بدأت حالة البلاد المالية مزدهرة في أوائل حكم إسماعيل إذ صادفها الحرب الأهلية الأمريكية التي أدت إلي نقص محصول القطن الأمريكي وصادراته، وزيادة إقبال المصانع على القطن المصري وارتفاع أسعاره، فكانت سنوات الحرب سنوات يسر ورخاء لمصر.
كان محصول القطن المصري سنة 1860 لا يزيد عن نصف مليون قنطار تقريباً، بيع بثمن مقداره 1.107.887 ج، وبلغ 596.200 قنطار سنة 1861 وبيع في تلك السنة بمبلغ 1.430.880 ج، ثم صعد في السنوات التالية وتضاعف سعره كما تراه في البيان الآتي :
السنة | صادرات القطن | متوسط سعر القنطار | |
---|---|---|---|
سنة 1861 | 596.200 قنطار | 280 | |
سنة 1862 | 721.052 قنطار | 460 | |
سنة 1863 | 1.181.888 قنطار | 725 | |
سنة 1864 | 1.718.791 قنطار | 900 | |
سنة 1865 | 2.001.169 قنطار | 635 |
فترى من هذه المقارنة مبلغ الزيادة الكبيرة في الثمن، ويتبين منها مقدار ما دخل البلاد من النقد مقابل بيع القطن ن وترى أيضاً مقدار اطراد الزيادة في المحصول ذاته، ولا غرو فإن ارتفاع أسعار القطن زاد في إقبال الناس على زراعته، فصار محصوله سنة 1865 أربعة أمثال ما كان عليه سنة 1860.
ويتبين من الجدول الآتي اطراد الزيادة في سعر القنطار من رتبة جودفير مدى السنوات الخمس التي استمرت فيها الحرب الأمريكية مع مقارنتها بالسنتين السابقتين عليها :
السنة | أقل سعر للقنطار (بالريال) | أقصى سعر للقنطار (بالريال) | |
---|---|---|---|
سنة 1859 | 10.5 | 14.5 | |
سنة 1860 | 11 | 13 | |
سنة 1861 | 11.5 | 17.5 | |
سنة 1862 | 16 | 32 | |
سنة 1863 | 30 | 46.5 | |
سنة1864 | 37 | 52 | |
سنة 1865 | 22.5 | 41 |
على أنه لم تكد الحرب الأمريكية تنتهي سنة 1865 حتى حدث رد فعل في أسعار القطن، وبدأت الأزمة في مصر تلك السنة، لما كان متوقعاً من منافسة المحصول الأمريكي للقطن المصري، ويتبين من الجدول الآتي تناقص أسعار القطن ومحصوله مدي السنوات التي أعقبت الحرب.
السنةصادرات القطن بالقنطارمتوسط سعر القنطار 18652.001.169635
18661.288.762705
18671.260.946450
18681.253.455380
18691.289.714460
18701.351.797390
18711.966.215315
كان من نتائج صعود أسعار محصول القطن في سنوات الحرب الأمريكية أن انغمس الأهالي في الترف والإسراف، وتوسعوا في النفقات، واستدانوا من المرابين بفاحش الفوائد بأمل استمرار الصعود في أسعار القطن، ولم يتبصروا العواقب، فركبتهم الديون، وأخذت الحالة تشوء في نهاية سنة 1865 ـ إذا أخذ الدائنون يطالبون بديونهم، وحدثت أزمة عالجتها الحكومة بالتدخل بين المدينين دائنيهم صونا للثروة العامة، وضنا بها أن تنتقل إلي أيدي المرابين والتجار والماليين الأجانب، فتعهدت بسداد ديون الاهليين على أن ترجع بها عليهم.
تأثرت الحالة المالية بسبب هذه الأزمة، على أنها لم تكن السبب الوحيد لسوء الحالة، وقد كانت أزمة طارئة لا تلبث إذا عولجت بالحكمة وحسن التدبير أن تزول وتعود البلاد سيرتها من الثبات والتقدم، ولكن السبب الجوهري لسوء الحالة هو توالي الديون الفادحة التي اقترضها الخديوي إسماعيل، فإن هذه القروض قد حملت البلاد حكومة وشعباً عبئاً فادحاً عجزت آخر الأمر عن احتماله، وناهيك بقروض أفضت بالحكومة إلي الإعسار وتدخل الدائنين في إدارتها، فكان شأنها شأن المدين الذي ركبته الديون وعجز عن السداد ووضعت أملاكه وأمواله تحت الحراسة القضائية.
فالقروض إذاً هي السبب الأساسي لسوء حالة البلاد المالية، وقد ظهر أثرها في اختلال توازن الميزانية، إذ ابتلعت فوائد الديون معظم موارد الدخل، ولم يبق من هذه الموارد إلا النزر اليسير لإنفاقه على حاجات البلاد ومرافقها.
الميزانية في عهد إسماعيل
لم يكن للحكومة ميزانية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، لأن الخديوي لم يفرق بين مالية الحكومة وماليته الخاصة، بل كان يعتبرهها أمراً واحداً، وكانت أموال الدول رهن إرادته، يتصرف فيها كما لو كانت أمواله الخاصة، ومن هنا جاء الخلل وسوء الإدارة وضياع الأموال بغير حساب ولا رقيب، ولا يمكن أن يطلق لفظ " ميزانية " على تلك الأرقام الإجمالية التي كانت الحكومة تنشرها عن إيراداتها ومصروفاتها، لان هذه الأرقام لا تبين حقيقة الإيراد والمنصرف، ولم تكن مطابقة للواقع، فإن كثيراً من أبواب الإيراد كانت تغفل في الميزانية، ولا يعرف أين تذهب متحصلاتها، ولم يكن من المحتمل أن ميزانية يتولى وضعها وتنفيذها وزير مالية مثل إسماعيل باشا صديق مدة ثماني سنوات متوالية تكون ميزانية جدية يعرف منها حقيقة الدخل والخرج، بل لابد أن تكون مثال الفوضى والخلل، ولم يكن للمجلس الخصوصي (مجلس الوزراء) ولا لمجلس شورى النواب تأثير فعلي في المسائل المالية، بل كانت إرادة الخديوي هي القانون، وأوامره، حتى الشفوية، هي النافذة في كل الشؤون.
ميزانية سنة 1871 – 1872
ننشر هنا ميزانية سنة 1871 – 1872 كنموذج للميزانية في ذلك العهد :
الإيرادات
بيانجنيه أموال وعشور الأطيان بما فيها المتحصل من ضريبة السدس 4.523.665
عشور ونخيل143.035
ويركو (ضريبة) أرباب الحرف مربوطة على اعتبار المشغولات155.580
رسوم المحاكم الشرعية وعوائد مبيعات الأطيان والأملاك وعوائد الأوزان وعوائد الذبيح وغيره 86.780
أموال جهات الوحات7.920
عوائد زيوت وأملاك 14.015
إيجار أطيان الميري29.890
عوائد كورنتينه وغيره 600
إيراد الجمارك 492.110
صافي إيراد السكك الحديدية 562.885
صافي إيراد السودان100.000
إيراد الملاحة175.000
أرباح أسهم قناة السويس 170.310
أرباح ورق التمغة وتمغة المصوغات وغيره بالمالية185.000
أموال الالتزامات وهي التزام المطرية والرسالة والنطرون والأسماك وغيره وإيرادات الهاويسات 285.795
إيجار أطيان وأملاك الميري ورسوم مبيعات الأملاك والأطيان بمصر وإسكندرية ودمياط ورشيد 185.500
إيراد المحافظات 202.535
مجموع الإيراد 7.293.620
المصروفات
مخصصات الخديوي 300.000
مخصصات العائلة الخديوية 110.725
ويركو الاستانة (الجزية) 658.335
ديون الداخلية وأعضاء المجلس الخصوصي (مجلس الوزراء)26.800
ديون الجهادية والمدارس الحربية700.000
ديون المالية وملحقاته151.710
ديون البحرية ووابورات النيل 210.000
ديون الخارجية 9.015
مجلس الأحكام ومجالس الدعاوي والاستئناف ومجلس التجار (المحكمة التجارية)33.610
مديريات الأقاليم بحري وقبلي 148.015
ديون الاشغال العمومية 17.875
مجلس الصحة والاسبتاليات 36.345
دواوين المحافظات 85.225
ضبطيات مصر والإسكندرية 89.280
ديون المدارس (وزارة المعارف) ومكتبات الدروس 53.020
ديوان الجمارك28.300
مرتبات ومعاشات
بيانجنيه
مرتبات حريم وإشراقات 17.950
مرتبات أرباب المعاشات والموظفين 213.160
قيمة المرتب إلي الأشخاص المستودعين 42.865
مخصصات الحج الشريف والتكايا 66.770
ربح أسهم قناة السويس الذي أعطي لها لمدة معلومة مقابل ثمن الأملاك والأراضي 170.310
احتياطي 200.000
مخصصات القروض
دفعية قرض سنة 1862-258.500
دفعية قرض سنة- 1864 -604.785
دفعية قرض سنة 1868-929.460
القومبونية المجيدية -51.480
قرض السكة الحديدية -572.810
دفعيات الأشغال العمومية الجارية وذلك عن المستحق في سنة 1288 هـ
بيانجنيه
إنشاء رصيف ميناء الإسكندرية 292.500
إنشاء ميناء السويس 138.870
إنشاء الترعة الإسماعيلية بما فيها عمليات القناطر115.725
كوبري قصر النيل28.930
تطهير ترعة المحمودية 53.900
تركيب فنارات السويس 2.825
مجموع المنصرف 6.419.095
الزيادة (المزعومة) في الميزانية
الإيراد7.293.620
المنصرف 6.419.095
الوفر (المزعوم)874.525 ج
وكانت الأرقام الأرقام التي كانت الحكومة تنشرها عن الميزانيات السنوية وتقدمها لمجلس شورى النواب مدعاة للشك في صحة هذه الأرقام، فإن ما ورد فيها من زيادة الدخل على الخرج لا ينطبق على الواقع، ولما تولت لجنة التحقيق الأوربية فحص الميزانية من سنة 1877 تبين مبلغ ما فيها من العجز وإليك البيان :
السنة | الإيراد بالجنيه | المنصرف بالجنيه | العجز بالجنيه |
---|---|---|---|
1877 | 9.589.900 | 10.972.100 | 1.382.200 |
1878 | 7.432.982 | 10.873.548 | 3.440.566 |
1879 | 9.949.000 | 10.330.000 | 381.000 |
الضرائب
لم تكن للضرائب قاعدة معلومة ولا قوانين أو لوائح يعرف منها حدود ما يجبى من الاهليين ومواعيد الجباية، بل كانت المسألة متروكة لاهواء الحكومة، وكان يكفي كما احتاج وزير المالية إلي النقود أن يطلب من كل مدير مبلغاً من المال " لاحتياج الحكومة إليه "، فيصدع المدير بالأمر من غير بحث فيما إذا كانت المديرية أدت ما عليها من الضرائب أم لا، فيوزع المال المطلوب على المركز ويؤمر كل عمدة بتحصيل نصيبه في هذا المطلوب، فهوى الحكومة إذاً كان أساس النظام المالي وقاعدة الضرائب في ذلك العصر، ولم يكن ثمة رقابة على مقدار ما يجبى وما يدخل خزائن الحكومة، بل كانت الأيدي تتقاسمه من يوم جبايته إلي حين إنفاقه.
كتب القاضي الهولندي فان بملن يصف هذه الحالة كما شاهدها بقوله : " كانت الأمور تجري في عهد الخديوي السابق (إسماعيل باشا) ووزير ماليته المفتش (إسماعيل صدقي) على المنوال الآتي :
يؤدي المدير كل مرة إلي وزير المالية المبلغ المطلوب منه، ولا يصل كله إلي حزائن الحكومة، بل يقتطع الخديوي جزء منه، ثم يليه المفتش فيقتطع جزء أخر والمدير لا يفوته قبل ذلك أن يستبقي لنفسه نصيباً مما جباه، ومأموري المراكز يسبقون المدير إلي هذه الوسيلة، ولم يكن ثمة عقبات تعترض هذه التصرفات، لأن القوانين المالية كانت مبهمة غامضة، والضرائب تجبى أحياناً مقد مة، وقد تجبي الحكومة أكثر مما تستحقه، ولا يستطيع الممولون أن يرفعوا شكواهم، وإذا شكوا فلا تسمع لهم شكوى، لأن الحكومة لا تعطي إيصالات بما يدفع لها من الأموال، لأن الناس يعيشون في جو من الاستبداد والمحسوبية والإرهاب " ولم تكن الضرائب موزعة على الأهالي توزيعاً عادلاً، بل كانت الأهواء تتحكم في إعفاء المتصلين بالخديوي وحاشيته، وإرهاق الفلاحين بفادخ الأتاوات لسد العجز في ميزانية الحكومة، وكانت أطيان الخديوي لا تدفع الضرائب، وبالرغم من قرار مجلس شورى النواب في دور انعقاده الثاني سنة 1868 في تعديل الضرائب وجعل ترتيب درجاتها منوطاً بمندوبي الحكومة ومن يرافقهم من العمد والأعيان فإن العدل كان أبعد ما يكون في ربط الضرائب على الأطيان أو على النخيل.
وقد زادت الضرائب في عهد ‘سماعيل زيادة مطردة، وبدأت الزيادة منذ تورط في القروض، إذ لم يجد مورداً لسداد فوائدها السنوية سوى زيادة الضرائب، فكان يزيدها كلما احتاج إلي المال لينفقة على مطالبه الكثيرة وعلى سداد فوائد الديون.
من أجل ذلك أبتدعت الحكومة أنواعاً جديدة من الضرائب، كالسدس، والرأي والأعانة والمقابلة، وضريبة ترعة الإبراهيمية، وهي ضريبة إضافية فرضت على الأطيان المنتفعه من هذه الترعة، وما ربط من العوائد على المباني، ومعاصر الزيوت ومعامل الدجاج، وما تقرر على الدواب، وضريبة المواشي وعوائد الأغنام، وعوائد دواب الركوب، والعربات بمصر والإسكندرية وما فرض على الأشخاص مثل الويركو، أي الضريبة على أرباب الحرف والصناعات، والضريبة الشخصية، وعوائد الرخص والقبانية والدلالة على ما يباع من المصنوعات، وعوائد الصوف، والدخولية، وضريبة الملح، ورسم القيدية وكان يؤخذ بحساب عشرين قرشاً على كل عرض مقدم لأحدى دوائر الحكومة الخ.
وبلغ ما كان يدفع من المال وملحقاتة عن الفدان الواحد في بعض السنوات خمسة جنيعات ونصف كما تقدم بيانه، ة هة مبلغ ينوء به المالك ويزيد عما يجبى الآن من الضريبة على الفدان عما كان يجبى في عهد سعيد باشا.
كان ازدياد الضرائب على هذا النحو عبئاً فادحاً، بل ظلماً بالغاً لأن المالك لم يكن يبقى له من غلة أرضه شيء يذكر بعد أداء الضرائب وملحقاتها، فلا عجب أن تؤدي هذه الحالة بالأهليين إلي الضنك والبؤس، وكانوا في كثير من الأحوال يضطرون إلي بيع حاصلاتهم بابخس الأثمان، قبل أوان نضجها ليؤدون من ثمنها قيمة الضريبة وكذلك كانوا يضطرون إلي بيع مواشيهم، وقد نشأ عن فداحة الضرائب أن هجر كثير من الملاك أراضيهم وتركوها بوراً وقد سمي هؤلاء " المتسحبين " وكثر عددهم بحالة أقلقت بال الحكومة ومجلس شورى النواب، فوضعت قانوناً لتوزيع أطيان المتسحبين كما تقدم بيانه.
وزاد الحالة بلاء وضنكاً سوء نظام الجباية وما أشتهر عن عمالها في ذلك الحين من الظلم والرشوة والقسوة والأرهاب، وكانت الحكومة لاضطرارها إلي المال تجبي الضرائب مقدمة، وخاصة في سنوات العسر المالي، فكانت تكره الأهليين على أداء الضريبة قبل حلول موعدها بتسعة أشهر وفي بعض الأحيان بسنة كاملة.
وإزدادت حالة الأهليين عسراً وضنكاً بعد فرض نظام الرقابة الثنائية الأوروبية وتأليف الوزارة المختلطة، فإن العنصر الأوروبي في الحكومة لم يكن يعنيه إلا أن تجبيى الضرائب بمنتهى القسوة لوفاء أقساط الديون، وجاء نقص النيل سنة 1877 نقصاً جسيماً لم يسبق له نظير في عهد إسماعيل، فزاد الحالة الأقتصا دية سوءً إذ حرمت أطيان باكملها وخاصة في الوجة القبلي من الزراعة، وظهرت عواقب هذا النقص سنة 1878، فاشتد الكرب بالناس وحدثت بالوجه القبلي مجاعة نشأت عن بوار الزراعة وفداحة التكاليف واقتضاء الضرائب مقدمة، ومات بسبب هذه المجاعة عشرة الآف شخص ونيف، معظمهم من مديريات جرجا وقنا وإسنا، فكانت هذه الأيام من أسوء ما رأته البلاد من البؤس والشقاء الأقتصادي.
وكان من نتائج زيادة الضرائب والإرهاق في جبايتها أن أضطر الفلاحون من أجل أدائها إلي الاستدانة، لأن عمال الجباية كانوا يجبون الضرائب بالكرباج لأكراه الأهالي على أداء ما يطلب منهم، وكان الأهالي يختارون أهون الشرين، فيستدينون من المرابين ما يطلب منهم من المال، ومن هنا تفاقمت ديون الأهالي فقد أستهدفوا لأفة الاقتراض بالربا الفاحش، حتى ركبتهم الديون، ونزعت أملاك الكثيرين منهم، وكان المرابون كلهم أو معظمهم من الأجانب، أو من في حكمهم من الرعايا المشمولين بالحمايات الأجنبية، فتغلغلوا من ذلك الحين في أملاك الأهالي، وازداد نفوذهم وسلطانهم، وأخذو يجمعون الثروات الضخمة، ويستعبدون الأهالي، ومن ثم تعرضت الملكية العقارية في مصر للخطر.
فحق ملكية الأطيان الزراعية لم يكد يتقرر في عهد سعيد باشا ويتوطد في أوائل عهد إسماعيل حتى أصابة صدع شديد في أواخر هذا العهد، وذلك على أثر طغيان سيل الإفرنج، وانتقال الملكية إليهم، أو اكتسابهم عليها حقوق الرهن التي تجعل حق الملكية في حكم العد، وتجعل المالك في يد الدائن المرتهن أجيراً واسيراً.
وصف المسيو جابرييل شارم هذة الحالة التي شاهدها بنفسه وصفاً مؤثراً قال فيه : " إن الحالة التي تستدعي النظر هي مسألة الملكية الزراعية، فإن الأطيان والمتاجر أخذت تنتقل من عدة سنوات (كتب هذا سنه 1879) إلي أيدي الأوربيين، ذلك أن الإرهاق في فرض الضرائب على الفلاحين جعل بقاء الأرض في أيديهم أمراً بعيداً عن الإمكان.
"كان الفلاح في عهد سعيد باشا يؤدى الضرائب من غير مشقة، إذ كان يوفيها من غلة أرضه، ويبقى له بعد ذلك ما يقوم بأوده، ويعيش به عيشة رغداً، في بلاد اشتهرت بقلة تكاليف المعيشة، وفي أوائل عهد إسماعيل كان الفلاح أحسن حالا وأكثر رغداً، فإن ارتفاع أسعار القطن الناشئ عن الحرب الأمريكية جعل إيراده يبلغ الضعف، وما كان من قبل بثلاثة جنيهات صار يبيعه بثمانية أو عشرة جنيهات، ولم ير الفلاح يسراً ورخاء مثلما رآه في ذلك العهد ولكن هذا اليسر مالبث أن تبدل عسراً وضنكا، فقد هبطت أسعار القطن بعد انتهاء الحرب الأمريكية، وهبط الدخل هبوطاً جسيماً، وفي الوقت نفسه زادت مطالب الحكومة، وأخذت الضرائب في ازدياد، فاضطر الفلاح إلى أن يجود بكل ما كان مدخراً أومخبوءا عنده، ولم يبقى لديه إلا أرضه، فإذا ما أرهقته الحكومة في طلب الضرائب اضطر أن يلجأ إلي أحد المربين الأجانب ليقرضه بالربا الفاحش، ويرتهن أرضه، فإذا ما تأخر عن الوفاء سيق إلي المحاكم فتنزع ملكيته وتباع أرضه بأبخس الأثمان، وكانم سعر القروض الربوية يبلغ أربعين أو خمسين في المائة، ولو لوحظ كثيراً أن سيلا من المرابين كانو يتبعون جباة الضرائب في القرى ليقرضوا الفلاحين المال المطلوب منهم بأفحش الفوائد، وقد تبلغ الفائدة 10، أو 12 في الشهر الواحد أى 144 في السنة ".
ويقول المسيو شارم إن هذة الوسيلة قد أدت إلى هبوط الأراضى، فالفدان الذي كان يباع (في أوائل سنى حكم إسماعيل) بثمانين جنيهاً صار يباع (سنه 1879) بثمانية جنيهات فقط، وأن الأجانب الذين يتملكون الأراضي بطريق المزاد أو بطريق الإكراه كانوا يسومون الأهالي الخسف ويعاملونهم بأسوا أنواع المعاملة.
وكتب القاضي الهولندي (فان بلمن) يصف هذه الحالة بما يوافق في الجملة وصف المسيو جابرييل شارم، وقد كتبت اقوالها في اوقات متقاربة، قال في هذا الصدد:
"انتشر المرابون انتشاراً هائلا في عهد إسماعيل، ونصبوا شباكهم في طول البلاد وعرضها، يمتصون بها دماء الفلاحين، ومعظم المرابين من الأروام والأوربيين أوالرعايا المشمولين بالحمايات القنصلية، والطريقة المخربه التي تجبى بها الضرائب مقدماً كانت في الواقع لصالح الماليين من رعايا القنصليات، وفي بعض الأحيان كانت الحكومة تقترض من هؤلاء مبلغاً من المال، على ان تكل إليهم الرجوع على الفلاحين وجباية الضرائب منهم في جهة معينة، فكانو يجوبون القرى مصحوبين برجال السلطة ويستخلصون من الأهالى أكثر مما أدوه للحكومة وأكثر من الضريبة المستحقة "
البذخ والإسراف
وزاد الحالة الاقتصادية سوءًا ضروب الإسراف التي ابتدعها الخديوى إسماعيل، فإنها اقتضت خروج أموال البلاد إلى غير أهلها، سواء كانوا وارد أوروبا "، ففقدت البلاد ملايين الجنيهات تسربت إلى الخارج في وقت هي احوج ما تكون إليها، ونقص بذالك رأس مال الثروة القومية، أضعف إلى ذلك تلك الملايين التي انفقها إسماعيل على ضفاف البوسفور، فقد فقدتها البلاد وابتلعتها تلك العاصمة النهمة إلى المال، وقد رأيت كم بذل فيها من الرشا لرجال الاستانة، وكم انفق فيها على إقامة الحفلات والولائم، وكان لا يكاد يمر عام إلا ويقضى الخديوى بالاستانة أو بأوروبا ردحا من الزمن ينفق فيه الأموال بغير حساب، وكانت رحلاته وسياحاته في العواصم والمدن الأوربية تكلف البلاد الآلاف بل الملايين من الجنيهات، وفي عهده ظهرت بدعة اصطياف السراة والأعيان في الخارج، تلك البدعة التي كلفت البلاد إلى الآن مئات الملايين من الجنيهات.
وكان الخديوي مثالا يحتذيه باشوات القطر وأمراؤه وكبراؤه وأعيانه (والناس على دين ملوكهم) فقلدوه في البذخ والإسراف، وتمشى داء الإسراف في مظاهر حياتهم الاجتماعية والشخصية، كابتناء القصور والاستكثار منها، والإنفاق من غير حساب على زخرفتها وتأثيثها، وأسرفوا في حفلاتهم وأفراحهم، وولائمهم وأسفارهم، وملاهيهم وأهوائهم ،مما اضطر معظمهم إلى الاستدانة من المرابين والبنوك، ورهن الأملاك والعقار، فخربت بيوت عامرة، وضاعت ثروات طائلة.
استغلال الأجانب مرافق البلاد
ثم ان اصطفاء إسماعيل للأوروبيين وركونه إليهم واجتذابهم إليه، كل ذلك مكن لهم من مرافق البلاد، فجاءوا برؤوس أموا لهم واسنثمروها في إنشاء المتاجر والبنوك والبيوت المالية، والشركات، والمشارب والملاهي ومحال الدعارة، فتفتحت الثغرات لخروج ثروة الأهليين إلى أيدي الأجانب، وامتدت أيدي الأعيان والكبراء والفلاحين وسائر الطبقات إلي الاستدانة من البيوت الأجنبية ليشتروا الأطيان والعقار، فوجدت في البلاد ثروات مادتها أجنبية، ولا ريب في أن هذا الأساس يؤدى إلى تبيعة الثروة القومية للأجانب، دولاً وشركات جماعات وافراداً، فالاستقلال المالي قد أصابه التصدع من هذة الناحية، فضلاً عن النواحي الأخرى، وأهمها القروض التي عقدها الخديوى.
صحيح أن بعض رؤوس الأموال الأوروبية قد ساعدت على تقدم البلاد ورفاهيتها، ولكن هذا التقدم كان على حساب الاستقلال الاقتصادي، لأن كل تقدم مادته أجنبية هو بالنسبة للأمة أسر واسترقاق، وذل واستبعاد، ومهما نالت الأمة من الرفاهية والثمرات والفوائد الوقتية فإنها لا تعدل تبعيتها وخضوعها لرؤوس الأموال الأجنبية، هذا إلي أنها تصبح عرضه للأزمات والشدائد إذا ما سحب الأجانب أموالهم لأى سبب ما، فإن هذة الأموال لدخولها في بناء الأمة الاقتصادي تصير جزءًا من كيانها، وتسعر الأمة بالحاجة إليها، فتكون اداة تهديد مستمر لها يجعلها أبداً خاضعة لإرادة الأجانب، محتاجة إلي استرضائهم، والنزول على إرادتهم، وامامنا دليل قائم هذة الحقيقة، وهو أن تقدم الثروة العقارية المصرية بواسطة البنوك والشركات ذات رؤوس الأموال الأجنبية قد أفضى بثروة البلاد إلي أن أصبحت تحت سيطرة الأجانب وتحت رحمتهم، وأصبح أكثر الملاك الواطنيين أجراء للأجانب، وهذا ليس استقلالاً ولا تقدماً، بل هو الاستعباد الاقتصادى الذي يستتبع حتما الاستعباد السياسي، لانه لا يمكن لأمة أن تتحرر سياسياً وهي خاضعة في كيانها الاقتصادي للأموال الأجنبية، ولا تحتاج هذه الحقيقة لإيقامة الأدلة والبراهين عليها، فاننا نلمسها بأيدينا في عصرنا الحاضر، ولقد قام عليها الدليل في عصرإسماعيل فإنه وضع في عنقه إغلال الأسر والذل باعتماده على رؤوس الأموال الأجنبية، وانتهى به الأمر إلي أن فقد استقلاله أمام نفوذ أصحابها وسلطانهم، ثم فقد عرشه نزولا على إرادتهم.
ومما ساعد رؤوس الأموال الأوروبية على التغلغل في مرافق البلاد إنشاء المحاكم المختلطة، فإنها كانت ولم تزل حامية لهذه الأموال وسبيلها إلي تكبيل البلاد والأهليين بقيود الرهون العقارية ونزع الملكية، والسيطرة على مرافق الأهليين وحقوقهم وأموالهم، وبحسبك أن مصر لم تعرف تلك الرهون ولا عرفت نزع ملكية المدينين بشكل مفزع قبل إنشاء تلك المحاكم، وبيان ذلك أن الرهن الحيازي كان هو المألوف في مصرقبل إنشاء القضاء المختلط، ولم يكن ثمة خطر كبير من ورائه، لأن الفلاح لا يتخلى بسهوله عن أرضه ولا يرضى بتسليمها للدائن منذ البداية طبقاً لأحكام الرهن الحيازي، فكان طبيعياً ألا تميل نفسه إلى هذا النوع من الرهن يشبه أن يكون تجرداً من الملكية، فلما أنشئ النظام القضائي المختلط ووضعت قوانينه تقرر الرهن العقاري الجديد الذي بمقتضاه يرتهن الدائن الأرض مع بقائها في حيازة المدين، على أن يكون للدائن حق نزع ملكيتها جبراً إذا تأخر المدين عن الوفاء، فهذا النوع الجديد من الرهن قد اغرى الفلاحين والملاك بالتهافت عليه، لأنه في الظاهر لا يخرج الأرض من حيازة صاحبها ،ولكنه في الواقع كارثة على الملكية العقارية، لأن السهولة التي يقدم بها المدين على الرهن واطمئنانه بادئ الأمرإلى بقاء ملكه تحت يده، وقلة تبصره في العواقب، كل ذلك قد رغب إلى الأهليين الأستدانة بالربا الفاحش وترتيب حقوق الرهن العقاري على أملاكهم، وقد ابتهجوا بادئ الأمر لهذة الوسيلة التي تمكنهم من الحصول على المال، ولكنها أدت إلي نزع أملاك المدينين وخروجها نهائياً من أيديهم إلى ايدي المرابين والبيوت المالية الأجنبية، وليس أسهل أمام المحاكم المختلطة من إجراءات نزع الملكية، والبيوع الجبرية، ولا أدعى منها إلي الخراب، لما تقترن به من قسوة الإجراءات وفداحة المصاريف الرسمية وغير الرسمية، فالرهون العقارية والبيوع الجبرية هي من الكوارث التي جاءت مع النظام القضائي المختلط والتي أدت إلي تسرب الثروة العقارية إلى أيدي الأجانب، ولو كان في البلاد مشروع حكيم لحظر هذا النوع من الرهون كما منعه أخيراً بالنسبة لصغار الملاك في قانون الخمسة الأفدنة.
والأمتيازات الأجنبية عامة كانت من عوامل طغيان نفوذ الأجانب المالي، لأنها فضلاً عن أنها تجعل لهم كياناً مستقلا في جسم الدولة فإنها جعلت أموالهم غير العقارية بمنجاة من الضرائب، فلم يكونوا يؤدون العوائد الشخصية ولا عوائد الحرف أو عوائد المحلات التجارية والصناعية، ولم يكونوا يؤدون سوى ضريبة العقارات، مع ذلك كانوا يتلكأون في أدائها ولا يعترفون إلا بما يروق لهم منها، ولم يلتزموا بشئ من التكاليف العامة سوى الرسوم الجمركية، على أنهم كانو أيضاً في هذا يتحايلون على التخلص منها بتنظيم حركة واسعة النطاق من التهريب، فكان كثير من الواردات يجري تهريبه من السواحل والثغور، وتقف الامتيازات الأجنبية حجر عثرة في سبيل تفتيش السفن والمنازل وضبط المهربات، وترتب على تلك الفوضى أن الأجانب استثمروا أموالهم وزادوها أضعافا مضاعفة، دون أن يشاركوا الأهليين في اعباء الضرائب والتكاليف العامة، فوقع معظم العبء على عاتق الأهليين، وفي هذا من الخسران مالا يحتاج إلي بيان.
وصفوة القول إن تبيعة مصر المالية والاقتصادية للأجانب قد ظهرت في عهد إسماعيل، ثم استمرت واتسع مداها في عهد الاحتلال الإنجليزي.
وقد كان السبيل المأمون للنهضة الاقتصادية والعمرانية أن تقوم برؤوس أموال أهلية، كما سارت في عهد محمد علي، فليس من ينكر أن التقدم الاقتصادي قد ظهر في عهده، وتجلي في أعمال العمران التي نهض بها، كإقامة القناطر، وشق الترع، وإقامة المصانع، واستحداث الزراعات الحديثة وغير ذلك، ولكونها قامت من غير اعتماد على رؤوس الأموال الأجنبية كانت نهضة قومية سليمة من عناصر التبعية والاستعباد، ولا يعترض على ذلك بأن محمد علي لجأ إلي السخرة في اقامة هذه الأعمال، فإن السخرة كانت أيضاً قائمة في عهد إسماعيل، وكان الفلاحون يسخرون لا في الأعمال العامة فحسب بل وفي أملاك الخديوي وحاشيته أيضاً.
التجارة
زادت التجارة الخارجية زيادة مطردة في عصر إسماعيل، وذلك لازدياد وسائل العمران ونمو الحاصلات الزراعية واتساع المواصلات البرية والبحرية.
وتتألف صادرات مصر في ذلك العهد من القطن والسكر والأرز والقمح والفول والذرة والشعير والعدس والحمص والبقول والتمر والحناء والحلبة والزعفران والصدف والسلامكي وبعض المنسوجات والحبال والصوف والكتان والنطرون والأفيون والشمع وواردات السودان كسن الفيل والصمغ وريش النعام.
وتستورد من الخارج المنسوجات والملبوسات والأثواب الحريرية والسجاد والطرابيش والأجواخ والفحم والأخشاب وأدوات البناء والحديد والنحاس والآلات والأواني والمجوهرات والعقاقير والغاز والزيوت والفاكهة والدخان والأنبذة والمشروبات الروحية والمواشي والخردوات والسكاكين وأصناف العطارة والزجاج والورق.
وكان ميزان التجارة لصالح مصر إذ كانت الصادرات أزيد من الواردات.
وليس لدينا إحصاءات دقيقة عن حركة التجارة في ذلك العهد، فإن البيانات الواردة في تقرير لجنة " كيف " وفي كتاب (مصر كما هي) لماك كون ص 171 وص 405 تختلف عن الإحصاءات الواردة في كتاب إحصاء مصر عن سنة 1873 ص 164 و166 وعن إحصاء المسيو فرنسوا شارك رو Roux في كتاب(إنتاج القطن في مصر) ص 84 و100 على اننا اعتدنا على إحصاء كيف، وقد أخذنا عنه أرقام الصادرات والواردات من سنة 1850 أي من عهد عباس الأول إلي سنة 1875.
السنةالصادرات بالجنيهاتالواردات بالجنيهات 18502.043.0001.621.000 18512.155.0001.681.000 18522.270.0001.575.000 18531.848.0002.001.000 18542.087.0002.141.000 18553.286.0002.527.000 18564.029.0002.568.000 18573.104.0003.149.000 18582.533.0002.715.000 18592.565.0002.494.000 18602.535.0002.604.000 18613.422.0002.568.000 18624.454.0001.991.000 18639.014.0003.063.000 186414.416.0005.291.000 186513.045.0005.753.000 18669.723.0004.662.000 18678.623.0004.399.000 18688.094.0003.582.000 18699.089.0004.021.000 18708.680.0004.502.000 187110.192.0004.512.000 187213.317.0005.005.000 187314.208.0006.127.000 187414.801.0005.322.000 187512.730.0005.694.000
ويلاحظ أن حركة التجارة الخارجية كان معظمها (ولم يزل) في ايدي البيوت التجارية الأجنبية ومعظم ما تدره من الأرباح عائد إليها.
الصناعة
يرجع إلي الخديوي إسماعيل الفضل في استحداث صناعة السكر بواسطة المصانع الكبرى التي أنشأها في الوجه القبلي، وسبق الكلام عنها، وصناعة الورق بإنشاء مصنع الورق في دار الطباعة ببولاق، وقد أنشأ العديد من مصانع الغزل والنسيج.
ولكنه لم يوجه همته إلي إحياء الصناعات الكبرى التي ظهرت في عهد محمد على ولم يفكر في إنشاء المعامل التي تنتج من المصنوعات ما ينمي ثروة البلاد وتغنيها عن أن تبقى عالة على الصناعة الأجنبية.
ثم إن اقتباسه عادات الأوروبيين في مأكلهم وملبسهم وطريقة معيشتهم، جعله يقتني لوازم الحياة الأوروبية وزينتها من أوروبا، وتبعه في ذلك الأمراء والأميرات من آل بيته، وطبقة الباشوات والكبراء والأعيان، والمتعلمون، وسيدات تلك الطبقات الممتازة، فقلدوه في اقتباس العادات الإفرنجية واقتناء لوازمها وكمالياتها من المصنوعات الأوروبية، كالملابس والمنسوجات، وأدوات الزينة والزخرفة، وأثاث المنازل ورياشها، والمأكل والمشارب، وقد اصيبت الصناعة الوطنية من هذه الناحية بضربة شديدة، لأنها لم تستطع أن توتي مطالب المعيشة الأوروبية وكمالياتها وأزيائها المتغيرة كل يوم، وعجزت عن مبارات الواردات الأجنبية، ومن هنا طغى سيل هذه الصناعات على البلاد، وبارت الصناعات الأهلية القديمة كالنسيج والدباغة والنجارة وصناعات الأساس وما إليها.
ولو اتبع الخديوي سياسة اقتصادية قومية لجعل التحول إلي العوائد الأوربية مقروناً بإنهاض الصناعات الأزمة لها حتى لا تبور الصناعات الأهلية ويطغى عليها سيل المصنوعات الأجنبية، ولا يسري هذا الرأي على ما استوردته البلاد من المصنوعات الأنتاجية، كالآلات الزراعية مثلاً أو المواد التي تزيد من ثروة البلاد، فإن استيرادها من الخارج يزيد من إنتاج البلاد الاقتصادي، ولكن واردات الملبس والأثاث والرياش وما إلي ذلك من الكماليات أدت إلي مراء إلي نقص رأس مال الثروة القومية وتهدم الصناعة الأهلية.
ولا نقول هذا غلواً في النقد ولا إسراف في الرأي، وإنما هو ما يراه المنصفون من الأوروبيين الذين عاشوا في عصر إسماعيل، وقد كتب القاضي الهولندي فان بملن يقول في هذا الصدد ما خلاصته :
" إن الخديوي إسماعيل هو أول من مهد السبيل لسيطرة أوروبا الاقتصادية على مصر، فإن أوروبا وبخاصة باريس، قد أفسدت على هذا الأمير دينه وأخلاقه وماله، وفتنته فتنة شاملة، فلم يعد يعني إلا بكل ما هو أوروبي، وبكل ما يراه الأوروبيين واعتزم من يوم أن تولى عرش مصر أن يعيش كملك إفرنجي في قصوره وأثاثه، ومأكله ومظهره وملبسه، ومن الأسف أن كل ما انفقه في هذا السبيل لم يعد بالفائدة إلا على أوروبا، إذ كان يستورد من مصنوعاتها تلك الأشياء الهالكة، العديمة الجدوى، وتلك الأسمال التي لم تزد الثروة القومية جنيهاً واحداً، وكان يدفع أثمانها أضعافاً مضاعفة، ولأجل أن يستوفي مطالبه الخارقة في هذا الصدد، لم تكفه الأموال التي يجبيها من شعبهه على فداحتها فأمده أصدقائه الأوروبيون بالقروض الجسيمة ذات الشروط المخربة، وقد دعي أفراد أسرته والباشوات وموظفي الحكومة إلي تقليد الأوربيين في ملبسهم ومسكنهم وطريقة معيشتهم، فبادروا إلي تلبية دعوته، وأخذ الكبراء والثراة يستوردون من أوروبا الملابس والبسط والستائر وأنواع الأثاث والعربات، وأدخل الخديوي الحياة الأفرنجية في قصور نسائه ونساء آل بيته فتهافتت الأميرات وزوجات الباشوات والأغنياء على هذا الدرب الجديد من البذخ تهافتاً شديداً وإسراف أولئك النسوة القليلات الحظ من العلم والعاطلات من العمل في شراء الفساتين التي لا عداد لها، وابتياع التحف الثمينة والمركبات الفخمة، وكسون جميع جواريهن بكل ما أبدعته الأزياء الباريسية من فاخر الملابس، وسحرتهن بدعة " الموضة " وتغييراتها، وانقرضت المنسوجات الشرقية والسجاجيد والأرائك وأدوات الزخارف والطوائف القديمة التي كانت تمتاز بمتانة الصنعة والقدرة على البقاء، ولا تسل عما خسرته مصر من جراء ذلك، فقد استولى الأوروبيين على التجارة الكبرى وعلى الحياة المالية".