تعتبر معركة سلوت مفخرة من مفاخر التاريخ العسكري العربي، وحسبنا أنها لم تقتصر على نحت أروع ملحمة في سجل تاريخ عمان فحسب، بل شكلت منعطفا هاما في مسار التاريخ العماني، ذلك أن النصر الذي تحقق في هذه المعركة الحاسمة أسفر عن تحرير عمان من الهيمنة الفارسية، وأعطى لهويتها العربية بعدا جديدا.
معركة سلوت | |
---|---|
معلومات عامة | |
المتحاربون | |
قبائل "أزد شنوءة" قوم مالك بن فهم بن دوس بن عدثان بطون من نسل غالب بن عثمان بن نصر بن زهران بطون من نسل عمرو بن نصر بن الأزد بطون من أبناء "أزد العتيك" |
الفرس |
القادة | |
مالك بن فهم الدوسي ميمنة الجيش هناءة بن مالك بن فهم ميسرة الجيش فراهيد بن مالك بن فهم |
المرزبان قائد الفرس |
القوة | |
8000 مقاتل | بين 30.000 و40.000 من الأساورة الفرس |
والورقة التالية لا تسعي إلى سرد تفاصيل أحداث هذه المعركة وجزئياتها لأنها معروفة ومتداولة في جل المراجع التاريخية التي تناولتها إسهاب، بل تهدف في المقام الأول إلى تحليل العوامل التي كانت وراء الانتصار الذي حققه الجنود العمانيون.
وعلى محك هذه الرؤية، ومن خلال تحليل كافة الوقائع والأحداث كما وردت في كتاب (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان) للمؤرخ العماني الشيخ نور الدين السالمي الذي اعتمد على مختلف الروايات والنصوص الواردة في المصادر التاريخية العمانية[2]، يتبين أن مجموعة من العوامل تضافرت لتحقيق ذلك الانتصار المؤزر، يمكن حصرها فيما يلي:
1- القيادة الواعية والشجاعة
يجمع الدارسون على أن أسباب النصر في المعارك لا تعزى إلى التفوق في التسلح ووفرة العدة والعتاد فحسب - رغم ما لذلك من أثر في تحديد مصيرها - بل تعود كذلك إلى القيادة الواعية والشجاعة. ولا تعوزنا الأدلة المتعددة والمتنوعة للبرهنة على صحة هذه المقولة في التاريخ الإنساني: فكثيرة هي الحروب التي استطاعت الفئة الصغيرة أن تحقق الغلبة على الفئة الكبيرة، ويكفي التذكير في هذا الصدد بمعركة بدر الكبرى وغزوة الأ حزاب [3]وملحمة حطين[4] والقائمة تطول. ومعظم الانتصارات التي سجلها تاريخ الإنسانية تؤكد أهمية عنصر القيادة، فبقدر ما تكون هذه الأخيرة على وعي وادراك بخبايا الحروب، مع مسحة من الجرأة والشجاعة، بقدر ما كان ذلك صمام أمن من أية هزيمة محتملة. ولعل نموذج الرسول محمد وصلاح الدين الأيوبي في التاريخ الإسلامي وهانيبال والأسكندر المقدوني ونابليون وغيرهم من القادة العسكريين العظماء في التاريخ الأوروبي خير دليل على ما نذهب اليه.
من هذه القواعد والتجارب التاريخية، يمكن تفسير الانتصار الساحق الذي حققه الأزد العمانيون في معركة سلوت تحت قيادتهم الشجاعة المتمثلة في مالك بن فهم. ولا غرر فإن المصادر تجمع على بأسه وشجاعته حيث كان يتقدم الصفوف الأولى في الحروب بجرأة نادرة وبسالة ذكرها المؤرخون بإعجاب. وكدليل على ذلك تذكر الروايات المتواترة أنه قبل بدء معركة سلوت، تقدم اليه أربعة قادة من أكابر المرازبة والأساروة الفرس (ممن كان يعد الرجل منهم عن ألف رجـل) [5]. وطلبوا منه أن يتقدم اليهم للمبارزة واحدا تلو الأخر، فنهض اليهم بكل جرأة، وتمكن من حصد رؤوسهم جميعا الا الرابع الذي لم ينجه سوى الفرار بعد أن راعه هول قتل زملائه أمام بصره ليرتد مذعورا نحو صفوف الفرس.
وكان الأسلوب القتالي الذي اتبعه مالك بن فهم ينم عن تقنيات فريدة ومستوى عال من التدريب العسكري إذ كان على معرفة دقيقة بقواعد الطعان، وهو ما يفسر قول الشيخ السالمي ابان حديثه عن مواجهته للفارس الثاني من مرازبة الفرس الذين طلبوا منه المبارزة: (ثم حمل الفارس الثاني على مالك وضرب مالكا، فلم تصنع ضربته شيئا، فضربه مالك على مفرق رأسه).[6]، مما يدل على اتقانه لأسلوب الدفاع والهجوم فضلا عن ذلك كان مالك بن فهم يعرف كيف يمتص حماس العدو المهاجم عن طريق الحيلة والذكاء ليحول هجومه إلى اندحار، وهذا ما عبر عنه الشيخ السالمي أيضا ابان حديثه عن صراع مالك بن فهم مع حاكم الفرس - المرزبان - حين قال: (ثم ان المرزبان حمل على مالك بالسيف حملة الأسد الباسل، فراغ عنه مالك روغان الثعلب وعطف عليه بالسيف فضربه على مفرق رأسه). وكانت ضرباته من القوة والبأس ما جعل سيفه يخترق الدرع والبيضة التي كان يلبسها قادة الجيش الفارسي الذي واجههم عن طريق المبارزة الفردية. فعندما قاتل الفارس الثالث أفلح في ضربه على عاتقه فقسمه قسمين. بل انتهى السيف إلى الحصان الذي كان يركبه (فرمى به قطعتين) [7]وهذا تعبير يفسر مدى قوة ضربات مالك بن فهم ويعطي الدليل على شجاعته وبأسه.
وللدلالة على دور شجاعة مالك بن فهم في صنع انتصار معركة سلوت يكفي القول أن المبارزات الفردية التي سبقت المعركة والتي أظهرت فيها ضوربا من البسالة قد أرهبت العدو ومهدت لانتصار الأزد خاصة بعد انتصاره على المرزبان نفسه، فقد فت ذلك في عضد الفرس، في الوقت الذي رفع معنويات الجنود العمانيين، فانطلقوا يثخنون قتلا وأسرا في جنود الفرس ويطاردونهم يمينا وشمالا حتى اضطروا إلى الاستسلام، وهذا يدل على أن شجاعة القائد مالك بن فهم وجنوده كان لها أثر كبير في صنع هذا النصر[8].
2- التخطيط العسكري المحكم
لقد وعى مالك بن فهم وجنوده الأزد أن حربهم مع الفرس ليست حربا متكافئة، فلم يكن عددهم يتجاوز 8 آلاف مقاتل، بينما وصل عدد الجيش الفارسي إلى 30 أو 40 ألفا حسب اختلاف الروايات، فضلا عن تفوقهم في العدة والعتاد، ولعل هذا ما جعل الفرس يحتقرون مالكا وقومه، فقابلوا طلبه بمنحه أرضا من عمان ليستقر بها بكثير من المهانة والازدراء، بل قادتهم عجرفتهم واعتدادهم بالجيش والأموال إلى رفض أي صيغة من صيغ التعايش معه، لذلك كان على مالك بن فهم أن يعتمد على التخطيط المنظم والبحث عن أفضل الاستراتيجيات العسكرية رغم ضعف العتاد والقوة البشرية لذلك بدأ تنظيمه من خلال الخطوات التالية التي تضمن له الانتصار:
1- تأمين قاعدة عسكرية خلفية وحماية من لا يستطيعون المشاركة في الحرب:
فمنذ هجرته إلى أرض عمان، كان مالك بن فهم يدرك أن معركته مع الفرس أمر لا مفر منه، لذلك بمجرد نزوله في قلهات، بدأ في العمليات الأولية فترك النساء والأطفال والمؤونة في موضع قلهات بشط عمان، ولم يرد أن يزج بهم في هذه المعركة لان ذلك قد يشكل دافعا يشجع الفرس على الاستيلاء على غنائمهم وسبي نسائهم وعيالهم، بل فضل أن يجنبهم ويلات الحرب وترك معهم حامية تقوم بالسهر على أمنهم، وتكون قاعدة خلفية يمكن الرجوع إليها في حالة الهزيمة، وهذه خطوات وقائية تأمينية لا يتبناها إلا القادة المتمرسون في شؤون الحرب.
2 - اجراء التدابير والاستعدادات الأولية اللازمة:
أدرك مالك بن فهم - بحكم خبرته في شؤون الحرب - أن جنوده يحتاجون قبل بداية المعركة إلى قسط من الراحة، لذلك أقام بناحية الجوف مدة لم تحددها المصادر. ويغلب على الظن أنها دامت عدة أيام، بعيدا عن عيون الفرس بدليل أنهم بنوا خلال هذه المدة فلجا بأمر من قائدهم عرف باسم فلج مالك، ولا يمكن أن نتصور أن بناء الفلج استغرق مدة قصيرة. وبناء الفلج في حد ذاته يحمل مغزى عسكريا لا يدركه الا الراسخون في أمور الحرب، ذلك أن الجيش يحتاج إلى الماء مصدر الحياة، وتلك حقيقة لم تغب عن مالك بن فهم. ولا يخامرنا شك في أن توفير الماء والراحة للجنود الأزد قبل بداية المعركة ساهم بنصيب وافر في صنع الانتصار.
3- ملاءمة موقع المعركة:
لا جدال في أن الموقع يؤثر دوما على أحداث التاريخ. ومن هذا المنظور لا نتردد في القول بأن الموقع ساهم بدوره في انتصار الأزد العمانيين، فموضع سلوت الذي وقعت فيه المعركة عبارة عن صحراء والصحراء هي المكان الملائم الذي اعتاد العرب على خوض الحروب فيه، فطبيعتها القاسية كانت من الأمور المألوفة لدى الأزد، بينما كان هذا المجال من البيئة يعاكس الجيش الفارسي الذي اعتاد على المناطق الأقل حرارة، ولم تكن لديهم الخبرة في حروب البيئة الصحراوية، لذلك سرعان ما أخذ بهم التعب والإجهاد كل مأخذ وانهارت معنوياتهم، مما ساهم في هزيمتهم.
4- التنظيم والتعبئة في صفوف الجيش:
قبل بداية المعركة اهتم مالك بن فهم بتسليح جيشه وتجهيزه أحسن تجهيز وتمكينه من السيوف والخيول والدروع وأكمة الحديد والبيض والجواشن. وكلها أسلحة هجومية ودفاعية أيضا تحسبا لأي طاريء، بعيدا عن الغرور والثقة العمياء، وكان هو شخصيا يلبس غلالة حمراء وعمامة صفراء.. ثم بدأ بتوزيع الجنود إلى كتائب، في جعل لكل كتيبة راية. وأخذ يمر عليها واحدة تلو الأخرى ليضع اللمسات الأخيرة، وهذا يدل على حرصه الدقيق على نجاح التعبئة في صفوف الجيش. ورغم أن المرزبان كان هو الآخر يقوم بتعبئة جيشه بالنفخ في الأبواق والضرب على الطبول اذكاء لحماسهم، فإن ذلك لم يجد نفعا لانهيار معنوياتهم وعدم وضوح الهدف الذي يقاتلون من أجله، إذ كانوا محتلين لأرض ليست أرضهم، لذلك لم تفلح الطبول في إذكاء الحمية التي تشحذ الهمم، على عكس الجيش العماني الذي كان جمرة متقدة من شدة الحماس للذوذ عن وطنه وأرضه التي اغتصبها الفرس، فكانت معنوياتهم مرتفعة إلى أقصى الحدود.
5- رصد أخبار العدو:
من خلال تتبع روايات المعركة يبدو أن مالك بن فهم كان يراقب العدو عن كثب، ويقف على أخباره أولا بأول، وهذا ما نستشفه من خلال الخبر الذي بلغه عن تجمع جيوش المرزبان بصحراء سلوت. ورغم أن المصادر لا تفصح عن كيفية بلوغ الخبر اليه، فالراجح أنه بث العيون لتتبع أخبار العدو ومراقبة سكناته وحركاته، لذلك لم يتمكن الفرس من إحداث عنصر المباغتة في المعركة. فلو حدث ذلك لكان فيه خسارة لجنود الأزد، لكن مالكا تفطن لذلك مما جعله مهيأ للمعركة، بل أنه فاجأ هو بنفسه الجيش الفارسي وفرض عليه الحرب في صحراء سلوت بدل قلهات.
6- رفع الروح المعنوية وزرع روح الحماس في جند عمان:
يعتبر التشجيع على القتال ورفع معنويات الجيش من المناهج النفسية لكسب المعركة قديما وحديثا. ولم تغب هذه الحقيقة عن مالك بن فهم إذ استعمل كل ما يملك من الوسائل المتاحة لرفع معنويات جيشه وزرع الثقة في مقدراتهم القتالية. وفي هذا السياق استعمل سلاح العرب الفعال وهو الخطبة. ومعلوم أن الخطبة لها وقع مؤثر على نفسية الجنود، ناهيك عن دورها في ايقاظ الهمم وكسب الثقة.
ويورد المؤرخ السالمي نص الخطبة التي ألقاها مالك بن فهم على كل كتيبة من كتائب الأزد، ومما جاء فيها: (يا معشر الأزد أهل النجدة والحفاظ، حاموا عن أحسابكم وذبوا عن مآثر آبائكم وقاتلوا وناصحوا ملككم وسلطانكم، فإنكم إن انكسرتم وهزمتم اتبعتكم العجم في كافة جنودكم، فاختطفوكم واصطادوكم من كل حجر ومدر)[9].
والواضح من هذا المقطع من الخطبة، أن مالكا استهدف ايقاظ الهمم وترسيخ الثقة في نفسية جنوده وابراز إمكانياتهم القتالية الهائلة، وهو ما يتجلى في وصفه لهم بأنهم (أهل النجدة والحفاظ). كما وظف بمهارته وفطنته مسألة النسب العربي لاذكاء الحمية العربية من خلال تصوير الحرب بأنها معركة مصير بين عرب وعجم. وفي الوقت ذاته حذر من عواقب الهزيمة، فبين لمخاطبيه أن الفرس لن يرحموهم إذا ما انتصروا عليهم، ومن ثم لا يبقى لجنود الأزد العمانيين سوى خيارين لا ثالث لهما: إما النصر واما الاستشهاد، فكان ذلك حافزا لجنوده على المزيد من الاستبسال في المعركة.
7 - استعمال أساليب قتالية مبتكرة للقضاء على تفوق العدو العسكري:
كان عنصر القوة الضاربة في الجيش الفارسي يتجل في استخدام الفيلة في حروبهم بيد أن مالك بن فهم عرف كيف يغير هذه المعادلة ليجعل نتيجتها عكسية تماما، فقد ابتكر أسلوبا جديدا لمواجهة الفيلة يقضي بضرب خراطيمها بالسيوف ورشق عيونها بالنبال، مما أدى إلى تراجعها مذعورة إلى الخلف، وأثناء ارتدادها كانت تطأ على أجساد الجنود الفرس، فتحولت بسبب ذلك من أداة للهجوم في ميدان الأعداء إلى أداة فناء وموت محقق لهم حيث قتل الآلاف منهم وتحولوا بهذه الطريقة البشعة إلى أكوام من الجثث. وهذا الأسلوب نفسه سيستعمله العرب المسلمون - فيما بعد - في حرب القادسية الشهيرة.
8- سرعة اتخاذ القرار الناحج واستغلال الفرص ابان المعركة:
عرف مالك بن فهم الأوقات المناسبة التي كان يتخذ فيها القرار الجريء لسير المعركة كما عرف كيف يستغل الفرص الملائمة لكسب المز يد من النصر، فعندما رأى هيجان الفيلة وتراجعها. أصدر قراره باكتساح قلب الجيش الفارسي وتطويق باقي الأجنحة، مما جعل الذعر والهلع يدب في الجيش الفارسي والاضطراب يتفشى في صفوفه، فاستغل جيش الأزد تلك الفرصة لاكتساحهم فأثخنوا فيهم قتلا وتشريدا. وعندما نجح مالك بن فهم في قتل المرزبان - وهو القائد الأعلى للجيش الفارسي - لم يترك هذه الفرصة تضيع لأن قتله أدى إلى احباط كبير وانهيار في معنويات الجيش الفارسي، فوجه أمره الفوري بالقيام بهجوم كاسح (فقتل منهم خلق كثير)[10]، وهكذا يتبين أن اتخاذ القرار السريع وفي اللحظة المناسبة أسفر عن هزيمة الفرس في هذه المعركة.
9- طاعة الجند العمائي ومحبتهم لقائدهم:
في ليلة المعركة أخذ مالك بن فهم يتفقد الكتائب العسكرية ويوجه إليها الأوامر الواجب اتباعها خلال القتال، فأمر قائد كل كتيبة أن يبقى جنوده في مكان مناسب عينه له، كما وجه أمره إلى ابنيه هناءة لقيادة ميمنة الجيش وفراهيد لقيادة شماله، بينما تولى هو شخصيا قيادة القلب المتكون من أشد الجنود تمرسا في الحروب.
وكانت كل أوامره تتلقى بالسمع والطاعة من طرف جنوده لثقتهم في قائدهم وصحبتهم له، ولم نعثر على نصوص تؤكد مخالفة أي كتيبة لأوامره التي كان يقررها بدون تردد ويتحمل فيها كامل المسؤولية، وكان جيشه ينفذها حرفيا دون تلكؤ. ولعل هذه الطاعة والمحبة المتبادلة بين الجند والقائد، كلها عوامل ساهمت في خلق شروط النصر.
10- الصبر والثبات في القتال:
أعطى جنود الأزد خلال معركة سلوت مثالا صارخا في الصبر والثبات، فلم تثنهم عزيمة الحرية والانعتاق عن ترك أبنائهم ونسائهم في قلهات، وتحمل الصبر على فراقهم من أجل طرد الفرس من عمان. وابان المعركة أبانوا عن صبر وجلد قل نظيره، ولا غرر فقد كانوا يقاتلون طوال النهار دون توقف، ولم يكن يحل بينهم وبين مواصلة القتال سوى الليل، واستمروا على هذه الوتيرة ثلاثة أيام حتى انبلج النصر. ولولا ثباتهم وصبرهم في المعركة رغم شراستها، ووقوفهم وجها لوجه أمام جيش مدجج بالسلاح، لما أمكن تحقيق هذا المكسب العسكري الهام.
11- التشبث بقيم المروءة والشرف:
ان الجانب الأخلاقي في الحروب يبقى من الشيم العربية الأصيلة، ولا شك أن هزيمة الفرس واستسلامهم وطلبهم الهدنة ترجع إلى ما لاحظوه في جند عمان وقائده من مروءة وشرف وحفاظ على العهود والمواثيق. فمالك بن فهم لم يبدأ الحرب ضدهم الا بعد أن يئس من أي حل سلمي معهم وذلك عندما حدت بهم غطرستهم إلى الامتناع كليا عن منحه موطيء قدم في أرض عمان رغم شساعتها[11]. وقد انتظر الأزد مدة طويلة ليقفوا على جواب المرزبان، وكان بالإمكان أن ينفد صبرهم ويدقوا طبول الحرب عليهم، لكنهم فضلوا التعامل بمستوى أخلاقي حضاري يقوم على مبدأ السلم والمهادنة، غير أن رفض الفرس لأي حل مرض فرض عليهم الدخول في هذه المعركة التي لم تكن بالنسبة لهم غاية في حد ذاتها وانما وسيلة.
نفس الشيء، يقال عن تعامل مالك بن فهم مع الفرس، بعد أن كبدهم هزيمة نكراء، فقد كان بإمكانه أن يبدد شملهم ويستأصل شأفتهم ويمزقهم شر ممزق، لكن مروءته أملت عليه ضرورة الكف عن أبادته، بل ذهب إلى حد عقد معاهدة سلمية معهم رغم أن ميزان القوى العسكري كان في صالحه. ناهيك عن تميز الجند العماني بحفظ المواثيق والعهود إذ لم يدخر وسعا في احترام الهدنة المعقودة مع الفرس لولا أن هؤلاء بأمر من امبراطورهم دارا بن دارا بن بهمن تنكروا لهذه الاتفاقية وأعلنوا الحرب مجددا ضد الازد في ديارهم، مما أسفر عن تجدد الصراع الذي انتهى بنصر عسكري نهائي لأزد عمان.
والخلاصة أن الانتصار المحقق في معركة سلوت لم يكن - كما أثبت التحليل - وليد الصدفة أو الحظ، بل جاء في سياق خطة مدروسة واستراتيجية حربية بعيدة العمق، وقيادة واعية متمرسة بشؤون الحرب، فضلا عن شجاعة وبسالة وأخلاق حضارية تميز بها جنود عمان الأشاوس.
الهوامش
1- سميت هذه المعركة باسم سلوت نسبة إلى الموقع الذي جرت فيه وهو صحراء سلوت. وقد استمرت هذه الحرب التي لا يعرف تاريخها بالضبط ثلاثة أيام.
2- انظر تفاصيل هذه المعركة في كتابه: تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، ج 1 وقد عالجها من ص 23 إلى ص 30.
3- ينظر في تفاصيل المعركة الأولى وحيثيات انتصار المسلمين فيها: ابن هشام: تهذيب سيرة ابن هشام، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة السنة، القاهرة 1989 (طبعة 6) ص 122 وما بعدما، وعن غزوة الأحزاب ينظر نفس المصدر، ص 168 وما بعدها.
4 - عن معركة حطين. انظر: فايد حماد محمد عاشور: الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين في العصر الأيوبي، دار الاعتصام، القاهرة (دون تاريخ)، ص 125 وما بعدها. وانظر كذلك: سعيد علي الحريري: الحروب الصليبية: أسبابها - حملاتها - نتائجها. دار التضامن للطباعة والنشر والتوزيع - مؤسسة دار الكتاب الحديث، بيروت 1988، ص 148 وما بعدها، ويمكن الرجوع أيضا إلى وقائع ندوة الاحتفال بذكرى حطين صلاح الدين تحت عنوان: ثمانمائة عام حطين صلاح الدين والعمل العربي الموحد، دار الشروق، القاهرة 1989.
5- تحفة الأعيان، ص 26.
6- المرجع نفسه، ص 27.
7- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
8- سليمان بن خلف الخروصي: ملامح من التاريخ العماني، الطبعة الثانية 1995، ص 99- 100.
9- نور الدين السالمي: م. س، ص 26.
10- المرجع نفسه، ص 28.
11- وندل فيليبس: تاريخ عمان، ترجمة محمد أمين عبد الله، الطبعة الرابعة 1994، ص 14.