كانت الدواوين تستخدم اللغة العربية منذ إنشائها، ما عدا دواوين الخراج، التي كانت تستخدم اللغات الأجنبية، حيث كان ديوان الخراج في العراق يعمل باللغة الفارسية، وفي الشام ومصر باللغة اليونانية، وظل هذا الوضع قائما إلي أواخر عهد عبد الملك بن مروان 65 ـ 86 هـ الذي رأي أن إبقاء أهم ديوان من دواوين الدولة، وهو ديوان الخراج، المهيمن علي الشؤون المالية يستخدم لغات غير عربية أمر شاذ، ويجب إنهاؤه، وإذا كانت الضرورة قد فرضت عند نشأة الدولة الإسلامية، لقلة خبرة العرب المسلمين بشؤون المال والجباية من ناحية ولانشغالهم بالجهاد والفتح من ناحية ثانية، فإن تلك الضرورة قد زالت وظهر في العرب ومواليهم مهرة في هذه الأمور، كما أن الدولة استعادت وحدتها وتخلصت من كل مناوئيها وبدأت تشهد عهد أمن واستقرار، لذلك قرر عبد الملك تعميم استخدام اللغة العربية في دواوين الخراج، وأمر بترجمتها فكلف سليمان ابن سعد الخشني الذي كان يتقلد له ديوان الرسائل وكان يجيد اللغة اليونانية، بنقل ديوان الشام إلي اللغة العربية، فنقله في عام كامل، وقد أعطاه عبد الملك خارج الأردن لمدة عام كامل مكافأة له، مما يدل علي أهمية هذا العمل واهتمام الخليفة بإنجازه.
ديوان العراق
فقد أمر الحجاج بن يوسف كاتبه صالح بن عبد الرحمن بنقله من الفارسية، واستمرت عملية التعريب بعد عهد عبد الملك فترجم ديوان مصر في ولاية عبد الله بن عبد الملك بن مروان 85 ـ 90 هـ وديوان خراسان في ولاية نصر بن يسار حوالي سنة 124 هـ، ومهما يقبل عند السبب الذي حدا بعبد الملك إلي تعريب دواوين الخراج، فإن هذه كانت خطوة عظيمة الأهمية، وكانت مدروسة بعناية، بدليل أن عملي الترجمة استغرقت ما يقرب من نصف قرن، واستمرت الي نهاية الدولة، ولم تكن عملا سهلا، حيث كان علي المترجمين أن يقوموا بنقل كثير من المصطلحات المالية من الفارسية واليونانية والقبطية، وقد قاموا بهذا العمل علي درجة عالية من الإتقان. ولم تكن عملية التعريب ذات أثر عظيم من النواحي السياسة والإدارية فحسب، بل كانت لها آثار عظيمة أخرى من النواحي الاجتماعية والحضارية، فقد فتحت أمام العرب ميدانا كبيرا من ميادين العمل كان موصدا أمامهم وهو ميدان المال، فبعد أن عربت الدواوين انخرطوا في العمل فيها وبرزوا في ميدانها كما برزوا في الميادين الأخرى.
كما أن الموظفين غير العرب الذي كانوا يقومون بالعمل في دواوين الخراج لم يستبعدوا منها، ولكن عليهم ليحتفظوا بوظائفهم أن يتعلموا اللغة العربية.
وهذه خطوة حضارية هامة، أدت إلي سرعة انتشار اللغة العربية في البلاد المفتوحة، وهذا بدروه أدري إلي تفهم الإسلام والإقبال علي اعتناقه، وكما كانت هذه الخطوة من أهم اصلاحات عبد الملك الإدارية والسياسية فقد كانت له خطوة أخرى لا تقل عنها أهمية في تحرير الاقتصاد الإسلامي وتخليصه من الاعتماد علي الدول الأجنبية، تلك الخطوة في إصدار عملية عربية إسلامية خاصة، وإنشاء دور لصك النقود في الشم وفي العراق وغيرها، فقبل عهده لم يكن للمسلمين عملة خاصة بهم بل كانوا يعتمدون علي العملات الأجنبية وبصفة خاصة الدينار البيزنطي فرأي عبد الملك إنهاء عهد الاعتماد علي النقد الأجنبي لما فيه من مساس بكرامة الدولة الإٍسلامية فأصدر أوامره بصك النقود الإٍسلامية وتحريم التعامل بغيرها وكان أول لخليفة يتخذ هذا القرار العظيم.
محاولات محدودة لضرب عملات إسلامية
قبل عبد الملك بن مروان، حيث يروي أن سيدنا عمر بن الخطاب ضرب دراهم علي نقش الكسروية، وكذلك فعل سيدنا معاوية بن أبي سفيان في خلافته، ومصعب ابن الزبير أثناء ولايته علي العراق من قبل أخيه عبد الله ابن الزبير، وكان الحجاج بن يوسف أول من ضرب درهما مكتوب عليه (لا اله إلا الله).
وذكر المؤرخون، أن من الأسباب التي حدت بعبد الملك إلي إصدار عملة إسلامية خاصة وتحريم التعامل بغيرها، أن خلافا نشأ بينه وبين إمبراطور الروم جستنيان الثاني حول العملة، حيث كانت الدولة البيزنطية تستورد الورق من مصر، وفي مقابل ذلك كانت الدولة الإسلامية تحصل علي الدنانير الذهبية من بيزنطة.
وكان الورق يصدر إلي بيزنطة مكتوبا عليه عبارات مسيحية، مثل عبارة التثليث، فقرر عبد الملك محو هذه العبارات لتنافي ذلك مع الإسلام ولما فيه من مساس بكرامة الدولة الإسلامية، وأمر أن يكتب علي صدر القراطيس الآية الكريمة ( قل هو الله احد) فلما وصلت إلي بيزنطة غضب الإمبراطور وهدد عبد الملك إما بالعودة الي كتابة العبارات المسيحية أو يكتبون هم علي الدنانير ما يسيء إلي النبي صلي الله عليه وسلم عندئذ استشار عبد الملك كبار رجال بيته فأشار عليه خالد بن يزيد بن معاوية بإصدار عملة إسلامية خاصة وتحريم التعامل بالدنانير البيزنطية.