ديموكريتوس التراقي ولد «ديموكريتوس» في تراقيا جنوبي شرق البلقان، حوالى عام 460 ق م، في أسرة موسرة أو ثرية، فاستطاع أن يسافر كثيراً في شبابه، وجال في بلاد الشرق الأدنى ومصر، حتى صرف كثيراً من ماله؛ فعاد للاستقرار في بلده. وقد وضع عدداً من المصنّفات، أشهرها من ما وصلت إليه أيدي لاحقيه بعنوان «شذرات حول الأخلاق» حازت على اهتمام أرسطو، ونقده.
رأى ديموكريتوس أنّ الفلسفة «علم عام» للطبيعة والإنسان معاً، وتُقسم وفْـقَ الميادين التي تدرسها، وهذا ما فعله أرسطو من بعده أيضاً. عالج ديموكريتوس في مصنّفاته: الطبيعيات، ومنها الفلك، والرياضيات. كما عالج الفيلولوجيا (أي: فقه اللغة)، وفيها كتابه المهمّ عن «الشعر» وخاصة ما يتصل بموضوع «الحماسة» من الناحية الجمالية؛ يضاف لهذه ما كتبه في الأخلاق، وخاصة «توازن النفس».
ولذا ذهب المعنيّون إلى أننا «لا نجد في العصر القديم ـ كلّه ـ مذهباً فلسفياً يضاهي مذهبه، من حيث الجهد المبذول للتوفيق بين المبادئ العقلية الخالصة والعناصر الوضعية للتجربة».
قال ديموكريتوس بوجود نوعين من "البداية الأوّلية" لموجودات العالم أو الكون؛ إحداهما للذرات والأخرى للخلاء. فالذرات جزيئات مادية لا تنقسم، وهي ثابتة وخالدة وفي حركة متّصلة، ولا تختلف إلا بالشكل والحجم والوضع والترتيب؛ وليست لها خواص أخرى كاللون والصوت والطعم وغيرها. ومن اتحاد الذرّات تتكوّن الأجسام، وعن طريق تحلّلها تبيد أو تفنى. وتتحرك الأجسام في خلاء أزلي لا متناهٍ وأبدي، بصورة دائمة، وبفعل تصادمها في أثناء حركتها يتولّد ويفنى «عدد لا متناهٍ من الأكوان».
هذا ما أفضى إلى عدّ ديموكريتوس أكبر ممثلي "المذهب الذرّي" في شكله القديم، ومؤسس «نظرية الجزء الذي لا يتجزّأ». لقد قال ديموكريتوس إنّ الذرات غير المنقسمة وغير المحسوسة «لا متناهية» في العدد بسبب تناهيها في الدقـة، وهي «قديمة، من حيث أنّ الوجود لا يخرج من اللاوجود»، كما إنها «دائمة، من حيث أنّ الوجود لا ينتهي إلى اللاوجود»، وهي «متحرّكة بذاتها». وواحدها الجوهر الفرد؛ فهي ـ جميعاً ـ «امتداد» فقط أو «ملاء غير منقسم»، أي إنها متشابهة في الطبيعة تمام التشابه، وليست لها أي كيفية، ولا تتمايز بغير الخصائص اللازمة من معنى الامتداد، التي هي: الشكل والمقدار.
قال ديموكريتوس إنّ الغرض الأسمى من "الأخلاق" هو تحصيل "السعادة" التي تقوم ـ إلى حدٍ كبير ـ على التحرّر من القلق والخوف، والشعور بالاطمئنان. وعدّ سعادة «العقل» أهم من «لذائذ» الحسّ، لأنّ الأولى تؤدي إلى الحكمة، بينما يقود زوال الثانية إلى الألم. وجعل من نتائج تحصيل الحكمة: أن تزداد قدرة الشخص على التمييز بين ما يؤدي إلى ذينك النوعين من السعادة أو اللذائذ، فتتكوّن لدى الشخص قدرة انتقائية يصقلها التكرار ويعـزّزها الصواب. وبذا غدت التربية الأخلاقية مهمّة فردية وجماعية، في الوقت نفسه، وقابلة للتهذيب والترقية بلا نهاية أو حدود مؤقتة، تبعاً للأوضاع والظروف والمعطيات والأشخاص. ارتبط بهذا أن عارض ديموكريتوس ـ في مجال السياسة ـ أرستقراطية مالكي العبيد، وجاهر بميله إلى الديمقراطية القديمة.
مات ديموكريتوس، في بلدة تراقيا حوالى سنة 370 ق م، وقال الفيلسوف ديوجانس اللايرتي عنه: «كان مصارعاً في الفلسفة، لأنه كان يلمّ جيداً بالطبيعيات والأخلاق، فضلاً عن الرياضيات والفنون الحرّة، وكانت له خبرة في فروع العلم جميعاً».
المصدر
- طريق الفلسفة، د. محمد ياسر شرف