عنوان الكتاب
قال ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء، في ترجمة ابن جلجل، عند ذكر كتبه: "تفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس ، ألفه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة بمدينة قرطبة، في دولة هشام بن الحكم المؤيد بالله .
وهو يقول في أول كتابه هذا: "إن كتاب دياسقوريدس ترجم بمدينة السلام في الدولة العباسية في أيام جعفر المتوكل؛ وكان المترجمَ له اصطفن بن بسيل الترجمان ، من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي؛ وتصفح ذلك حنين بن إسحاق المترجم ، فصحح الترجمة وأجازها؛ فما علم اصطفن من تلك الأسماء اليونانية في وقته له اسما في اللسان العربي فسّره بالعربية، وما لم يعلم له في اللسان العربي اسما تركه في الكتاب على اسمه اليوناني، اتكالا منه على أن يبعث الله بعده من يعرف ذلك ويفسره باللسان العربي، إذ التسمية لا تكون إلا بالتواطؤ من أهل كل بلد على أعيان الأدوية بما رأوا، وأن يسموا ذلك إما باشتقاق وإما بغير ذلك من تواطئهم في التسمية. فاتكل اصطفن على شخوص يأتون بعده ممن قد عرف أعيان الأدوية التي لم يعرف هو لها اسما في وقته، فيسميها على قدر ما سمع في ذلك الوقت، فيخرج إلى المعرفة...
دخول كتاب ديلسقوريدس إلى الأندلس
وورد هذا الكتاب إلى الأندلس وهو على ترجمة اصطفن، منه ما عرف له اسما بالعربية، ومنه ما لم يعرف له اسما، فانتفع الناس بالمعروف منه بالمشرق والأندلس إلى أيام الناصر عبد الرحمن بن محمد ، وهو يومئذ صاحب الأندلس. فكاتبه أرمانيوس الملك، مالك قسطنطينية ، في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ، وهاداه بهدايا لها قدر عظيم؛ فكان في جملة هديته كتاب دياسقوريدس مصور الحشائش بالتصوير الرومي العجيب، وكان الكتاب مكتوبا بالإغريقي الذي هو اليوناني. وبعث معه كتاب هروسيس صاحب القصص ، وهو تاريخ للروم عجيب، فيه أخبار الدهور وقصص الملوك الأول، وفوائد عظيمة. وكتب أرمانيوس في كتابه إلى الناصر: 'إن كتاب ديسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني، ويعرف أشخاص تلك الأدوية؛ فإن كان في بلدك من يحسن ذلك فزت أيها الملك بفائدة الكتاب؛ وأما كتاب هروسيس فعندك في بلدك من اللطينيين من يقرأه باللسان اللطيني، وإن كشفتهم عنه نقلوه لك من اللطيني إلى اللسان العربي'...
أطوار ترجمته والقائمون عليها
ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يقرأ اللسان الإغريقي الذي هو اليوناني القديم؛ فبقي كتاب دياسقوريدس في خزانة عبد الرحمن الناصر باللسان الإغريقي، ولم يترجم إلى اللسان العربي. وبقي الكتاب بالأندلس؛ والذي بين أيدي الناس بترجمة اسطفن الواردة من مدينة السلام بغداد. فلما جاوب الناصر أرمانيوس الملك سأله أن يبعث إليه برجل يتكلم بالإغريقي واللطيني ليعلم له عبيدا يكونون مترجمين. فبعث أرمانيوس الملك إلى الناصر براهب كان يسمى نقولا، فوصل إلى قرطبة سنة أربعين وثلاثمائة ؛ وكان يومئذ من الأطباء قوم لهم بحث وتفتيش، وحرص على استخراج ما جُهل من أسماء عقاقير كتاب دياسقوريدس إلى العربية؛ وكان أبحثَهم وأحرصَهم على ذلك، من جهة التقرب إلى الملك عبد الرحمن الناصر، حسدايُ بنُ شبروط الإسرائيلي ؛ وكان نقولا الراهب عنده أحظى الناس وأخصهم به. وفسر من أسماء عقاقير كتاب دياسقوريدس ما كان مجهولا؛ وهو أول من عمل بقرطبة ترياق الفاروق على تصحيح الشجّارية التي فيه. وكان في ذلك الوقت من الأطباء الباحثين عن تصحيح أسماء عقاقير الكتاب وتعيين أشخاصه محمد المعروف بالشجار، ورجل كان يعرف بالبسباسي، وأبو عثمان الجزار الملقب باليابسة، ومحمد بن سعيد الطبيب، وعبد الرحمن بن إسحاق بن هيثم، وأبو عبد الله الصقلي، وكان يتكلم باليونانية ويعرف أشخاص الأدوية. وكان هؤلاء النفر كلهم في زمان واحد مع نقولا الراهب؛ أدركتهم وأدركت نقولا الراهب في أيام المستنصر ، وصحبتهم في أيام المستنصر الحكم؛ وفي صدر دولته مات نقولا الراهب. فصح ببحث هؤلاء النفر الباحثين عن أسماء عقاقير كتاب دياسقوريدس تصحيحُ الوقوف على أشخاصها بمدينة قرطبة خاصة بناحية الأندلس، ما أزال الشك فيها عن القلوب، وأوجب المعرفة بها بالوقوف على أشخاصها، وتصحيح النطق بأسمائها بلا تصحيف، إلا القليل منها الذي لا بال به ولا خطر له، وذلك يكون في مثل عشرة أدوية...
صلة الكتاب بمفسره
وكان لي في معرفة تصحيح هيولى الطب الذي هو أصل الأدوية المركبة حرص شديد وبحث عظيم، حتى وهبني الله من ذلك بفضله بقدر ما اطلع عليه من نيتي في إحياء ما خفتُ يُدرس وتذهب منفعته لأبدان الناس. فالله قد خلق الشفاء وبثه فيما أنبتته الأرض، واستقر عليها من الحيوان المشاء، والسابح في الماء والمنساب، وما يكون تحت الأرض في جوفها من المعدنية؛ كل ذلك فيه شفاء ورحمة ورفق".
المراجع
ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، نشره امرؤ القيس بن الطحان (Friedrich August Müller) المطبعة الوهبية، القاهرة، 1299/1882.
الزركلي (خير الدين)، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط 12، 1997.
أعمال ندوة ابن خلدون، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1979.