يشير الدين الإيراني القديم إلى معتقدات الشعوب الإيرانية وشعائرها قبل انتشار الزرادشتية.
برزت الشعوب الإيرانية فرعًا مستقلًا من الهندو أوروبيين في الألفية الثانية قبل الميلاد، وفيها سيطروا على السهول الأوراسية والهضبة الإيرانية. نشأ دينهم عن الدين الهندي الأوروبي البدائي، ومن هنا فقد شابه من وجوه كثيرة الدين الفيدي. ومع أن الشعوب الإيرانية لم تترك شواهد مادّية على شعائرها الدينية إلا قليلًا، فإن في الإمكان إعادة بناء دينهم من الأدلة الإيرانية والإغريقية والبابلية الضئيلة، ومن التشابهات مع الفيدية والأديان الهندية الأوروبية الأخرى، ومن الأدلة المادية. كان دينهم متعدد الآلهة، وكان الإله الرئيس في مجمع الآلهة عندهم هو أهورا مزدا، وكانوا يعدّونه خالق العالم. وكانوا يعتقدون بتقسيم الكون إلى ثلاث طبقات: الأرض، والجو، والسماء فوقهما. كانت الثنويّة مدعومة بقوّة وكانت طبيعة البشر تُعَدّ خيّرة من ناحية جوهرها. كانت الشعيرة الرئيسة للإيرانيين القدماء هي اليزنا، وفيها تُقَدَّس الآلهة، وتُتناول مادة الهوما المخدّرة. كان ينفّذ هذه الشعيرة طبقة كهنوتية مدرَّبة على مستوى عال. كانت النار تُعبد لأنها تمثّل الإله آتار. كان بين السياسة والدين في الإمبراطوريات الفارسية صلة قويّة.
ومنذ أوائل القرن العاشر قبل الميلاد، بدأت الزرادشتية تدريجيا تحلّ محلّ الدين الإيراني القديم، مع أنها حوَتْ عناصر جوهرية كثيرة منه.
المصادر
تتألف مصادر الدين الإيراني القديم، وإن كانت محدودة، من مصادر نصّيّة ومادّيّة. تنقسم المصادر النصّيّة إلى إيرانية وغير إيرانية.
المصادر الإيرانية
من المصادر الإيرانية المهمة الأفستا، وهي النصوص الزرادشتية المقدسة المكتوبة باللغة الأفستية. تُعَدّ الأفستا المصدر المعرفي الأساسي عن الأديان الإيرانية القديمة. وهي مجموعة من النصوص التي يبدو أن كتّابًا متعددين كتبوها على امتداد زمني طويل. عُدِّلت هذه النصوص ونُقِّحت أثناء تطورها. وهي اليوم الجزء الوحيد الباقي من بقايا القرن التاسع للأفستا التي كتبها كسرى الأول في الإمبراطورية الساسانية (في القرن السادس). توضح ملخصات محتواها أنها كانت مجموعة ضخمة تحتوي نصوصا لا بالأفستية فقط بل بالبهلوية أيضا، وهي لغة الزرادشتية في الإمبراطورية الساسانية. ومع أن الأفستا الموجودة بين أيدينا تعتبر حديثة شيئا ما، فإن فيها معلومات أقدم. تعدّ غاثات (أغاني) النبي زرادشت، وكثير من اليشتات من أقدم النصوص فيها. اشتملت الغاثات على تعبيرات عن الرؤية الدينية لزرادشت، وهي من وجوه كثيرة تفسير جديد (إعادة تفسير) للمبادئ الدينية الإيرانية القديمة. أما اليشتات فهي مجموعة من الآيات المهداة إلى آلهة متعددة. ترتبط هذه الآيات أكثر ما ترتبط بالمصطلحات والأفكار الزرادشتية، على أنها لا تحوي علاقة قوية بأي شيء خاص بالزرادشتية. والآلهة المعبودة فيها هي آلهة الشعوب الإيرانية السابقة للزرادشتية. لم يتفق العلماء على زمان زرادشت، ولكن معظم الباحثين يتفقون على أنها عاشر في فترة ما بين 1200 و600 قبل الميلاد. وتأريخ الياشتات صعب كذلك، ولكنها على الراجح حُرِّرت (وإن لم تكن كُتِبَت بالضرورة) أول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد.
من المصادر الإيرانية الأخرى النقوش الملكية للإمبراطورية الأخمينية المكتوبة بالفارسية القديمة (مع ترجمات عيلامية وآرامية وأكادية). تحوي هذه النقوش إشارات كثيرة إلى الدين، لا سيما نقوش دارا الأول وابنه خشايارشا الأول. ما يجعل هذه النقوش مفيدة أنها محددة في الزمان والمكان.
لا دليل على أن المؤلفات الدينية الإيرانية كانت تكتَب قبل الحقبة الفرثية أو الساسانية الأخيرة، ما عدا النقوش الأخمينية. يجعل هذا الدين الإيراني الدين الوحيد في الشرق الأوسط الذي ليس له نصوص مكتوبة في الحقبة القديمة. كانت المعلومات الدينية شفهية سواء في التأليف أو في النقل.
المصادر غير الإيرانية
تتألف المصادر غير الإيرانية أساسا من المصادر الإغريقية. أهم مصدر إغريقي هو المؤرخ هيرودوت. ومع هذا فإن بعض المعلومات الإغريقية عن الدين الإيرانية لا يعتمَد عليها. إمّا لأنها مبنية على معلومات بيّنة الخطأ، وإما لأنها مبنية على سوء فهم.
الأدب الفيدي الذي أعيد بناؤه مصدر مهم كذلك. لا غنى عن النصوص الدينية المبكرة المرتبطة بالشعوب الهندية الأوروبية من أجل معرفة التطور التاريخي للدين الإيراني القديم. أهم هذه النصوص في هذا الشأن هو الريغفيدا. يتألف الريغفيدا من أكثر من 1000 ترتيلة تعبَد فيها آلهة متعددة. يمكن تأريخ الريغفيدا في الحقبة بين 1700 و1100 قبل الميلاد.
المصادر المادّية
المصادر المادّية محدودة ومقتصرة على غرب إيران. أهم المصادر المادّيّة ما بقي من العمارة الأخمينية. إذ يقدّم كثيرًا من الأدلة على التعبير الإمبراطوري عن الرموز الدينية ويظهر استقلالا كبيرا عن الأديان السابقة في الشرق الأوسط.
الأصول
في النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد، هاجرت مجموعة من الهنديين الأوروبيين جنوبا من سهول الأوراس إلى الشرق الأوسط، إلى الهضبة الإيرانية والجزء الشمالي الغربي من شبه القارة الهندية. كان المهاجرون هم الهنديون الأوروبيون الذين يسمون أنفسهم آريا «النبلاء». عُرِف الذين استقروا منهم في الشرق الأدنى والهند بالشعوب الهندية الآرية، أما الذين استقروا في إيران الكبرة فعرفوا بالشعوب الإيرانية. وبسبب سلفهما المشترك فإن الدين الإيراني والدين الهندي الآربي متشابهان جدا. وبدراسة مقارنة للمجموعتين يمكن إعادة تشكيل الخصائص العامة للدين الإيراني الذي لا توثيق مباشرا له.
كانت الشعوب الإيرانية بالأصل رعاة شبه بدويين، يعتمدون في اقتصادهم على المواشي، الأبقار بشكل أساسي، وكذلك الماعز والخرفان. برعوا في تربية الأحصنة التي كانوا يركبونها ويستعملونها في جرّ العربات في الرياضة والحرب. لا يمكن تحديد مدى تزمّت مجتمعهم بدقّة. كانت الشعوب الإيرانية متخصصة في الشؤون الدينية. وكان الرجال القادرون على شراء العربات والأحصنة يعدّون قادة ومحاربين.
مع تأسيس الإمبراطورية الأخمينية، تطور قسم جديد من المجتمع أشدّ تطرفًا، وهو قسم الكهنة والنبلاء والمزارعين والحرفيين. كان المجتمع أبويا جدا، وهو ما انعكس في الدين بشكل ظاهر. وعندما استقرت الشعوب الإيرانية واستوطنت الأرض بدأت تنخرط في الحياة الزراعية الحضرية (غير البدوية). خلال هذه العملية تأثرت الشعوب الإيرانية بالسكّان الأصليين لهذه الأراضي. لا تُعرَف أديان هؤلاء السكّان مطلقًا إلا من العناصر التي بقيت في الدين الإيراني ولم يكن لها مثيل مقابل في الأديان الهندية الأوروبية الأخرى.
الكونيات
الكوزموغرافيا (تصوير الكون)
آمن الإيرانيون القدماء بكونٍ له بنية من ثلاث طبقات. تتألف هذه البنية من الأرض والجو والسماء فوقهما. فوق السماء كان عالم الأنوار غير المتناهية وتحت الأرض كان عالم الظلام والفوضى. تقع الأرض على بحر كوني اسمه فاروكارتا. في وسط الأرض جبل كوني هو جبل هارا. من هارا ينبع نهر أردفي.
وفي الأرض ستّ قارات تحيط بالقارة المركزية الوسطى. تسمى هذه القارة المركزية خفانيراثا، وهي مكان أريانا فاجياه (أرض الآريين).
الخلق
ليس في الأفستا ولا في النقوش الأخمينية كثير كلام عن الخلق فلا شيء فيهما يقارَن بملحمة إينوما إليش البابلية أو بالفصول الأولى من سفر التكوين في الكتاب المقدس. يركَّز في هذه النصوص أكثر على عظمة أهورا مزدا وقوّته، خالق السماء والأرض. كان مع أهورا مزدا الإله الهندي الإيراني ثفارشتار (الصانع). يظهر ثفارشتار باسم آخر هو سبنتا ماينو (الروح الخيّرة) في نظام زرادشت للخالدين الخيّرين. من ناحية الجوانب الخَلْقية لا يختلف ثقارشتار كثيرا عن أهورا مزدا. في الأفستا سبنتا الصغرى والغاثات يُقرَن ماينو بالشرير العدوانس أنغرا ماينو (الروح الشريرة، أهريمان بالبهلوية). في المصادر المتأخرة يقابل أهريمانَ أوهرامزد (الكلمة البهلوية الدالة على أهورا مزدا). تحتوي الأفستا على تلميحات خفية لمخلوقات روحين عدوانيين.
يقدّم بلوتارخ (في كتابه إيزيس وأوزيريس 47) أول شرح منطقي لخلق روحين للكون. يصف بلوتارخ الفارسيين أنهم يروون أساطير عن أورومازس (أي أهورا مزدا)، الذي ولد من النور، وأريمانيوس (أهريمان) الذي ولد من الظلام، يتقاتلان في حرب بينهما. هذه الفكرة الثنائية عن روحين بدئيتين، سمّاهما زرادشت التوأمين، هي مفهوم هندي أوروبي قديم. تظهر إعادة البناء أن التوأمين البدئيين الموجودين قبل خلق العالم، تصارعا. كان اسم الأول مانو (بالإيرانية، ويعني الإنسان) والثاني ياما (بالإيرانية، ويعني التوأم، وبالأفستية اسمه ييما). بعد أن قتل مانو ييما، استعمل جسمه المتفكك لتصميم العالم. استعمل لحمه للأرض، وعظامه للجبال، وجمجمته للسماء، وهكذا. في تنويعة إيرانية أخرى للأسطورة، يكون ياما هو أول بشر وأول حاكم. كان يوصَف حكمه بالعصر الذهبي الذي لا حر فيه ولا برد، ولا موت ولا شيخوخة، وهكذا. وعندما دخل الكذب في حديث ياما، انتهى هذا العصر الذهبي. ترك المجد الملكي (خفارناه) ياما، والتجأ إلى البحر الكوني. أسقط أزهي داهاكا (الثعبان داهاكا)، وهو مستبد شيطاني، ياما عن حكمه. وكان عصر داهاكا عصرا من الفوضى والجفاف والدمار. هزم أزهي البطل ثريتاونا. أسس ثريتاونا السلالة الأسطورية للحكام الكيانيين.
الأساطير
يصعب التفريق بين الأساطير التي وضعته الزرادشتية والأساطير التي ورثتها عن سلفها، ذلك أن كل مصادر الأساطير الفارسية سواء في النصوص الأهلية أو الكتاب القدماء ترجع إلى فترة بعد ظهور الزرادشتية. ومما يصعّب هذا التفريق أكثر حقيقة أن الزرادشتية تأثرت كثيرا بالأفكار التي كانت موجودة قبلها، وتبنّت بعض العناصر من الأديان الإيرانية. لم يكن للأديان الإيرانية تجميعة أساسية للأساطير، شأنها في ذلك شأن الأديان القديمة الأخرى بالعموم. فالأساطير الإيرانية أجزاء متفرقة من أساطير متنوعة جدا تتناول جميع تنويعاتها مواضيع مشتركة.
توجد تنويعة لأسطورة فُلك نوح في الدين الإيراني. يظهر فيها أن ياما هو راعي البشر وقائدهم. يحكم ياما العالم مدة طويلة، تزداد فيها الأرض ثلاثة أضعاف بسبب الاكتظاظ السكاني. يخبر أهورا مزدا ياما أن شتاءً عظيما آتيا في الأفق. وينصحه أن يبني بناء (فارا) هو كالإسطبل له ثلاثة طوابق ليجمع بذور النباتات وأزواج الحيوانات. يبدو أن فارا كان نوعا من الجنة أو الجزيرة المبارَكة، وإن كانت القصة تطورت كأسطورة أولا بين الرعاة على أنها عن بطل حضاري يبني أول حظيرة شتائية للماشية.
يبدو أن زرادشت هو أول شخصية دينية طوّرت أسطورة عن الآخرة وعن منقذٍ مستقبلي يحفظ العالم من الشر. لهذه الفكرة دور مهم في الزرادشتية. ويبدو أنها أثرت أيضا في فكرة المسيح (المسيا) في يهودية المنفى.
البانثيون (مجمع الآلهة)
كان البانثيون الإيراني شبيها ببقية الأديان الهندية الأوروبية. وجمع عددا كبيرا من الآلهة معظمها ذكور. كانت هذه الآلهة تشخّص الظواهر الطبيعية أو الأنماط الاجتماعية أو المؤسسات. يبدو أنه قد كان عندهم مجموعتان كبيرات من الآلهة الديفات والأهورات. الديفا، ويعني «السماوي» مشتق من الكلمة الهندية الأوروبية البدائية الدالة على الإله، وهو معناها في الفيدات. بين بعض الإيرانين وفي الزرادشتية كان الديفات يعدّون شياطين، ولكن هذه النظرة لم تكن محل اتفاق. أما الأهورات، وتعني «الأسياد»، فهم الآلهة النبيلة ذات السيادة. وكان نقيض الأهورات الباغا «المفرّقون»، واليازاتا «المعبودون».
كان رئيس مجمع الآلهة هو أهورا مزدا «السيد الحكيم». وكان مرتبطا بمبدأ النظام الكوني والاجتماعي الذي يسمّى في الأفستية آشا. وكان مقرّبا منه جدا أهورا ميثرا. وكان ميثرا هو الإله الذي يشرف على العهود. كان في الدين الإيراني إلهان لهما صفات حربية تشبه صفات إندرا الفيدي، هما ميثرا وفرثراغنا. أبرز الآلهة الأنثى هي سبانتا أراماتي، إلهة الأرض، وأردفي سورا، إلهة النهر المقدس.