متحف البريد المركزي[1]، يتوسط مبنى "البريد العام"، كما كان يسمى في الحقبة الاستعمارية الفرنسية، أرقى أحياء العاصمة الجزائرية، ليلتقي عنده شارعا الشهيدين "العربي بن مهيدي" و"ديدوش مراد" (إيزلي وميشلي سابقاً)، منفتحاً على حديقة قصر الحكومة الواسعة والتي تنحدر بأشجارها الباسقة إلى أسفل الجبل لتلامس جذورها مياه البحر الأبيض المتوسط.
تم الشروع في بناء البريد العام على هيئة قصر فاخر عام 1910 وتم إكمال تشييده بعد ثلاث سنوات قضاها البناؤون والمعماريون في تنسيق ردهات المبنى وأعمدته وأسقفه التي تتألق حاملة زخرفاً عربياً أندلسياً راقياً، ليتحول مبنى البريد المركزي رويداً رويداً إلى تحفة معمارية متفردة.
هندسته المعمارية تنبض بدقات قلب المدينة حيث استلهم المهندس "ماريوس تودوارد" المعمار العربي الإسلامي في تشييد هذا القصر الأنيق، كانت الفكرة تنطلق من محاولة الحاكم العام للجزائر في بداية القرن العشرين "شارل جونار" توطين المباني لجعلها جسر عبور إلى قلوب الجزائريين الذين كانوا ينفرون من التعاطي مع الإدارة الاستعمارية بمبانيها الفكتورية ذات الطراز الأوروبي الصرف.
يُذكر أن جونار شجّع إحياء فن العمارة الإسلامية، والتقرّب من طبقة المثقفين التقليديين، وشجعهم على القيام بمهمتهم القديمة، كإقامة الدروس في المساجد ونحوها، أشرف جونار على فتح المدرسة الثعالبية سنة 1904، بجوار مقام "سيدي عبد الرحمن الثعالبي" في حي القصبة بالعاصمة الجزائرية، واستهدى إلى فكرة تشييد مبان على شكل قصور ذات طراز معماري أندلسي ومغاربي لعله من خلال ذلك يجد طريقاً إلى قلوب "الأهالي"، وهو النعت الذي كان يطلق على السكان الأصليين في العهد الاستعماري للجزائر والذي امتد لقرن وواحد وثلاثين سنة كاستعمار استيطاني كامل الأركان والأوصاف، حينها شيدت بعض مبان تخدم فكرة التقرب من الأهالي باستنباط المعمار المحلي والإسلامي مثل مبنى المحافظة (الولاية حالياً) الواقعة في واجهة البحر أو بعض المدارس المتناثرة هنا وهناك في أحياء الجزائر العاصمة المختلفة.
استُعمل مبنى البريد المركزي في كل أنواع الخدمات البريدية والمالية منذ افتتاحه في سنة 1913، فكان قبلة لكل من كان يريد أن يبعث برسالة أو طرد أو برقية أو يستقبل مثيلاتها، كما كان محجاً مع تطور الزمن لدفع فواتير الهاتف أو تخليص المعاملات البريدية المختلفة من برق وفاكس وتلكس أو أي معاملات مالية إذ استعمل المقر لسنوات طويلة لتسيير الحسابات الجارية للموظفين سواء في إيداع أموالهم أو في سحب رواتبهم.
هيبة المكان
للولوج إلى مقر البريد المركزي هيبة خاصة، فما أن ترتفع بك قدماك عبر السلم الحجري للمبنى حتى تشعر باحترام تلقائي يحتويك، ليفرض عليك طقوساً في معاينة المبنى، تخطف عيناك رحابة المكان وارتفاع السقف الشاهق الذي يجعل عنقك تشرئب إلى أعلى متفحصة تفاصيل الزخرفة الرائعة على الجص أو الزجاج أو النوافذ الخشبية التي أبرزت مفاتنها أنامل فنان استطاعت أن تصقل لوحات فنية غاية في الإتقان، وما تكاد تطرق ببصرك الأرض حتى تستقبلك التزيينات الخشبية التي ترصع شبابيك الاستقبال والتي تدعوك إلى التأمل في مدى قدرة الانسان على تحويل جذوع الخشب الأصم إلى منحوتات ونقوش غاية في الروعة والابداع.
يجاور مبنى البريد المركزي ساحات واسعة وحدائق غناء ترتسم على محياها بسمة أبدية تصنعها الألوان المزركشة المختلفة للورود والزهور المختلفة التي تتنوع باختلاف الفصول بين باردها وحارها ليحيلها فصل الربيع سجادة جميلة من الألوان الطبيعية، يجد الكهول كما الصغار والنسوة خلوة لهم هرباً من زحمة الشوارع المحيطة المكتظة بالناس والسيارات.
في الجوار أيضا يتخذ باعة الزهور أمكنة لهم.. يتوزعون في أكشاك صغيرة أو في مساحات مقسمة باعتدال، يبرزون فيها من النباتات ما يضفي على المكان حبورا خاصا تزهو به العصافير التي تعم الرحاب بأصواتها وتغريداتها المتناغمة مع متعة النظر إلى مختلف أنواع الزهور وشجيرات الزينة.
أول متحف بريدي في الجزائر
منذ ثلاثة أعوام وبمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر، قررت وزارة البريد والاتصالات تخصيص مبنى البريد المركزي لأول متحف لخدمات البريد في الجزائر مع ابقائها على بعض الخدمات البريدية داخل هذا المبنى العتيق، حيث يسمح للزوار بالاطلاع على تاريخ البريد والاتصالات في العالم وفي الجزائر من خلال عرض مجموعة من التجهيزات القديمة للبرق والتلفون وحاسبة النقود اليدوية أو جهاز تصديق الرسائل بالإضافة إلى عرض مختلف بدلات ساعي البريد، وغيرها من الأجهزة.
يتعرف من خلالها الزائر على التطور الهائل الذي عرفه هذا القطاع الحيوي على مر العصور وخاصة في القرن العشرين الذي شهد خطوات جبارة عرفتها البشرية في مجال الاتصالات. ويخصص المتحف أجنحة خاصة بالتجهيزات البريدية التي كانت تستعمل في الفترة الاستعمارية للجزائر منذ 1830 إلى سنة 1962 كما تم تخصيص جناح للثورة التحريرية الجزائرية ووسائل الاتصال التي كانت مستعملة حينها من طرف الثوار الجزائريين وهي إمكانات بسيطة مقارنة بما كانت الآلة الاستعمارية تستعمله ولكنها أدت واجبها في إبلاغ رسالة الثورة التحريرية وتحقيق استقلال الجزائر.
وفي جناح آخر يستطيع الزائر أن يلج عالم الاتصالات الحديث حيث خصص جناح خاص بالآلات والوسائل التي تم استعمالها في الفترة الممتدة منذ عهد الاستقلال في 1962 إلى اليوم ويحاكي المعرض التطور الهائل الذي عرفه القطاع.
الطوابع البريدية
يجوب الزائر لمعرض الطوابع في متحف البريد الجزائري عهودا مختلفة من صناعة الطوابع ويطلع على الفترات التي عرفتها هذه الصناعة بمختلف الأشكال والأحجام والألوان، ويتعرف إلى كيفية تحول هذه الخدمة فنا قائما بذاته يقدم الكثير من المعارف والعلوم والتاريخ، حيث تجد أمامك تاريخ الجزائر القديم والحديث معروضا عبر مئات الطوابع البريدية ويمكنك أن تتبع التطورات القائمة في المجتمع الجزائري من خلال التمعن في مكونات ومحتويات الطوابع البريدية التي أرخت بشكل دقيق لكل المراحل التي مرت بها الدولة الجزائرية الحديثة.
كما تجد وأنت تتجول في أروقة المعرض التاريخ الإنساني حاضرا بقوة، فالفنان الجزائري الذي رسم هذه الطوابع لم ينس أن يمجد تاريخ الإنسانية من خلال تتبع التطورات التي عرفتها البشرية في القرنين الأخيرين خاصة، والاكتشافات الهائلة في مجالات الصناعة والفضاء والاتصالات والثقافة.
انظر أيضاً
وصلات خارجية
المراجع
- فرعون تُدشن متحف البريد المركزي - تصفح: نسخة محفوظة 4 نوفمبر 2018 على موقع واي باك مشين.