الأرمينيون التورانيون : تذكر هذه البلاد لأول مرة في سفر التكوين (8 : 4) فعلي أحد جبالها " أراراط " استقر فلك نوح، وثم ذكرها سرجون الأول ملك " أكد " حوالي 3800 ق.م.[1][2][3] بين البلاد التي فتحها. وفي الأساطير البابلية القديمة تبدو أرمينية كبلاد بعيدة مجهولة في الشمال، تغطيها الجبال العالية والغابات الكثيفة، وفيها المدخل إلى العالم السفلي (كانت تسمى البلاد التي لا عودة منها)، وعلى حدودها يرتفع جبل " نيزير " الذي تقطنه الآلهة والذي عليــه استقرت سفينة " ست - نابستيم "، " وجبل العالم " هذا هو جبل " جودي " جنوبي بحيرة " فان ". ثم جاء العصر الفرعوني، وبعد أن انتصر تحتمس الثالث في السنة الثالثة والعشرين من ملكه (حوالي 1458 ق. م) على بلاد النهرين وليديا، قدم له رؤساء أرمينيون وغيرهم فروض الطاعة.
ومما يستلفت النظر أن يذكر منذ هذا التاريخ المبكر، اسمها الذي ما زالت تعرف به. ويذكر تحتمس الثالث أن شعب " أرمنين " دفع له الجزية عندما كان يقيم في نينوى، ويقول إنه في بلادهم " تستقر السماء على أعمدتها الأربعة ". وفي بهو سيتي الأول في معبد الكرنك، نرى رجالاً أرمينيين يقطعون الأشجار ليفتحوا طريقاً وسط غاباتهم أمام جيوش ذلك الملك. والأرجح أن رمسيس الثاني في حربه ضد " خيتاشيرى " ملك الحثيين، قد غزا أرمينية. ويذكر رمسيس الثالث عدداً كبيراً من البلاد التي فتحها والمنقوشة أسماؤها على جدران مدينة هابو، والمعتقد أنها كانت في أرمينية. كما غزا الملك الأشورى " يورسبال - أشور " (حوالي 1190 - 1170 ق. م) أرمينية ويضف المنطقة الوسطى (أورارطو الأصلية بالقرب من بحيرة فان) بأنها بلاد " ألمانا " (مني المذكورة في إرميا 51 : 27) " ونهري " (أي الأنهار) وأشكوزا (أشكناز) الخ. ثم غزاها أيضاً " تغلث فلاسر الأول " (حوالي 1110 - 1090 ق. م). وفي 883 ق. م. زحف " أشور ناصر بال " إلى أورارطو، ثم يذكر أن الأرمينيين كانوا يقدمون له في الجزية المركبات والخيل والبغال والفضة والذهب والأطباق النحاسية والثيران والغنم والخمر والثياب المبرقشة والأنسجة الكتانية. وكم من مرة ذهب إليها بالنار والسيف، ولكنها كانت تعود كل مرة إلى العصيان. واستمرت الحرب سجالاً في أيام شلمناصر الثاني (860 - 825 ق.م) وعلى امتداد قرون بعده، فقد اتحد الأرمينيون وأسسوا مملكة قوية (بزعامة " البيناش " حول بحيرة فان) فاستطاعوا المقاومة. وفي سنة 606 ق. م. كان لهم دور في تدمير نينوى، ثم في تدمير بابل فيما بعد. ويصف شلمناصر الثاني القوارب المجدولة من الأغصان الطرية والتي تمخر عباب بحيرة فان. والصفائح البرونزية التي اكتشفت في " بالاوات " تصور الأرمينيين في ثياب شبيهة بثيـاب الحثيين (الذين خضعوا لهم في بعض الأحيان) في أردية قصيرة مشدودة عند الخصر، وأحذية للجليد محددة ومرفوعة في مقدمتها، كما يلبسون خوذات وسيوفا وحراباً وتروساً مستديرة صغيرة. ويقول سايك إن وجوههم شبيهة بالوجوه الزنجية، ومن المحتمل أنهم كانوا منغوليين.
مؤسس مملكة البيناش هو " ساردوريش الأول " حوالي 840 ق. م. وشيد عاصمته توشباش (وهي فان حالياً)، وقد حكم معظم أرمينية ودافع عنها ضد الأشوريين، ويبدو أنه سدد ضربة قوية لشلمناصر الثاني في سنة 833 ق. م وأدخل الحروف المسمارية، واستخدم اللغة الأشورية في كتاباته الأثرية. وقد أدخل ابنه " ايشبوينش " الأبجدية المقطعية الأشورية، وهي تشبه الجورجانية من بعض الوجوه. وجاء بعده الملك منواش وترك كتابات أثريه في كل نواحي أرمينية تقريباً، ذكر فيها انتصاراته على الحثيين وغيرهم.
وقد بلغت مملكة البيناش أوج مجدها في عهد الملك " ارجشتيش الأول " الذي نجح في صد هجمات شلمناصر الثالث (783 - 772 ق.م) على بلاده، ولكن في عهد ابنه سحق تغلث فلاسر الرابع (748 - 727 ق. م) الأرمينيين في معركة فاصلة بالقــرب من " كوما جين " في 743 ق. م. وقد فشل " فول " في الاستيلاء على فان في 737 ق. م، ولكنه خرب البلاد طولاً وعرضاً. وبدأ " روساشن الأول " على رأس الاتحاد الأرميني صراعاً عنيفاً في 716 ق.م مع سرجون (722 - 705 ق. م) الذي استطاع في 716 ق. م أن يستولي على فان ويأسر عائلة روساشن الذي ظل هارباً شريداً خمسة أشهر، انتحر في نهايتها، ولكن أخاه ارجشتيش الثاني استطاع - إلى حد ما - أن يستعيد استقلال بلاده. وقد آوى خليفته أريميناش أدرملك وشرآصر ابني سنحاريب عندما هربا إليه بعد أن قتلا أباهما سنحـاريب (680 ق. م - 2 مل 19 : 37، إش 37 : 38)، وعندما حاولا غزو أشور في نفس السنة، هزمهم آسرحدون الأول هزيمة نكراء. وقد خرب الكيمرانيون (679 - 677 ق. م) أرمينية من نهر كورش إلى جنوبي بحيرة فان، وقد خضع روساشن الثاني (حوالي 660 - 645 ق. م) وابنه اندوريش الثالث (حوالي 640 ق. م). أو بعدها بقليل) لأشـور بانيبال (668 - 626 ق. م). وافتخر نبوخذ نصر (604 - 561 ق. م) بأنه قد وصل إلى فان في فتوحاته، مع أنه يبدو أن الأرمينيين كان لهم يد في تخريب نينوى في 606 ق. م. ويذكر النبي إرميا (51 : 27) ممالك أراراط ومني وأشكناز (حوالي 595 ق. م) وأنها ستعاون في القضاء على بابل (في 528 ق. م) إذ يبدو أن كورش كان قد أخضعهم أو ضمهم إلى جانبه بعد استيلائه على إكبتانا (أحمثا، في 549 ق. م). ثم حل الأرمينيون الآريون شيئاً فشيئاً محل التورانيين.
كان الإله الأعلى للأرمينيين التورانيين هو " هالدش " الذي كان أباً لسائر الآلهة، وكانوا يطلقون على أنفسهم : " أبناء هالدش العظيم " فقد كان هو " وتشباش " إله الجـو، " وأردينيش " إله الشمس، يكونون " مجمع الآلهة العظام " كما تذكر أسماء " أيوش " إله الماء و" أياش " إله الأرض، و" شلاردش " إله القمر، " ساردش " إله السنة، واثنين وأربعين إلهاً آخرين. وكانت " سارى " هي الآلهة الانثي (بالمقابلة مع إشتار) كما كانت العبادة تقدم لأرواح الموتى.
الأرمينيون الأريون
إن أسلاف الأرمينيين الحاليين (الذين يسمون أنفسهم " الهايك " أو " السادة ") لعلهم استقروا في تلك البلاد في القرن الثامن قبل الميلاد، إذيذكر سرجون ملكاً على جزء من أرمينية كان له اسم آري : " بجاداتي " (ثيودور) وقد جاءوا من فريجية (كما يقول هيرودوت)، وكانوا يرتدون الملابس والأسلحة الفريجية، ويتحدثون باللغة الفريجية. ويطلق عليهم في الكتاب المقدس اسم: " بيت توجـرمة " (تك 10 : 3، 1 أخ 1 : 6، حز 27 : 14، 38 : 6) وأشكناز (تك 10 : 3، 1 أخ 1 : 6، إرميا 51 : 27 - وهم الأشكوزا في الأشورية) وهكذا يسميهم أيضاً مؤرخوهم في العصور المتأخرة. ويذكر زينوفون أن الميديين قد فتحوا أرمينية. كما يذكر استرابو أنهم يرتدون الثياب الميدية، ومع ذلك فإن فتيات أرمينية لم يستطيعوا فهم مترجم زينوفون الفارسي. وثلاثة من الأربعة الأرمينيين الذين ذكرهم داريوس لهم أسماء آرية. وقد انضم الأرمينيون إلى القائد الميدي " فرافارتش " في عصيانه ضد داريوــس الأول (519 ق. م). وقد استمرت الحرب في أرمينية حتى سلمت في النهاية (517 ق. م) وأصبحت تكوّن الولاية الثالثة عشرة في مملكة داريوس. ثم انقسمت بعد ذلك إلى ولايتين (هما أرمينية الكبرى وأرمينية الصغرى). وكان الحكم في أرمينية وراثياً في أسرة " ويدارنا " (أو هيدارنس) لمعاونتهم في القضاء على فرافارتش. وقد وصف زينوفون البلاد وسكانها وقسوة الشتاء فيها. ويروي هيرودوت أن الأرمينيين كانوا ينقلون الخمر وغيره في زقاق من الجلد على قوارب مصنوعة من الأغصان المجدولة، إلى بابــل.
يقول زينوفون إنهم والكلدانيين كانوا يتجرون مع الهند. كما يذكر استرابو قوافلهم التي كانت تخترق أواسط آسيا، وكان على والي فان (مرزبان أرمينية) أن يقدم سنوياً 20.000 من الخيول الصغيرة لملك فارس في العيد الكبير للإله ميثرا. كما خدم عدد كبير من الجنود الأرمينيين في جيش جزركسيس عند غزوه لبلاد اليونان، واشترك منهم 40.000 من المشاة، و 7.000 من الفرسان في معركة" أربــلا " (331 ق. م)، وقد أصبحت أرمينية جزءاً من إمبراطورية الإسكندر الأكبر، ثم جزءاً من دولة السلوقيين (301 ق. م) تحت حكم مرزبان أرميني اسمه "أرتواسدس "، ثم ثارت أرمينية بعد انهزام أنطيوكس في مغنيسيا (190 ق. م) وشجع الرومان الواليين على إعلان نفسيهما ملكين، وقد استخدم " أرتكسياس " ملك أرمينية الكبرى، ما قدمه له هانيبال من معونة في تحصين عاصمته أرتكستا (189 ق. م). ولكن انطيوكس أبيفانس خلع ارتكسياس في 165 ق. م، ولكنه أعاده للملك بعد أن أقسم يمين الولاء له، وقد أعقب ذلك اضطرابات مدنية، فقد استدعى النبلاء البارثيين في عهد الملك " ميثريديتس الأول " (150 ق. م) الذي صار سيداً لكل الإمبراطورية الفارسية، فعين أخاه " فالارسيس " ملكاً على أرمينية، وبذلك بدأ حكم الأسرة الأرساسية، الذي استمر حتى سقوط الامبراطورية البارثية (226 بعد الميلاد). وكان ملوك أرمينية يعتبرون الملوك البارثيين سادتهم.
أعظم ملوك أرمينية كان الملك " تجرانس الأول " (96 - 55 ق. م) فقد كان جندياً بارعاً استطاع أن يستعيد لأرمينية مكانتها السابقة في آسيا، وقــد أذل البارثيين، وانضم إلى ميثريديتس السادس في حربه ضد الرومان، وحكم سوريا لأكثر من أربع عشرة سنة، وبنى عاصمة له " تجرانوكرتا " بالقرب من ماردين، واتخذ له اللقب الأشوري الفارسي " ملك الملوك "، وقد هزم " لوكولوس " " تجرانس " في 69 ق. م. ودمر عاصمته " تجرانوكرتا "، وقد خضع تجرانس لبومبي بالقرب من أرتاكستا " 66 ق. م) ودفع 6.000 وزنة ليحتفظ بأرمينية فقط. وفي أيامه ازدهرت الفنون والآداب اليونانية في أرمينية، وأصبحت أرمينية - الخاضعة لروما - دويلة حاجزة بين الأمبراطوريتين الرومانية والبارثية. وقد انضم ابن تجرانس وخليفتــه " أرتواسدس " إلى البارثيين في غزوهم لســوريا بعد هزيمة كراسوس في سيناكا (53 ق. م)، وسبب بخيانته خسارة كبيرة لجيش أنطونيوس في 36 ق. م، فأخذه أنطونيوس مكبلاً بالأغلال إلى مصر حيث أمرت كليوبترا بقتله في 32 ق. م. وقد ظلت أرمينية طويلاً بعد ذلك خاضعة لروما، عندما لم تستطع أن تنضــم إلى البارثيين. وقد عانت كثيراً من الشد والجذب والمكايد بين القوتين. ولا يوجد دليل على القصة الأرمينية المتأخرة من أنها كانت خاضعة لأبجاروس ملك إدسا (الرها) في حياة الرب يسوع المسيح على الأرض، وأن تداوس الرسول قد كرز بالإنجيل هناك، وإن كان ليس ثمة ما يمنع من صحة الجزء الثاني من القصة. وفي 66 بعد الميلاد، هزم تريداتس الأخ الأكبر لملك بارثيا وولوجيزس الجيوش الرومانية بقيادة بوتوس، وذهب براً إلى روما حيث خلع عليه نيرون حلة ملكية، وهكذا حل السلام بين روما وبارثيا، وظلت أرمينية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببارثيا إلى أن جاءت حملة تراجان في 116 بعد الميلاد.
الديانة الأرمينية الأرية
وهي تشبه الديانة الفارسية إلى حد بعيد، وإن كانت لم تعترف بزرادشت وديانته الثنائية، ومن هنا نستطيع أن ندرك مدى ارتباط " الأفستا " (كتاب الزرادشتيين المقدس) بإصلاح زرادشت. كان " أرامازد " (أهو رامازدا) خالق السماء والأرض هو أبو جميع الآلهة العظام، وكانت زوجته سباندارامت " (سبنتا أراميتي) آلهة الأرض، التي اعتقدوا - بعد ذلك - أنها تسود على العالم السفلي، وكان بين معاونيها الجنيان هاروت وماروت الإلهين الحارسين لجبل ماسيز (الذي يطلق عليه حالياً " أراراط ")، ويبدو أن عبادة أرامازد قد تضاءلت لتحل محلها عبادة آلهة أدني، وكانت من أهمهم ابنته " أباهيت " التي بنيت لها معابد في أماكن كثيرة، وكانت كثيراً ما تصنع تماثيلها من المعادن النفيسة، وكان يطلق عليها الكثير من الألقاب مثل " الأم الذهبية "، " آلهة التمثال الذهبي "، وكانت تقدم لها أبقار بيضاء وأغصان خضراء باعتبارها " آلهة الخصب والإثمار "، كما لم تخل عبادتها من الدعارة الدينية. وكانت تليها في الأهمية أختها " أستغيك " (أي النجمة الصغيرة) أو كوكب الزهرة آلهة الجمال، زوجة البطل المتأله " واهان " الذي قفز من السماء والأرض والبحر، وقضى على التنانين وغيرها من الكائنات الشريرة. وكانت " نانا " أختا أخرى لهما، وقد أصبح اسمها فيما بعد مرادفاً لاسم " أثينا " وكان رمز أخيها " مهر " أو (مثرا) الشمس في السماء، والنار المقدسة على الأرض، وكان كلاهما موضوعين للعبادة، وكانت النار توقد في معابده مرة كل سنة. وكان رسول أرمازد وكاتبه هو " تير " الذي يسجل أفعال الناس في كتاب الحياة، ويقود الناس بعد الموت إلى أرمازد للدينونة، كما أنه يكــتب " قدر " الناس على جباههم من قبل مولدهم. وموضع العقاب هو " دوزاخ ". وكانت الذبائح تقدم للشمس والقمر على قمم الجبال، كما كانت تقدس الأنهار والينابيع والكثير من الأشياء الطبيعية، وكانوا يصلون ووجوههم إلى الشرق. كما كانوا يستطلعون الغيب من حركات الأوراق في غابة "سونا " المقدسة. وكانت " أرماوير " هي العاصمة الدينية.
ومن بين الكائنات الروحية الأدنى، كان " أرلزخ " الذي كان يلحس جراح المقتولين في المعركة ليعيد لهم الحياة. وتتحدث الأساطير الأرمينية عن تنانين ضخمة تظهر أحياناً في شكل الناس، وأحيانا في شكل ديدان أو زحافات خرافية، وعفاريت وثيران بحرية، وأسود ضخمة … الخ. وكانوا يعتقدون - كما كان الأمر نفسه في فارس - أن الشياطين تصنع سهاماً من قلامات أظافر الإنسان لتؤذيه بها، لذلك كان يجب تخبئة هذه القلامات مع الأسنان وقصاصات الشعر في مكان مقدس.
الروابط الخارجية
مراجع
- "Encyclopedia of Global Studies". مؤرشف من الأصل في 04 أغسطس 201726 ديسمبر 2014.
- Hovannisian, Richard G. (1996). The Republic of Armenia, Vol. IV: Between Crescent and Sickle, Partition and Sovietization. Berkeley, CA: University of California Press. صفحات 40–44. . مؤرشف من الأصل في 11 يناير 2020.
- The History of Armenia, Book 1, Ch. 12 (بالروسية) نسخة محفوظة 23 يناير 2018 على موقع واي باك مشين.