الرئيسيةعريقبحث

رقص شركسي


☰ جدول المحتويات


رقص شركسي الرقص هو أم اللغات والإنسان قبل أن يعرف لغة اللسان كان يعبر عن رغباته وأفكاره باشارة مستخدما يداه وتعابير وجهه والرقص كذلك لغة إشارة يستخدم فيها الراقص كل جسده لإيصال فكرة، أما الفرق بين الرقص ولغة الإشارة يكمن في أن الأول هو تعبير تجريدي عن فكرة أو فلسفة معينة توصل إليها الإنسان من خلال خبراته وتجاربه ومعتقداته، وهي مترسخة لديه أساسا ويستخدم الرقص للتأكيد عليها وللزيادة في ترسيخها من خلال نقلها للأجيال اللاحقة.. مع أن الشراكسة فقدوا بسبب ويلات الحروب المستعمرة والمتواصلة كتابتهم التي من خلالها كان بإمكانهم أن يسجلوا تاريخهم وأفكارهم ومعتقداتهم غلا أن الفن الشعبي متمثلا بالغناء والرقص أخذ على عاتقه دور سفر التاريخ وصار هو التاريخ بحد ذاته وبات كالتحفة الفنية الثرية كلما ازداد عمرها وقدمها زادت قيمتها الجمالية والمعنوية بما تحمله من روح الماضي العريق، روح الأجداد..

سرد الرقص الشركسي الحياة الاجتماعية بكافة جوانبها ففيه ترى الجانب الديني متمثلا بعبادة وتقديس الآلهة المختلفة التي كان يؤمن بها الشراكسة وفيه نرى الشخصية الحربية للشركسي متمثلة بحركات الفروسية العنيفة وإيماءاته في استخدامه للأسلحة المختلفة ,ونجد أيضا الجانب الإنساني للرقص الشركسي فهو يعجب ويحب ويعبر بكل إحساسه ووجدانه عن ذلك بأسلوب بسيط وصادق كما نرى تأثير الطبيعة على الإنسان الشركسي فيقتبس الرقص من البحر والنسر والحصان وغيرها من مظاهر الطبيعة ونرى أيضا صورا عن الحياة اليومية لأسلافنا من زراعة وحصاد وحياكة..

امتاز الرقص الشركسي عن كثير من رقصات الشعوب الأخرى حيث تناول جميع مظاهر حياة الإنسان الشركسي وحس جوانبه الشخصية..وفي رقصة القافا مثلا نرى الجانب الارستقراطي من هذه الشخصية ونلحظ الكبرياء وعزة النفس أما رقصات أخرى كرقصة الإسلامية والزغالات نرى العنفوان ,القوة الجسدية, التحمل فالشركسي كان دائم التنقل على جواده متمنطقا لسلاحه الذي لايفا رقه متحفزا دائما للهجوم والدفاع فحتى في لحظات السلم كان يؤكد جاهز يته الحربية وفروسيته ولياقته الجسدية عن طريق مثل هذه الأنواع من الرقصات..إن الرقصات الشركسية التي تشاهد وتمارس في الأعراس والمناسبات إلى يومنا هذا سواء في القفقاس أوفي المهجر هي:قافا, زفاكؤ، إسلامية، زغالات, تلباتشأس, ودج، وهذه ليست كل الرقصات التي كانت تمارس من قبل الأجداد فهناك الكثير منها صارت منسية أو نادرة وقسما منها هي عبارة عن أشكال ونماذج مختلفة لرقصات معروفة فمثلا رقصات:قاشوا, يلياش, حاكواتش, هي اشكال ونماذج مختلفة لرقصة الزفاكؤ وكذلك من الرقصات النادرة :الغواشه، غاسه. غواشه, مافا ,تلبارقا

ان جميع هذه الرقصات التي ذكرناها بشكل عام لها محتوى وجوهر وجداني واحد..فابتداء من الزفاكؤ أو القافا وفي كل رقصة تلالية نلاحظ تطور وتفاعل متتابع في العلاقة العاطفية المتبادلة بين الشاب والفتاة المؤدين للرقصة..تبعا لتلك العلاقة الوجدانية المتطورة تم تحديد تعاقب وتسلسل منطقي لتلك الرقصات الشركسية الشعبية في الدجاغو (حلبة الرقص) فالرقص يبدا بالقافا أو الزفاكؤ وتتبعه إسلامية فالزغالات وينتهي الرقص بالودج هذا التسلسل ليس عبثا بل يراد به الإشارة على التدرج المنطقي للعاطفة التي تتولد بين شاب وفتاة في الحياة العادية.. فعند اللقاء الأول بينهما تكون لتلك العاطفة شكلا خجولا واختباري وعندما تزداد معرفتهما ببعض تأخذ تلك العاطفة شكلا آخر وعندما يصلان إلى قمة الوفاق تصل تلك العاطفة على أوجها..فكل رقصة من الرقصات الشركسية تعبر عن مرحلة من مراحل العلاقة العاطفية التي يمر بها الشاب والفتاة لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن تتعاقب الرقصات الشركسية في الدجاغو على الشكل الذي ذكرناه

اللقاء الأول

إن الجاغو الشركسي يبدأ برقصة القافا أو الزفاكؤ وهما تسميتان مختلفتان لرقصة واحدة والقافة من أكثر الرقصات الشركسية انتشارا وأقربها إلى قلوب الشراكسة:وتؤدى بوتيرة معتدلة وتميل للسرعة قليلا أحيانا..تلك الرقصة مبنية على خطوات بدائية كالمشي الطبيعي, يشاهد الشاب في القافا الفتاة لأول مرة فتسمى "رقصة اللقاء الأول" هو معجب بها ويدعوها وقبل البدء بالرقص يدور الشاب والفتاة حول بعضهما العض بحيث يكون كل منهما على يسار الأخر وهذه إشارة انه لايحق لأحد بأن يقاطع الشاب أثناء رقصه مع الفتاة فهي تحت حمايته وعهدته..ويبدأ الحوار الراقص ولا نبالغ إذا سمينا القافا حورا ويأخذ كل منهما مكانه ضمن حلبة الدجاغو ذلك المكان الذي يحمل الكثير من المعاني من الناحية الفلسفية للقافا وهو بالنسبة للشاب رمز لموقعه في الحياة والمجتمع هو تجريد لمنزله ولمكان عمله لموقعه ضمن أهله وأقاربه وأصدقائه إنه مكانته ومنزلته وسط مجتمعه فكل هذه الأمور مجتمعة تدل على شرفه وكرامته على كبريائه وعزته لذلك كان لزاما على الشاب في الدجاغو ضمن المكان الذي يقف فيه والذي يحمل كل تلك المعاني السامية أن يبدي كل مالديه من جمال النفس والروح والجسد فهو برقصه ضمن هذه البقعة المحددة يحدث الفتاة عن نفسه ومكانته ضمن قومه ومجتمعه ويريها الطريقة التي يسلكها وسط مجتمعه..كذلك المر بالنسبة للمكان الذي تحتله الفتاة في حلبة الرقص فهو أيضا يرمز لموقعها ضمن أهلها ومجتمعها وهي برقصها في حدود هذا الموقع تحدث الشاب عن نفسها عن حياتها في بيتها عن الاحترام والتقدير الذي تحظى به من قبل محيطها وهي لذلك تحاول أيضا أن تظهر بأبهى وأجمل صورة..يبدي كل منهما للآخر أجمل ما لديه وبنفس الوقت يعير جل اهتمامه للآخر فالشاب لايحيد بعينيه عن الفتاة بالمقابل تبدي له الفتاة بذلك غلا أنها بعكس الشاب لاتنظر إلى عينيه بشكل مباشر بل بشكل متواضع والحياء الذي يجب أن تتمتع به الفتاة ويستمر ذلك الاختيار والاستعراض عن بعد من كلا الطرفين لفترة زمنية معينة(ثلاث حركات من القافا في المكان) ينتقل بعدها الطرفان إلى المرحلة الثانية وفيها يدعو الشاب الفتاة لن تلقي نظرة عن كثب على موقعه الذي يحتله في المجتمع لتتحرى وتتأكد بنفسها من حقيقة ما حدثها به عن نفسه وبعد ذلك يرافق الشاب الفتاة على مكانها حيث يقوم هو بإلقاء نظرة عليها ضمن محيطها الذي تحيا به ليرى بنفسه عن كثب المكانة والمنزلة التي تحظى بها في هذا المحيط..ومن ثم تبدأ المرحلة الأهم وفيها يتبادل كل من الشاب والفتاة المكان الذي يحتله كل منهما مالذي تريد أن تقوله لنا القافا بهذا التبادل من الأمكنة ؟ إن كل شاب يريد أن يقترن بفتاة وكذلك المر بالنسبة للفتاة تتبادر إلى ذهنه مسالة هامة وهي :كيف سيكون تصرف وسلوك شريكة المستقبل عندما تصبح في بيتي أمام أهلي وأقاربي أمام أصدقائي ومجتمعي وبالمقابل كيف ستكون علاقتي بأهلها ومجتمعنا (عندما يأخذ الشاب الفتاة مكان الرقص) هل سيكون كل منا جديرا بالآخر ؟ هل ستكون أهلا بيتي وتصونه..بعد كل ذلك التبادل يعود كل منهما إلى مكانه ويستمر الحوار كما كان في الفترة الأولى وتنتهي الرقصة التي تتميز بتماسك العاطفة فيها على الرغم من غناها وعمقها وهي ميزة أساسية للشخصية الشركسية بشكل عام.

رقصة النسر

إن العتبة التالية في التدرج العاطفي بعد القافا هي رقصة الإسلامية تلك الرقصة الوجدانية الجميلة والشائعة بين الشراكسة والتي تؤدى بسرعة معتدلة..عند الانتقال على الإسلامية يكون كل من الشاب والفتاة قد تكونت لديهما فكرة عن الآخر ويكون قد توصلا على معرفة بعضهما البعض وذلك من خلال القافا..في الإسلامية الشاب يلاقي الفتاة بفرح وسعادة ويرافقها في الدائرة ولايحدثها هنا الشاب عن نفسه وعن ماهيته الحوار الراقص يأخذ منحى أكثر جرأة فيحدثها عما يكنه لها من مشاعر وأحاسيس..إن البنية الشكلية الإسلامية مبنية على الرقص في دائرة تكون كبيرة في البداية وتأخذ التنسيق تدريجيا إلى أن يلتقي الراقصان في منتصف الدائرة ويبتعدان عن بعضهما ثانية لتعاد الكرة.. تقول الأسطورة الشركسية إن شابا اسمه إسلام أحب فتاة وفي إحدى المرات خلوته بنفسه في الجبال وكان مستلقيا على الأرض ووجهه للسماء وقد استغرق في التفكير بمحبوبته شاهد زوجا من النسور يدومان في غزل شاعري في دائرة كبيرة كانت تصغر تدريجيا ومنه استقى الشاب تلك الرقصة ليعبر لمحبوبته عن مشاعره وأصبحت تسمى تلك الرقصة باسمه وأحيانا "رقصة النسر" وأحيانا الرقصة الدائرية.

رقصة الحب

عن الرقصة التالية للإسلامية هي رقصة الزغالات المتداخلة مع رقصة أخرى قريبة منها هي التلباتشأس إن تلك الرقصة منتشرة بين الشراكسة شمال غرب القفقاس على التحديد بل من اسرع رقصات القفقاس كله يشعر الشاب في الزغالات بانتعاش وهيجان روحي فهو يبحث عن كافة السبل والطرق للتعبير عما يجول في نفسه وذلك التنوع بالأساليب التعبير نراه جليا في تنوع الحركات والخطوات فتارة نرى الشاب يرقص بسرعة ضمن محيط الدجاغو وتارة نراه ينتقل في خطوات جانبية ومن ثم يرقص في المكان وبعدها يقترب من الفتاة ومن ثم يبعد عنها وهو خلال ذلك كله يحاول أن يري محبوبته مهاراته وحذاقته في الرقص أما الفتاة فهي أكثر تماسكا في عاطفتها غير انهامسرورة وراضية لدأب وإلحاح ذلك العاشق كل حركاتها متناسقة وبانسجام مع تحركات الشاب..إنها رقصة الحب بكل معنى الكلمة وهي أصعب الرقصات واعقدها من حيث التقنية والسرعة والجهد الذي يبذله الراقص للقيام بتلك الحركات السريعة كاستخدام رؤوس الأصابع والوقوف عليها وطرق الأرض بها كما أنهاتعتبر حسب الأسطورة من أقدم الرقصات.

رقصة الوفاق

بعد أن يتعرف كل من الشاب والفتاة على بعضهما الآخر من خلال القافا ويعبران عن أحاسيسهما ومشاعرهما من خلال الإسلامية ويبديان حبهما وهيامهما وإعجابهما من خلال الزغالات والتلباتشأس تأتي ذروة تلك الهرم العاطفي للتوج برقصة الودج التي تعبر عن الوفاق التام والتام والتفاهم الكامل بينهما حتى سميت تلك الرقصة وبحق رقصة الوفاق وفي كل الرقصات الشعبية الشركسية لايسمح للشاب ولاباي شكل من الأشكال لمس الفتاة ولو عن طريق الصدفة بل يعتبر من المعيب جدا فعل ذلك أو حتى لمس طرف ثوبها وكذلك يحرم عليه التكلم معها فالحديث هنا حديث الروح من خلال الجسد أما الودج فهي الرقصة الوحيدة التي يسمح بها بمسك يد الفتاة والتحدث معها مباشرة والخروج عن قواعد الدب والأتكيت الشركسي المعروف..إن الودج عبارة عن مجموعة من الرقصات وله أنواع كثيرة وتعد من أقدم الرقصات الشركسية وكانت تقوم بشكلها البدئي بوظائف طقسية دينية مكرسة لعبادة وتقديس الالهة الممثلة لقوى الطبيعة واجتماعية ومهنية وفيها تمثيل للحياة الاقتصادية التي كان يمارسها الشراكسة..الجانب الد\يني للودج يتكل في أنواع منه سبله ودج(رقصة الرعد) المكرس لتقديس إله الرعد والبرق، تحاشخوا ودج,(رقصة كبير الآلهة) أما الجانب الوظيفي للودج فتراه في رقصات مثل الودج خشت الذي هو عبارة عن تمثيل لعملية الدراسة وفصل القمح عن السنابل وكذلك الودج بوخ الذي يمثل فصل النعاج والمهور عن القطيع ومع مرور الزمن أصبح الودج يفقد معناه الديني والوظيفي ويأخذ طابعا عاطفيا ووجدانيا..وهكذا ينتهي الدجاغو برقصة الودج تلك الخاتمة التي تعبر عن الوفاق الذي يتوصل غليه كل من الشاب والفتاة بشكل حضاري بعد حوار ومحاكاة لطيفة وكل ذلك ضمن الأعراف والتقاليد الشركسية الأصيلة التي تنم عن أدب رقيق ونبل عميق.

فإذا ماأدركنا القيم والمعاني السامية التي يحملها الرقص الشركسي ونحن بأمس الحاجة إليها في يومنا هذا بالذات لكن باستطاعتنا الحفاظ عليها بوصفها إرث حضاري تركه لنا الأجداد..يجب أن لايفهم الرقص الشركسي على أنه وسيلة للترفيه والفرح وحسب بل رسالة تحمل في طياتها أفضل القيم الجمالية والأدبية والأخلاقية التي توصل إليها الشعب الشركسي عبرآلاف السنين ومن خلال العديد من الأجيال.

المصدر: مجلة إلبروز

موسوعات ذات صلة :