شهداء قرطبة هو الاسم المتداول لأحداث دوّنها قس كاثوليكي يدعى إيولوخيو عن إعدام 48 مسيحي بعضهم من الرهبان والكهنة الكاثوليك في الأندلس في الفترة بين عامي 851-859، والتي لم يرد ذكرها في المصادر العربية أو حتى الإفرنجية المعاصرة لتلك الفترة، ومصدرها الوحيد هو القس إيولوخيو أحد الثمانية وأربعين مسيحيًا الذين قتلوا، لذا فمن المحتمل أن الأحداث مكتوبة بشيء من التحيز. وخاصة أن الكتابات التي دونها القس، ليس فيها ما يشير إلى وجود اضطهاد حقيقي في الأندلس في ذاك الوقت.[1]
الأحداث
بعد دخول المسلمين للأندلس عام 711، تم تخيير السكان المحليين بين الدخول في الإسلام أو البقاء على دينهم. فدخولهم في الإسلام يستلزم إتباع فرائضه من صلاة وزكاة وصوم وغيرها، بينما بقاؤهم على دينهم يستلزم عليهم أن يدفعوا جزية وفقًا للشريعة الإسلامية، التي تعتبر المسيحيين واليهود من أهل الذمة، لهم الحق في الاحتفاظ بدياناتهم وكنائسهم أو معابدهم، وأن يحتكموا إلى قضاتهم.[2] لجأ بعض المسيحيين إلى طريقة تجنبهم دفع الجزية، وهي باعتناق الإسلام، وأيضًا اتخذوا ذلك كوسيلة للفرار من دفع غرامات مالية كانت تفرضها عليهم الملوك المسيحيين في الممالك المسيحية المجاورة.[3] إضافة إلى ذلك، ظهرت حالة من الانبهار بين الشباب المسيحي في الأندلس بمظاهر الحضارية التي انتشرت في ظل حكم المسلمين. وقد نقل المؤرخ محمد عبد الله عنان عن سيمونت أحد أكثر المؤرخين اهتمامًا بتاريخ المستعربين وصفه لتلك الحالة، قائلاً:
وكان مظاهر تأثر الشباب المسيحي، أنهم كانوا يكتبون ويتكلمون العربية، محتقرين دراسة اللغة والآداب اللاتينية، وهو أمر كان شديد الخطر على وطنيتهم ودينهم.
وفي النصف الأول من القرن التاسع، لم تكن اللغة الآداب العربية فقط، بل وكذلك الأفكار والتقاليد الإسلامية قد انتشرت بين المستعربين الأسبان. وهذا ما تشير إليه وثيقة هامة كتبها مسيحي قرطبي معاصر هو ألفارو القرطبي في سنة 854 م عنوانها "Indicalo Luminoso"، وفيها يصف بقوة وبلاغة الذعر الذي أصاب الأشراف الكرماء البواسل الذين كانوا يحتفظون بالعاطفة المسيحية والوطنية الإسبانية. وكيف أن شبانًا من المسيحيين يمتلئون حياة وقوة وفصاحة، يتقنون اللغة العربية، ويبحثون بشغف عن الكتب العربية ويدرسونها بعناية ويمتدحونها بحماسة. هذا في حين أنهم يجهلون جمال الآداب الكنسية، ويجهلون شريعتهم ولغتهم اللاتينية، وينسون لغتهم القومية.[4]»أثارت تلك الحالة، قلق بعض رجال الدين المسيحيين، فلجأ بعضهم ومنهم إيولوخيو عن عمد إلى توتير العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، لقطع السبل أمام التقارب بينهم، لشعورهم بالقلق من تدهور الحالة الروحانية لدى الشباب المسيحيين في تلك الفترة. وليمنع نزوع المسيحيين لتعلم اللغة العربية، عاد إيولوخيو من بنبلونة بالكتابات الكلاسيكية لفرجيل وهوراس ويوفينال وكتاب مدينة الرب لأوغسطينوس.[5][6][7]
وفي عام 851 م، إدعى إيولوخيو أنه عثر في دير في منطقة نافارا على كتيب صغير مجهول المؤلف يتحدث عن "نبي شؤم" (يقصد بذلك لنبي الإسلام). قام إيولوخيو بتلخيصه وأرسله إلى أصدقائه في قرطبة وإشبيلية.[8] يًرجّح أن إيولوخيو هو من كتب تلك الكتابات، بقصد تشويه صورة الإسلام في أعين مسيحيي الأندلس، بعدما صعقه انبهار مسيحيو الأندلس بما وصل له المسلمون من حضارة في ذلك العصر.[9] وبناء على تلك الكتابات، روّج إيولوخيو وقتها أن هذا النبي دجال مستغلاًّ معتقدات جمهوره المستهدف من مسيحيي الأندلس حين روّج إلى أنّ محمدًا إدعى بين أصحابه أنه سيقوم من بين الأموات كيسوع في اليوم الثالث، وهو ما لم يحدث.[9] اهتدى إيولوخيو إلى وسيلة لمقاومته، ألا وهي تحريض رعايا كنيسته على الحيلولة دون انتشار هذا الدين عن طريق التعرض للمسلمين، عن طريق سب الإسلام ونبيه، طلبًا للاستشهاد.[10] كنتيجة لوقائع سبّ الدين الإسلامي وسبّ نبيه، كان القضاة يستنطقون المتهمين فيما نسب إليهم، فإن أصروا كانت الأحكام تتراوح بين الإعدام بقطع الرأس أو الجلد. إلى جانب هؤلاء، أضاف إيولوخيو المسلمين أو أبناء التزاوج بين المسلمين والمسيحيات الذين ارتدوا عن الإسلام إلى قائمة شهدائه،[11] وهم الذين كانت تصدر بحقهم أحكام بالإعدام بحد الردة.
لم تلق دعوى إيولوخيو صدى بين المسيحيين المعتدلين في الأندلس الذي أنكروا على شهداء قرطبة فعلهم، ولم يعتبروهم شهداءً، لأن أحداث مقتلهم لم تصحبها أية علاماتٍ خارقةٍ أو معجزات، كما أنه لم يكن هناك اضطهادًا للمسيحيين في قرطبة، كما فعل الرومان مع المسيحيين الأوائل، وكذلك لم يكن مقتل هؤلاء على أيدي وثنيين كالرومان، وإنما على أيدي رجال يبجلون الله والشريعة.[9] إلا أن تلك الأحداث لم تنته إلا بعد إعدام إيولوخيو نفسه في 11 مارس 859 م، حيث كان آخر المعدومين ولم يعدم بعده سوى فتاة تدعى ليوسيريتيا، ولدت لأبوين مسلمين ثم تنصرت، والتي أعدمت بعده بأربعة أيام.[12]
استبعد بعض الأفراد والمؤسسات المسيحية مثل كنيسة سميرنا ومجمع ألبيرة وقبريانوس القرطاجي وإكليمندس الإسكندري وغيرهم، فكرة الاستشهاد في وصف هؤلاء الذين يقدمون على قتل أنفسهم، لتنافي ذلك مع تعاليم وروح المسيحية.[13]
مصادر
- روجيه, جارودي (1995). الإسلام في الغرب - قرطبة عاصمة العالم والفكر. دار دمشق للنشر والتوزيع، دمشق.
- عنان, محمد عبد الله (1997). دولة الإسلام في الأندلس، الجزء الأول. مكتبة الخانجي، القاهرة. .
مراجع
- christianity & islam in spain (A.D. 756-1031 by C.R. Haines, M.A. «Unfortunately the evidence we have on the subject is drawn almost entirely from the apologists of their doings, and therefore may fairly be suspected of some bias. Yet even from them can be shown conclusively enough that no real persecution was raging in Mohammedan Spain at this time, such as to justify the extreme measures adopted by the party of zealots.» نسخة محفوظة 01 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.
- christianity & islam in spain (A.D. 756-1031 by C.R. Haines, M.A «those who remained should, on payment of a small tribute, be permitted to follow their own religion, for which purposes certain churches were to be left standing; that they should have their own judges, and enjoy (within limits) their own laws.» نسخة محفوظة 01 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.
- christianity & islam in spain (A.D. 756-1031 by C.R. Haines, M.A «The ranks of the converts were recruited from time to time by those who went over to Islam to avoid paying the poll-tax, or even to escape the payment of some penalty inflicted by the Christian courts» نسخة محفوظة 01 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.
- عنان 1997، صفحة 269-270 نقلاً عن سيمونت, فرانشيسكو خافيير (1897). Historia de los Mozarabes de espana. صفحة 258-272.
- christianity & islam in spain (A.D. 756-1031 by C.R. Haines, M.A «There is no doubt that Eulogius did all he could to interfere with and check that amalgamation of the Christians and Arabs which he saw going on round him. Believing that such close relations between the peoples tended to the spiritual degradation of Christianity, he set himself deliberately to embitter those relations, and, as far as he could, to make a good understanding impossible. To discourage the learning of Arabic by the Christians, he brought back with him from a journey to Pampluna the classical writings of Virgil, Horace (Satires), Juvenal, and Augustine's "De Civitate Dei."» نسخة محفوظة 01 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.
- Ann Christys, Christians in Al-Andalus, 711-1000, (Curzon Press, 2002), 57-59.
- Libraries, Charles B. Faulhaber, Medieval Iberia: An Encyclopedia, Ed. E. Michael Gerli, (Routledge, 2003), 485.
- جارودي 1995، صفحة 22
- كيف شوّهت أقدم سيرتين لاتينيتين للرسول قصته وما الأسباب وراء ذلك؟ - تصفح: نسخة محفوظة 25 يوليو 2018 على موقع واي باك مشين.
- جارودي 1995، صفحة 23
- christianity & islam in spain (A.D. 756-1031 by C.R. Haines, M.A «These were Aurelius, son of a Moslem father and a Christian mother, and his wife Sabigotha (or Nathalia), the daughter of Moslem parents, whose father dying, her mother married a Christian and was converted; and Felix and his wife Liliosa» نسخة محفوظة 20 يونيو 2018 على موقع واي باك مشين.
- Butler, Alban, Lives of the Saints, Benziger Bros., 1894 - تصفح: نسخة محفوظة 01 مايو 2016 على موقع واي باك مشين.
- christianity & islam in spain (A.D. 756-1031 by C.R. Haines, M.A «They might have added that such voluntary martyrdoms had been expressly condemned,
- By the circular letter of the Church of Smyrna to the other churches, describing Polycarp's martyrdom, in the terms: "We commend not those who offer themselves of their own accord, for that is not what the gospel teacheth us:"
- By St Cyprian, who, when brought before the consul and questioned, said "our discipline forbiddeth that any should offer themselves of their own accord;" and in his last letter he says: "Let none of you offer himself to the pagans, it is sufficient if he speak when apprehended:"
- By Clement of Alexandria: "We also blame those who rush to death, for there are some, not of us, but only bearing the same name, who give themselves up:"
- Implicitly by the synod of Elvira, or Illiberis (circa 305), one of the canons of which forbade him to be ranked as a martyr, who was killed on the spot for breaking idols:
- By Mensurius, bishop of Carthage, who, when consulted on the question of reducing the immense lists of acknowledged martyrs, gave it as his opinion that those should be first excluded who had courted martyrdom. One bishop alone, and he a late one, Benedict XIV. of Rome, has ventured to approve what the Church has condemned. Nor is this the only instance in which the Roman Church has set aside the decisions of an earlier Christendom.» نسخة محفوظة 01 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.