب للملوك عند الرعية من حسن الأدب، في حالتي الهزل والجد، ولا يفوت الجاحظ، خلال ذلك، أن يذكر صنوفاً من الأحاديث، وألواناً من الطرائف، يستمدها من التاريخ العربي حيناً، ومن التاريخ الفارس أحياناً، متحدثاً عن أخلاق الملوك والشعوب، على اختلاف ديارها، محاولاً بعد كل حديث أن يضع الخطوط العامة، بصورة غير مباشرة، للأدب الاجتماعي الرفيع.
ولم يقتصر كتاب التاج على أخلاق الملوك من الفرس أو الأعاجم بل هو يتناول بإسهاب الكلام على الملوك من خلفاء الأمويين والعباسيين وما تميز به كل واحد منهم من الأخلاق والصفات، حتى ليغدو الكتاب تأريخاً دقيقاً لأخبار الدولتين الأموية والعباسية، وما يكتنف من النوادر والطرائف والملح والحكايات والمرويات.
والجاحظ يتناول أحوال هؤلاء الخلفاء في شربهم ولهوهم فيقف عند معاوية ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ويزيد، كما يقف عند السفّاح والمتصور والمهدي والمهتدي والرشيد والأمين والمأمون، فيتحف القارئ بأخبارهم وكيف يباسطون ندماءهم وكيف تكون الخطوة عندهم، وكيف يواجهون زلاّ الندماء، إلى أن يأتي على ذكر سنة الأعاجم وسادات المسلمين وخلفائهم في التطيب والتعّجل، فالكتاب على هذا النحو سفر جليل القدر، عظيم النفع، لا في التأريخ للملوك الماضين بل في الكشف عن نمط فريد من الأخلاق والطباع ووصف أجداد البلاطات وتعرف رجال البلاد وحاشية الملوك وندمائهم.