الافتراء كلمة عربية يقصد بها الكذب في حق أحدهم سوءًا. وعُدت صفةً مذمومةً عند الإنسان على مر الزمان. ويرى المسلمون أنَّ هذه الصفة شكلٌ من أشكال الظلم، وقد ذُكرت بعض أنواعها في كتابهم المقدس (القرآن) على وجه التحذير، وكان أشده الافتراء على الله. كما نهى عنها نبي الإسلام محمد في مواضع مختلفة. ولذلك حذر منها أيضًا فقهاء الإسلام من بعده، ويرى بعضهم أنَّها أكبر الذنوب. فخصصوا لتلك الصفة أبوابًا في كتبهم، وخطبهم، كما فصلوا في أنواعها لتبيانها والتحذير منها وبيان أسبابها وآثارها وطرق معالجتها، وجمعوا فيها أقوال السلف وشعر العرب الذي قيل في بيانها.
تعريف الافتراء
والافتراء لغةً: مصدر افترى يفتري افتراءً: إذا كذب، وفرى كذبًا فريًا: اختلقه. والفرى: جمع فرية وهي الكذبة[1]. واصطلاحًا: قال العسكري: (الافتراء:الكذب في حقِّ الغير بما لا يرتضيه) [2]. وقال السيوطي: (الافتراء: اختراع قضية لا أصل لها)[3]. وقال الكفوي: (الافتراء: هو العظيم من الكذب، يقال لمن عمل عملًا فبالغ فيه: إنه ليفري الفرى. ومعنى افترى: افتعل واختلق ما لا يصحُّ أن يكون؛ وما لا يصحُّ أن يكون أعمُّ مما لا يجوز أن يقال، وما لا يجوز أن يفعل)[4].
الفرق بين الافتراء وبعض الصفات
- الفرق بين الكذب والافتراء والبهتان:
البهتان: هو الكذب الذي يبهت سامعه، أي: يدهش ويتحير، وهو أفحش الكذب؛ لأنَّه إذا كان عن قصد يكون إفكًا[5]. وقال أبو هلال العسكري: (البهتان: هو الكذب الذي يواجه به صاحبه على وجه المكابرة له) [6].
والكذب: يكون في حق النفس، وحق الغير، والافتراء والبهتان: يكون في حق الغير فقط. والكذب: يَحْسُن في بعض الأحوال، كالكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وعلى الزوجة، ولا يحسن الافتراء والبهتان في جميع الأحوال.
- الفرق بين الزور والبهتان:
-الزور: هو الكذب الذي قد سُوِّي وحُسِّن في الظاهر؛ ليحسب أنه صدق.
- البهتان: هو مواجهة الإنسان بما لم يحبه وقد بهته [7].
في الإسلام
نهى الإسلام عن الافتراء، وقال سبحانه (في سورة الأحزاب) فيمن يتكلم أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه:
﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾
قال ابن كثير: (فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا، وهذا هو البهت البيِّن أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقُّص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة، ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم)[8].
وقال الطبري: (فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا يقول: فقد احتملوا زورًا وكذبًا وفرية شنيعة، وبهتان: أفحش الكذب، وإثمًا مبينًا يقول: وإثمًا يبين لسامعه أنَّه إثم وزور) [9]. وقال تعالى (في سورة العنكبوت):|﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ وقال ابن كثير لا أحد أشدُّ عقوبة ممن كذب على الله، فقال: إنَّ الله أوحى إليه شيئًا، ولم يوحَ إليه شيء، ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله وهكذا لا أحد أشدُّ عقوبة ممن كذَّب بالحقِّ لما جاءه، فالأول مفترٍ، والثاني مكذِّب ولهذا قال: أليس في جهنم مثوى للكافرين)[10].
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: ومن أظلم أيُّها الناس ممن اختلق على الله كذبًا- فقالوا إذا فعلوا فاحشة: وجدنا عليها آباءنا، والله أمرنا بها، والله لا يأمر بالفحشاء- أو كذَّب بالحقِّ لما جاءه)[11].
وقال تعالى (في سورة الممتحنة):| ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
قال السعدي في قوله تعالى: ((وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ))
البهتان: الافتراء على الغير، أي: لا يفترين بكلِّ حالة، سواء تعلَّقت بهنَّ وأزواجهنَّ، أو سواء تعلَّق ذلك بغيرهم[12].
كما نهي عنها في السنة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ أعظم الناس فرية اثنان: شاعر يهجو القبيلة بأسرها، ورجل انتفى من أبيه)
قال المناوي: ... ((أعظم الناس فرية)) -بالكسر- أي: كذبًا، ((اثنان)) أحدهما: ((شاعر يهجو)) من الهجو ((القبيلة)) المسلمة ((بأسرها)) أي كلَّها؛ لإنسان واحد منهم كان ما يقتضيه؛ لأنَّ القبيلة لا تخلو من عبد صالح، فهاجي الكلِّ قد تورَّط في الكذب على التحقيق؛ فلذلك قال: أعظم فرية)[13].
وعن أبي هريرة "رضي الله عنه" أنَّ رسول الله ﷺ قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه)) [14]
قال النووي يقال بهتَه قلتَ فيه البهتان، وهو الباطل، والغيبة ذكر الإنسان في غيبته بما يكره، وأصل البهت أن يقال له الباطل في وجهه، وهما حرامان[15].
عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله ﷺ: ((إنَّ مِن أعظم الفِرَى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يُري عينه ما لم ترَ، أو يقول على رسول الله ﷺ ما لم يقل))[16].
وعن عبادة بن الصامت "رضي الله عنه" - وكان شهد بدرًا وهو أحد النقباء ليلة العقبة-: أنَّ رسول الله ﷺ قال -وحوله عصابة من أصحابه-:|((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا، فعوقب في الدنيا، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا، ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه)) فبايعناه على ذلك [17].
قال البغوي: (معنى الحديث لا تبهتوا الناس افتراءً واختلافًا بما لم تعلموه منهم، فتجنوا عليهم من قبل أيديكم وأرجلكم، أي: قبل أنفسكم جناية تفضحونهم بها، وهم برآء، واليد والرجل كناية عن الذات)[18]
صور وأنواع الافتراء
- الافتراء على الله تعالى، ومن صوره:
- التشريع في دين الله من غير المستند الشرعي، قال تعالى (في سورة يونس): ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴾
- الإفتاء من دون علم، قال تعالى (في سور النحل): ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾
- ادعاء الولاية، والكرامة، قال تعالى: ((ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ..)) [الأنعام:93]
- الكذب في الرؤيا:
عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: (إن من أفرى الفرى أن يُري عينه ما لم ترَ)[19].
- الافتراء على الأنبياء والرسل:
قال تعالى (في سورة المؤمنون): ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾
وفي حديث واثلة بن الأسقع يقول: قال رسول الله ﷺ: وفيه((أو يقول على رسول الله ﷺ ما لم يقل))[20].
- الافتراء بانتساب الرجل إلى غير أبيه:
فعن أمِّ المؤمنين عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: (إنَّ أعظم الناس فِرْيَة... ورجل انتفى من أبيه وزنَّى أمه)[21].
- هجاء وسبُّ المؤمنين الأبرياء:
عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: (إن أعظم الناس فرية لرجل هاجى رجلًا فهجا القبيلة بأسرها)[21].
قصص عن الافتراء والبهتان
كانت قصة حادثة الإفك حيث اتهم المنافقون عائشة رضي الله عنها حتى أنزل الله براءتها في القرآن في سورة النور، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ والقصة مشهورة معروفة وهي في الصحيح)[22]
في أمثال وأشعار العرب
وقال منصور بن إسماعيل[23]:
هبني تحرزتُ ممن ينمُّ بالكتمانِ | فكيف لي باحترازٍ مِن قائلِ البهتانِ |
- قولهم ((يا للأفيكة)):
وهي فعيلة من الإفك وهو الكذب.
- وقولهم: ((يا للبهيتة)):
وهي البهتان.
- وقولهم: ((يا للعضيهة)):
هي مثلهما في المعنى. يضرب عند المقالة يرمى صاحبها بالكذب، واللام فيها كلِّها للتعجب[24].
المراجع
- النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/341)، ولسان العرب لابن منظور
- الفروق اللغوية (كتاب) لأبي هلال العسكري (ص1/449)
- معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم للسيوطي (1/207)
- (الكليات) للكفوي
- (الكليات) للكفوي (154)
- الفروق اللغوية (كتاب) لأبي هلال العسكري (ص1/450)
- الفروق اللغوية (كتاب) لأبي هلال العسكري (ص1/47)
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ص6/480)
- جامع البيان في تفسير القرآن للطبري(ص20/324)
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ص6/295)
- جامع البيان في تفسير القرآن للطبري(ص20/62-63)
- تيسير الكريم الرحمنللسعدي(ص857)
- فيض القدير (2/7)
- رواه مسلم (2589)
- شرح النووي على صحيح مسلم (16/142)
- رواه مسلم (2475) والبخاري (30/35)
- رواه مسلم (1709) والبخاري (18)
- (شرح السنة) (1/62)
- رواه البخاري (7043)
- رواه البخاري(3509)
- رواه ابن ماجه وابن حبان والبيهقي، وصححه الوادعي في الصحيح المسند (1646)، وصححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه) (2922)
- رواه البخاري(4750)
- [الطيوريات، لأبي طاهر السلفي (2/259)]
- [مجمع الأمثال، للميداني، (2/412)]