الرئيسيةعريقبحث

الفلسفة التحليلية في مقابل القارية


الفلسفة التحليلية في مقابل القارية (الأوروبية) — Analytic versus Continental Philosophy

في الفلسفة الغربية في القرن العشرين، ثم مدرستان للفلسفة، أو فريقان: التحليلية والقارية، يصعب تحديدهما تماماً. المقصود بالقاريين هم فلاسفة "قارة" أوروبا. والتحليلية هي التي نبتت في بريطانيا في عشرينات القرن الماضي على يد رسل ومور وفتغنشتاين (في جامعة كيمبردج) وآخرين فيما سمي بالانعطاف اللغوي. ترعرعت التحليلية فيما بين بريطانيا وأمريكا، وشكل المنطق أساسها، وحصرت مسائل الفلسفة التقليدية (الماورائيات والمعرفة مثلاً) بين قوسي البحث عن المعنى وعلاقة المنطق باللغة ومعنى المعنى إلى آخر الاهتمامات التحليلية (والتي سعت دائماً إلى البحث عن جزيئات الحقيقة بالتحليل). من ذلك مثلاً أن الوضعيين اعتبروا كل جملة استدلالية (a priori) تحليلية بمعنى أنها ليست بحاجة إلى إثبات تجريبي. "إذا كان اليوم يوم أحد فإن غداً يوم الاثنين"، هذا يعني أنه إن لم يكن اليوم يوم أحد فإن يوم غدٍ ليس الاثنين، دونما الحاجة إلى أدلة علمية.

القارية تمثل فلسفات مثل الظاهراتية والوجودية والمثالية والبنيوية وما بعد البنيوية، إلخ. وفلاسفة مثل كيركجارد ونيتشه وماركس. هناك ما يربط بين هذه التوجهات فيما يشبه "التشابه العائلي". القاريون أقل اعتباراً للعلوم الطبيعية (من حيث أنها تشرح الظواهر) من التحليليين. كما قد يكون "التنوير"، بمعناه الواسع، أحد الأهداف التي يسعى إليه القاريون. التحليليون يرون أن التحليل يأتي في مرتبة تالية للعلوم الطبيعية. كما أن القاريين يرون أن الفلسفة تؤخذ في مجملها وسياقها التاريخي. عندما تصدى نيتشة لمعنى الحياة، مثلاً، لم ينظر إليه بمعزل عن الواقع والتاريخ، وضَمّن بحثه صعود العدمية ضمن السياق التاريخي. بينما يرى التحليليون أن مسائل الفلسفة تؤخذ مجردةً كما هي بلا اعتبارات لموضعها وماضيها. والقاريون يجدون في الفلسفة منطلقاً إلى الخلاص الشخصي، كما في الوجودية والماركسية، وأن التأمل طريق إلى الوصول المعرفة والحقيقة وليس العلم التجريبي فحسب. كما أنك، مثلاً، لن تجد حلولاً في العلم التجريبي للمسائل الوجودية. الأمر الذي حدى بالتحليليين أن ينتقصوا من القاريين لفقدانهم للدقة والصرامة العلمية.

بالمقابل، فإن قاريين من أمثال دريدا وفوكو يرون أن التحليل المنطقي يفتقر إلى الدور الخلاق للخيال الفكري. وأن ما يمكن للتحليل أن يفسره هو ما هو موجود ضمنا في المفهوم الذي نبدأ به (أي أنه لا يضيف شيئاً). ولا تشغل التحليلية نفسها كثيراً بأمور الأخلاق والجمال والخير إلى آخر الاهتمامات الفلسفية التي قد يبديها الجانب الآخر. كما لا تشغل التحليلية نفسها بالتقاليد الفلسفية ولا بالتنظير الفلسفي.

إنك تجد مثلاً أن الفلاسفة القاريين أشد نشاطاً في قضايا المجتمع، فالفلسفة تطبيق والقضايا الحياتية قضايا فلسفية والنقد من أهم أدوار الفيلسوف في المجتمع (دريدا وفوكو مثلاً). وحتى أنشطة رسل (ضد الأسلحة الذرية والحروب والإمبريالية ودخوله السجن بسبب أنشطته الداعية إلى السلام) إنما كانت بمعزل عن فلسفته (المنطق والتحليل). فالقاريون لا يعيرون الصورة الصغيرة العناية الكبيرة، كما لدى التحليليين الذين يعرضون كل كلمة إلى التفكيك.

الإنجليزية كانت الأرض الخصبة للتحليلية، التي جاءت كرد فعلٍ على المثالية. أشار رسل إلى ذلك بقوله أنه منذ جون لوك (إنجليزي، 1632- 1704) أصبح للفلسفة مدرستان: القارية (خاصة الفرنسية والألمانية) والبريطانية (أو الأنجلو-أمريكية). في سبعينات القرن الماضي بدأت موجة من "التلاقح" في جامعات الفريقين. ثم نقاش مشهور بين جاك دريدا (القاري) وجون سيرل (التحليلي)، يتهم فيها الأخير الأول بالغموضية ويتهم الأول الأخير بالسطحية! تشومسكي، عالم اللغة المعروف والذي يعتبر نفسه من المدرسة التحليلية يشارك سيرل رأيه. عندما يُسأل تشومسكي عن دريدا وفوكو ولاكان، والذي يشير إليهم بطائفة ما بعد الحداثة يجيب بأنه يحار في الجواب لأنه عندما يقرأ لهم لا يفهم إلا ثرثرةً وهذياناً (gibberish).

من الأمور التي لا تسمح بتقسيم الفلسفة كما في الأعلى بخطوط جغرافية صريحة هو أن من أهم الفلاسفة التحليليين من هم أوروبيون قارةً، مثل فريغه وكارناب ومدرسة الوضعية المنطقية)، وأن بعض أقوى مراكز الفلسفة القارية تجدها في أمريكا. تفسير بعض هذه الأمور يعود إلى أنه ببروز النازيين رحل فلاسفة كثيرون، خاصة من يهود ألمانيا مثل ثيودور أدورنو وحنة آرنت وليو شتراوس، من أوروبا إلى الولايات المتحدة، ومن ثم بدأوا باستخدام الأدوات الجديدة في الفلسفة: المنطق الصوري وتحليل اللغة. من التلاقح أيضاً، أن القاريين تبنوا مفهوم الوضوح والدقة الذي رفع التحليليون شعاره (كما لدى هوسرل صاحب الظاهراتية). وهذا الأخير، وإن كان محسوباً على القاريين، إلا أنه كان من أشد الداعين إلى الوضوح والدقة والصرامة العلمية في وصف الظواهر (الخبرات الذاتية). وقد لا يستغرب الأمر إذا ما عرفنا أن التكوين العلمي لهذا الأخير كان في مجالي الرياضيات والمنطق.

وفي العالم العربي كان للفلسفة القارية نصيب الأسد. ربما للقرب الجغرافي لأوروبا أو ربما لأن القارية تشغل نفسها بأمور الإنسان والوجود والخلاص، وهذه أمورٌ حياتية تثير اهتمام المواطن العربي الرازح إما تحت الاستعمار (في القرن الماضي) أو تحت ظروف اجتماعية وسياسية صعبة. ذلك، في الوقت الذي قد تبدو التحليلية للمثقف العربي كترفٍ فكري للممارسة الأكاديمية فحسب. فضلاً أن القارية، في أحيان كثيرة، سهلة المنال ومثيرةٌ (قصص تولستوي الذي استخدمه الوجوديون في كتاباتهم مثلاً!)، وليست جافة ومتطلبة مثل التحليلية. وقد تكون التطورات الأخيرة في القارية على يد فوكو ودريدا وجيجك وآخرين مبعثاً لتثبيط بعض الهمم الثقافية العربية (مثلما أثبطت قمةً معرفيةً مثل تشومسكي) نظراً لصعوبتها النوعية هي الأخرى.

ألان بادو، أحد أهم الفلاسفة القاريين الحاليين، ألف كتاباً سماه "لافلسفة فِتْغِنْشتاين" (L'Antiphilosophie de Wittgenstein (2009. يضمن بادو  فتغنشتاين في قائمة اللافلاسفة (فلاسفة ضد الفلسفة) والتي تشمل سقراط وباسكال وكيركجارد وروسو ونيتشه ولاكان (والذي منه استعار بادو مصطلح اللافلسفة) وآخرين، كما أنه يعتبر اللافلسفة نوعاً من السفسطة (وهو، كما يقول، يحترم فتغنشتاين كذلك).    كما أنه لا يعطي كتاب تحقيقات قيمة كبيرة: "لا أحب هذا الكتاب الآخر، وحتى إنني لا أحب أكثر من ذلك ما قد أصبح الكتاب: الضمان اللاطوعي غير المستحق للفلسفة النحوية الأنجلو-أمريكية، والذي هو سكولاستية [مثل علم الكلام عند المسلمين] القرن العشرين، المبهر لطغيانه المؤسساتي والمناقض لكل ما رامه فتغنشتاين الصوفي، الذويق (للأدب والجمال)، الستاليني الروحانية."

موسوعات ذات صلة :