الكتاتيب في جبل عامل قديمة جدا، وتعود بتاريخها إلى زمن موغل في القدم، وقد انتشرت بشكل كبير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ميلادي، حيث تكاثرت حتى وُجد في كل قرية أو دسكرة كتّأبا أو أكثر[1].
ويرتبط ظهور الكتاتيب في جبل عامل بانتشار رجال الدين فيه، حيث أنّ الكتاتيب الأولى التي أنشئت كانت برعاية هؤلاء الرجال أو من يدور في محيطهم أو من يتخرّج عليهم.
وكانت الكتاتيب في عهدها الأول تقتصر على تعليم القرآن الكريم وبعد ذلك تم زيادة تعليم القراءة والكتابة ومن ثم أضيف على المواد المقرّرة مبادئ الحساب لحاجة الناس إليها.
بين الكتاتيب والمدارس الدينية
الكتّاب هو المرحلة الأولى والتمهيدية التي يجب على الطالب اجتيازها في مراحل التعليم القديم في جبل عامل، حيث يجب عليه اتقان قراءة القرآن بالإضافة إلى تمكّنه من القراءة بشكل عام والكتابة بالإضافة إلى إلمامه بمبادئ الحساب.
فإذا أتمّ الطالب هذه المرحلة واجتازها، اجتمع أهله وأصدقاؤه وأقاموا له حفلا، يقدّمون لشيخه في الختام هدية وغالبا ما تكون عبارة عما تيسّر من المؤونة أو الزبيب أو التمر أو التين[2].
وإتمام هذه المرحلة كانت تخوّل النابهين من الطلاب الالتحاق بالمدارس الدينية للتعمّق بدراسة العلوم القرانية والفقه وعلوم اللغة والنحو والصرف والمنطق وغيرها من العلوم.
وإذا كانت الكتاتيب منتشرة في كل أرجاء جبل عامل، فإن المدارس الدينية كانت معدودة ويرتبط وجودها وسيرورتها بوجود عالم دين مجتهد مشهود له بالعلم.
مشايخ الكتاتيب
لمّا كانت الكتاتيب مرتبطة بأصل نشوئها برجال الدين، أطلق على المعلّم فيها لقب (الشيخ) وإن كان هذا المعلّم ليس من أهل الفقاهة، وهذا شأن الغالب منهم.
فطلّاب المداس الدينية إن تابعوا تحصيلهم العلمي أصبحوا من العلماء العاملين في التدريس بالمدارس الدينية والتبليغ بين الناس والقضاء بينهم، وإن هاجروا للاستزادة من العلوم في النجف أضحوا من المجتهدين والمؤلفين.
أما إذا توقّف الطالب عن التحصيل في مرحلة مبكّرة من الدراسة في المدارس الدينية، فإمّا أن يكتفي بالالتحاق بإحدى الوظائف التي تتطلب منه معرفة بالكتابة والقراءة، وإما أن يفتتح له كتّأبا في إحدى القرى لتعليم الأولاد فيها ويكتسب عيشه من هذا العمل.
وغالبا ما كان يتولى أمر الكتاتيب من لا يحسن التعليم[3]، فنصف الدرس ضرب ونصفه الآخر ضغط، أما التوجيه فقد كان معدوما، وكان الطالب يقضي الدرس في الكتّاب وكأنه في السجن.
مكان الكتّاب
وفي البدايات، كان الكتّاب جزءاَ من المسجد، وكان إمام المسجد في الغالب هو من يقوم بهذه المهمة. وبعد ذلك أصبح غالبا ما يكون مكان الكتّاب هو نفسه بيت المعلّم أو الأستاذ، وفي بعض الأحيان كان في الهواء الطلق تحت الشجرة أو قرب عين الماء أو الجدول. ولم يكن للكتّاب بناء خاص كالجامع أو المدرسة الحديثة، بل غرفة في بيت يجتمع فيها الطلاب لتلقّي العلوم.
أدوات التعليم
كانت الكتاتيب تعلّم الجروف الهجائية ثم القران الكريم ومن ثم الكتابة على اللوح.
في البدايات كان الطلاب يكتبون الدرس على رقائق من الحجارة البيضاء، وهو بمثابة كراس للطالب حالياً، وكان يُكتب عليها بالفحم، واستخدمت بعد ذلك الألواح الخشبية المطلية، ومع ظهور الأصباغ تطورت هذا الألواح، وطليت باللون الأسود، وكان يكتب عليها بالطباشير من الحجر الجيري، وبعد حفظ الدرس وإتقانه كان يمسح اللوح بخرقة من القماش.
وفيما بعد أصبح اللوح مصنوعا من التنك (نوع من المعدن الرقيق)، حيث يعمل السمكري على صناعة أربعة ألواح من تنكة الكاز (صفيحة الكاز) يبتاعها الطلاب للكتابة عليها. أما القلم فكان عبارة عن قلم غزّاز، والمدد (الحبر) كان من الحجر الكلسي (الفـِرس) حيث يُنقع الكلس بالماء ليذوب ويُغط القلم بهذا المزيج ويكتب الطالب على اللوح. وفي مرحلة لاحقة استعمل الطلاب الريشة وغالبا ما كانوا يستعملون ريشة رقم أربعة (نمرو 4)
وكان الأستاذ يكتب العبارة على لوحه المعلّق على الحائط قبالة الأولاد، وغالبا ما كان يكتب لهم عبارة فيها حكمة أو بيتا من الشعر يسمونه القاعدة، والطلبة من بعده يكتبون على ألواحهم نظير ما خطّه الأستاذ، حتى إذا امتلأ اللوح يحمله الطالب إلى المعلّم لمعاينته، فإذا كان الخط جيدا والنقل صحيحا قال له (عفارم) وإلا فعلى كل غلطة ضربة بالعصا أو القضيب على اليد[4].
كان الطفل يحمل معه إلى كتّاب القرية كيسا من القماش أو الخيش مربوطا من طرفيه بحزام رفيع ليعلق الطفل الكيس في رقبته أو كتفه، ويحوى هذا الكيس في العادة المصحف أو أجزاء منه، كما يحمل الولد معه بعض الاوراق إن تيسّر له ذلك.
أنظمة الكتاتيب
للكتاتيب أنظمة ثم توارثها وأصبحت بحكم القوانين ومنها[5]:
- القصاص مسموح، والمعلّم لا يُحاسب إذا ضرب أو عاقب طالبا، ومهما بلغ في ذلك من الشدة فهو معذور.
- تُخلع الأحذية خارج الكتّاب قبل الدخول.
- الدوام من الساعة الثامنة صباحا وحتى وقت الزوال (أذان الظهر)
- العطلة الاسبوعية كانت فقط يوم الجمعة.
- يتخرّج الطالب من الكتّاب عند ختمه للقران قراءة.
- يُراعى في الجلوس داخل الكتّاب الطبقات الاجتماعية للطلاب، فأولاد الأفندية في المقدمة، ويليهم أولاد الموظفين وبالأخير يجلس أولا الكادحين والفلاحين.
- يتقاضى المعلم أجرا عينيا لتعليم الأولاد، وقد يكون من القمح أو الذرة أو الخبز أو البيض. وقد يكون نقديا إذا كان والد الطالب موسراً.
- لم يكن الشيخ ليعلم الأولاد الجدد، بل كان الكبار يعلمون الصغار، وكان الشيخ يراقب ويوجه الطلاب الكبار، ويتدخل عند اللزوم فقط.
طلاب الكتاتيب
ضمّت الكتاتيب مختلف الطبقات الاجتماعية، وغالبهم كانوا من الذكور، أما الإناث فلم يكن لهنّ نصيب من التعليم ما خلا بنات الأفندية وبنات كبار الموظفين، حيث أن تعليم البنات في تلك الأزمنة كان يعتبر من الوجاهات والترف عند هذه العوائل.
أنواع القصاص
ينقل السيد محسن الأمين [6] وصفا للكتّاب واساليب القصاص فيه، فيقول:
" | الفلقة معلّقة في الحائط فوق رأس المعلّم وهي خشبة بطول ثلاثة أشبار تقريبا مثقوب طرفاها وفيها حبل دقيق يوضع فيها الساقان وتشدّ عليهما وعنده عصوان طويلة وقصيرة والأطفال جلوس إلى جانبه فإذا غضب المعلم على واحد لذنب هو من الصغائر وهو قريب منه تناوله ضربا على رجليه بالعصا القصيرة فإن كان بعيدا عنه ضربه عليها بالعصا الطويلة وإذا غضب على الجميع تناولهم بالضرب على أرجلهم بالعصا الطويلة..... وإذا غضب المعلم على واحد لذنب هو عنده من الكبائر كان يهرب فرارا مما يلاقيه، ارسل المعلم الأطفال الكبار ليأتوا به..... فيضعونه امام المعلم فيأمرهم ان يلقوه على ظهره ويرفعوا رجليه ثم يتناول الفلقة ويضع رجليه بين الحبس والخشبة ويفتل الخشبة حتى يقبض الحبل على رجليه قبضا شديدا ويمسك بأحد طرفي الخشبة واحد قوي من التلاميذ وبالطرف الآخر مثله ثم ينهال المعلم ضربا على رجليه بعصا دقيقة أو قضيب | " |
.
أما السيد حسين شرف الدين فيزيد عليه بنوع آخر من القصاص المعنوي[7]، إذ كان المعلّم يعاقب بعض الطلبة بتعليق مشكاك القباقيب (نوع من الاحذية) في عنقه، أو أن يضع على صدر المقاصص صورة مرسومة للحمار.
وكان ابتياع الطلاب لما تنتجه الحاجة (زوجة المعلّم) من حلوى يساعدهم على نيل شفاعة الأستاذ أو يخفف عنهم العقاب أو القصاص.
الصراع بين الكتاتيب والمدراس الرسمية
ابتدأت المدارس الرسمية بالظهور في جبل عامل في أوائل القرن العشرين، وكانت غالب العوائل العاملية تستنكف عن وضع أولادها في هذه المدارس خشية الانحراف، وكانت غالب المدارس الرسمية تقتصر في هيئتها التعليمية على معلم منفرد واحد وفي احسن الأحوال قد يصل العدد إلى أستاذين.
مع مجيء الانتداب الفرنسي، أخذوا يشجّعون المدارس الرسمية بوجه الكتاتيب، حيث كانت هذه المدارس تعاني من ندرة الطلاب فيها. فمثلا في بنت جبيل كان هناك ما يقارب سبعة كتاتيب، يضم أحدها حوالي مئة طالب (بينهم 20 فتاة) بإدارة الشيخ علي شرارة، وباقي الكتاتيب كانت تضم ما لا يقلّ عن 30 طالبا. وكان في بنت جبيل مدرسة رسمية واحدة لم تستطع استقطاب هذا العدد من الطلاب.
في مطلع الأربعينات من القرن العشرين بدأ الفرنسيون سياسة جديدة في التعليم، وتشددوا في ملاحقة الكتاتيب ومشايخها، وسيّروا دوريات من الشرطة والدرك برفقة مدارء المداس الرسمية لإقفال الكتاتيب، بحجة عدم أهليتها وعدم استحصالها على ترخيص من وزارة المعارف، وكانوا يقتادون طلابها إلى المدرسة الرسمية لرفدها بالعدد المناسب من الطلاب.
وقد افلحوا في إقفال العديد منها، وفي بدايات الخمسينيات من القرن العشرين، كانت غالب الكتاتيب قد أقفلت أبوابها، وغالب المعلّمين فيها قد التحقوا في المدراس الرسمية، كذلك الطلاب لمواكبة متطلبات الحياة الجديدة في جبل عامل بعد الاستقلالرعن الفرنسيين.
المراجع
- كتاب موسى الزين شرارة - تأليف إحسان شرارة - صفحة 121.
- كتاب موسى الزين شرارة - تأليف إحسان شرارة - صفحة 87
- من دفتر الذكريات الجنوبية - علي الزين - إصدار المجلس الثقافي للبنان الجنوبي - صفحة 36
- كتاب موسى الزين شرارة - تأليف إحسان شرارة- صفحة 87
- مجلة الأمّة - السيد حسين شرف الدين - عدد3 - 1شباط 2001
- أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين - الجزء التاسع - ترجمته لنفسه
- مجلة الأمة - العدد 3 - 1 شيباط 2001 - السيد حسين شرف الدين