الرئيسيةعريقبحث

الحياة السياسية في عهد الخديوي إسماعيل


☰ جدول المحتويات


النظام السياسي

كان إسماعيل يحكم البلاد حكماً مطلقاً، ويتولاه بنفسه، وقد ظلت كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحكومة رهن إشارته، بحيث كان يحق له ان يحاكي لويس الرابع عشر في قوله " إنما الدولة أنا "، إلى أن حدث التدخل الأوروبي بواسطة صندوق الدين والرقابة الثنائية ثم الوزارة المختلطة، فغلت سلطته بمقدار ما كسبه الأجانب من التدخل في شؤون الحكومة المالية ثم السياسية. ولم يكن الوزراء (أو النظار كما كان اسمهم) إلى سنة 1878، أي إلي السنة التي انشئ فيها مجلس النظار سوى موظفين لدى الخديوي، يعينهم لرئاسة النظارات المعروفة في ذلك العصر، وكانت تسمى " الدواوين "، وهي الداخلية، والمالية، والمعارف، والحقانية، والحربية، والبحرية، والأشغال، والخارجية، والأوقاف وأنشئت أيضاً وزارة للزراعة، وأخرى للتجارة، ثم ألغيتا في عهد وزارة نوبار باشا سنة 1878، ولم يكن للنظار من السلطة إلا ما يتلقونه عن ولي الأمر، وتضاءلت سلطتهم حتى أمام المفتشين العموميين، وهما مفتش الوجة البحري، ومفتش الوجة القبلي الذين استحوذا على السلطة الإدارية في الحكومة بامر الخديوي. وليس معروفاً على وجه التحقيق ما هي الحكمة في ايجاد هذا النظام الذي يضع سلطة المفتشين بجانب سلطة النظار، ويجعلهم أعظم شأناً من هؤلاء، ولكن يبدو أن السبب في ذلك هو رغبة إسماعيل في أن تتعارض السلطتان حتى تكون كل منهما رقيبة على الأخرى فيطمئن على سلوك كلتيهما، وهى قاعدة مألوفة في حكومات الاستبداد.

المجلس الخصوصى ثم مجلس النظار

لم يكن للوزاراء مجلس قائم بذاته، ولا هيئة لها أعضاء منظميون، بل كانو ا كما قلنا موظفين يعينهم الخديوي ويعزلهم كسائر موظفي الحكومة.

ولم يكن بمصر قبل سنة 1878 مجلس وزراء، بل كان بها مجلس يدعى (المجلس الخصوصي العالى)، يضم عادة الوزراء (النظار)، ولكنه ليس قاصراً عليهم، بل كان يضم أيضاً جماعة من الباشوات الذين يصطفيهم الخديوي، ومن هؤلاء، وأولئك يتألف المجلس الخصوصي.

وهذا المجلس ينظر في شؤون الحكومة العامة، ويضع القوانين واللوائح والقرارات الهامة، ويعمل برئاسة الخديوي، ولكنه لم يكن مسئولاً عن سلطة الحكم، بل كان أعضاؤه كأمناء أو موظفين في معية الخديوي، ليس لهم سلطة، ولا تربطهم رابطة اللهم إلا اختيار ولي الأمر لكل منهم.

وكانت مسئولية الحكم يتولاها الخديوي بنفسه، إلى أن انشئ (مجلس النظار) بالأمر العالي الذي أصدره إسماعيل في 28 أغسطس سنة 1878، ومنذ ذلك الحين صار الخديوي يتولى الحكم بواسطة مجلس النظار بالاشتراك معه.

فمجلس النظار قد خلف (المجلس الخصوصى) وصار مسئولاً عن الحكم، وله كيان قائم بذاته، واعضاؤه يختارهم رئيس مجلس النظار ويتضامنون وإياه في المسئولية، وقد صار هذا المجلس أساس نظام الحكم في مصر إلى عصرنا الحاضر.

مجلس شورى النواب

وانشأ إسماعيل هيئة نيابية تمثل الشعب وهي مجلس شورى النواب، ولكن يبدو انه أراد من إنشائه ان يكون مجرد واجهة تضفى على الحكم رونقٱ حيث : كانت عضوية المجلس منحة من السلطان لطبقات اجتماعية معينة فجاء معظم اعضاؤه من العمد والمشايخ والاعيان وقليل من اصحاب المصالح التجارية والصناعية فقط ولم يكن للمتعلمين من غير الاعيان نصيب في عضوية المجلس حتى لا يشاركوا السلطان في الحكم وتشريع القوانين حيث ان المجلس لم يكن أكثر من هيئة استشارية وليست تشريعية وانما كان الخديوى إسماعيل هو من يشرع القوانين فقد كان حكمه حكمٱ مطلقا فرديا كما كان اثناء حكم محمد على

التقسيم الاداري

صارت مصر مقسمة في عهد إسماعيل إلي ثلاث عشرة مديرية وهي :

  1. البحيرة
  2. الغربية
  3. الشرقية
  4. الدقهلية
  5. المنوفية
  6. القليوبية
  7. الجيزة
  8. بني سويف والفيوم
  9. المنيا وبني مزار
  10. أسيوط
  11. جرجا
  12. قنا
  13. اسنا

وكان بمصر من المحافظات تسعاً، وهي:

  1. القاهرة، # الإسكندرية
  2. رشيد
  3. دمياط
  4. بورسعيد
  5. العريش
  6. السويس (وتمتد سلطتها إلي سواحل البحر الأحمر حتى " الوجه ")
  7. القصير (وكانت تتبع مديرية قنا).

وبقيت المديريات برأسها المديرون، والمحافظات يتولاها المحافظون، واستمرت المديريات مقسمة إلي مراكز، والمراكز إلي إلي اقسام (أخطاط)، والأقسام إلي نواح وبلاد، وتغير اسم مشايخ البلاد فصاروا يعرفون بالعمد وتحت أيديهم المشايخ، وجعل تعيين هؤلاء وأولئك بانتخاب الأهالي ورغبتهم.

النظام القضائي

بقيت المحاكم الشرعية كما كانت في عهد سعيد باشا، ولما تولى إسماعيل الحكم اصدر امره إلي مجلس الأحكام في 27 رجب سنة 1279 هـ (1863 م) بإعادة تأليف مجالس أو محاكم الأقاليم (المجالس الملغاة)، إذ لم يكن بقي منها في آخر عهد سعيد سوى مجلسين، فعمم هذه المجالس في أمهات المدن مع توزيع اختصاصها كما يأتي :

  • مجلس مصر : واختصاصه محافظة مصر والسويس وقسم أول جيزة.
  • مجلس بنها : واختصاصه القليوبية والمنوفية.
  • مجلس المنصورة : واختصاصه الشرقية والدقهلية.
  • مجلس طنطا : واختصاصه الغربية والبحيرة.
  • مجلس الإسكندرية : واختصاصه محافظة الإسكندرية.
  • مجلس بني سويف : واختصاصه بني سويف وقسم ثاني جيزة والفيوم وبني مزار.
  • مجلس اسيوط : واختصاصه إسنا ومدينة القصير.
  • مجلس دمياط : واختصاصه محافظة دمياط.

ثم زيد عدد مجالس الأقاليم، فصار لكل مديرية مجلس ابتدائي، وزيد عدد (المجالس الاستئنافية) التي كانت تستانف أمامها أحكام المجالس الابتدائية التي في دائرتها.

وأنشيء ديوان الحقانية، وأحيلت عليه إدارة المحاكم ومجالس الأقاليم، وإرشادها إلي طريق الصواب، وسن القوانين واللوائح لها، واشتملت الائحة العمومية التي سنها سنة 1288 على قواعد اختصاص المجالس وأصول المرافعات فيها.

وفي سنة 1871 بناء على اقتراح مجلس شورى النواب انشئت مجالس أو محاكم بالقرى والأخطاط لنظر القضايا الصغيرة سميت (مجالس الدعاوي المركزية) تمييزاً لها من (المجالس المحلية) المنشأة في عواصم المديريات.

المحكمة التجارية المختلطة

وبقيت المحكمة التجارية المختلطة المسماة (مجلس التجار) في كل من الإسكندرية والقاهرة تفصل في المنازعات التجارية بين الوطنيين والأجانب، ولها محكمة استئنافية تسمى (مجلس الاستئناف) بالإسكندرية، وكانت المحكمة التجارية بالقاهرة سنة 1872 تتألف من رئيس وهو على باشا شريف (الذي صار فيما بعد رئيساً لمجلس شورى القوانين) ثم خلفه على بك إبراهيم (باشا) وصار وزيراً للمعارف، ومن وكيل وهو أحمد بك عبيد ومن عدد متساو من القضاة الوطنيين والأجانب فكانت الغالبية للوطنيين، وهذه المحاكم التجارية هي التي حلت محلها المحاكم المختلطة سنة 1876.

مجلس الأحكام

وقد بقي (مجلس الأحكام) هيئة استئنافية عليا، واستمر قائماً إلى تشكيل المحاكم الأهلية الجديدة، وأقتصر على نظر قضايا الوجه القبلي الذي لم يعمه نظام المحاكم الأهلية إلا سنة 1889، فلما انشئت المحاكم الجديدة بالوجه القبلي ألغي مجلس الأحكام نهائياً كما ألغيت مجالس الأقاليم، ولذلك عرفت بالمجالس الملغاة.

ومما لا مندوحة عن ذكره أن النظام القضائي في الجملة كان على حالة من التأخر لا تغبط عليها البلاد، فالقضاة لم يكن لهم دراية بالقوانين ولا بالروح القانونية، وكانت مناصب القضاء تستند إلي جماعة معظمهم من الأعيان، أو من الموظفين الذين لم تتوفر فيهم شروط العلم والكفاءة، ولم تكن العدالة مرعية، وليس ثمة ضمانات للحقوق، والرشوة منتشرة والنظام في ذاته فاسد، ولا يزال الناس يتناقلون روايات وأحاديث تدل على مبلغ انتشار الرشوة في ذلك العهد بين موظفي المحاكم من قضاة وكتاب وغيرهم، ولم تكن هناك محاكمات صحيحة، وكان النفي إلى السودان كثيراً ما يصيب من يغضب عليهم ولي الأمر، دون أن تحدث لذلك محاكمات أو تحقيقات.

وظل النظام القضائي مختلاً إلي أن أنشئت المحاكم الجديدة سنة 1883 على عهد توفيق باشا، وقد كان الشروع في إنشائها على عهد إسماعيل، إذ مهد إلي ذلك بتعريب قوانين نابليون المعروفة (بالكود)، واضطلع العلامة رفاعة بك رافع وتلاميذه بهذه المهمة، فعرب هو وعبد الله بك السيد القانون المدني واشترك معهما عبد السلام أفندي أحمد، وأحمد أفندي حلمي، وعرب قانون المرافعات عبد الله أبو السعود أفندي، وحسن أفندي فهمي، وعرب العلامة قدري باشا قانون العقوبات والسيد بك صالح مجدي قانون تحقيق الجنايات، ومن هذه القوانين استمد الشارع المصري معظم قوانين المعاملات المدنية والمرافعات والعقوبات، وصدرت بها المراسيم سنة 1883 في عهد وزارة شريف باشا الرابعة.

إنشاء المحاكم المختلطة

إن ولاية القضاء ركن من أركان السيادة الأهلية لكل بلد مستقل، فمن قواعد الاستقلال سريان سلطة القضاء الأهلي على جميع سكان المملكة، لا فرق بين وطنيين وأجانب، ونفاذ أحكامه، على أشخاصهم، وعلى أموالهم، في منازعاتهم المدنية والتجارية وفيما يقع من اي منهم من الجرائم والمخالفات.

هذه القاعدة هي من اوليات نظام الحكم في جميع البلدان المستقلة، ولكنها في الشرق قد اعترض تطبيقها ما منحه الملوك والسلاطين لرعايا الدول الأوروبية من الامتيازات الاجنبية.

كانت هذه الأمتيازات في مبدأ أمرها منحة، أعطتها تركيا لبعض الدول ورعاياها، ولقد ظلت ردحاً من الزمن مصطبغة بهذه الصبغة، حتى سرى الضعف إلي السلطنة العثمانية، فاستحالت تلك المنحة حقاً مكتسباً، ثم صارت في مصر عدواناً على السيادة الأهلية، ومشاركة للحكومة في سلطتها.

ومع أن سريان الامتيازات في بلادنا يرجع إلى كونها في الأصل جزءاً من السلطنة العثمانية، إلا أنها تطورت واستفحل خطرها، وكسب الأوروبيون من المزايا أكثر مما لهم في تركيا، وصار للامتيازات الأجنبية في مصر مظاهر ومميزات ليست لها في بلد مستقل، ولا في اية ولاية من ولايات تركيا القديمة.

ومما يؤسف له أن الدول الأجنبية كسبت هذه المميزات في الوقت الذي تحررت فيه مصر من التبعية التركية ونالت استقلالها الذي شمل السيادة الداخلية وبعض مظاهر السيادة الخارجية، وعلى ما يقتضيه المنطق من تضاؤل سلطة الأمتيازات الأجنبية في عهد الاستقلال، فقد جرى العمل على عكس ذلك، إذ أنها اشتدت وطأتها في هذا العهد.

ومن الواجب تفسيراً لهذا التناقض أن نقول أن الأوروبيين لم يكسبوا مزايا جديدة في الوقت الذي كانت فيه الحكومة المصرية قوية البأس، مهيبة الجانب، أي في عهد محمد على وإبراهيم وعباس، ولكنهم انتهزوا فرصة الضعف الذي انتابها في عهد خلفائهم، فنالوا مزايا وحقوقاً ما كانت لهم من قبل، وفي هذا الصدد يقول المسيو جابرييل شارم ما خلاصته : " لم يكن للجاليات الأوربية في عهد محمد على وعباس أهمية ما، ولكنهم نالوا الشأن العظيم في عهد سعيد وإسماعيل، حتى صاروا خطراً على الأهليين، وقد ساعد فتح قناة السويس ومد السكك الحديدية على ازدياد نشاطهم، وبلغ عددهم سنة 1879 مائة الف نسمة، وطغوا أمام ضعف الحكومة الوطنية، فقد كان سعيد باشا كثير التسامح والسخاء معهم، ولم يكن يرفض أي منحة يطلبونها منه، وكان ينساق من غير تبصر إلى أي مشروع يعرضونه عليه، فإذا لم ينالوا من تلك المشاريع ما يبغونه من الربح، عوضهم سعيد باشا ما فاتهم من الأرباح، وكان القناصل يتدخلون لتأييد مطالبهم ويُكرهون سعيد باشا على إجابتها.

" وكانوا يتحرجون في عهد عباس من هذا التدخل، ولما كان لديه من الوسائل لوقفهم عند حدهم، وقيل إنه كان لديه نمر يألفه ويضعه بالقرب منه محجوباً عن الأنظار، فإذا اشتد الجدل بينه وبين أحد القناصل استدعى النمر في رفق وهدوء، إلى حيث يراه القنصل، فكان لهذه الوسيلة " الدبلوماسية " أثرها في حسم النزاع.

" أما سعيد فكان ضعيف الإرادة، يخضع دائماً لمطالب القناصل، وقد طغى سيل الأجانب في عهد إسماعيل واحتموا بنظام الأمتيازات الأجنبية وانتفعوا من تبذير الحكومة وسفهها ".

هذا ما يقرره كاتب أوروبي أدرك عصر إسماعيل ووصف حالة البلاد كما شاهدها، وليس فيه مظنة التحامل أو المبالغة والإسراف في القول.

حدود الامتيازات الأجنبية في تركيا

كانت الأمتيازات الأجنبية في تركيا تتبع القواعد الآتية : أولاً : لم يكن للأجانب حق امتلاك العقارات في بلاد السلطنة العثمانية، ثم خولتهم الحكومة التركية هذا الحق بمقتضى القانون الصادر في يونية سنة 1867، (7 صفر سنة 1284 هـ)، وفي نظير تخويلهم إياه قبلت الدول الأوربية خضوع رعاياها للوائح الضرائب العقارية والقوانين المالية التي تضعها الحكومة العثمانية من غير حاجة إلي موافقة الدول، وخضوعهم للمحاكم التركية في المنازعات العقارية سواء كانوا فيها مدعين أو مدعى عليهم.

ثانياً : يرجع رعايا الدول الأجنبية في شؤونهم التجارية والمدنية والشخصية إلى قناصلهم.

ثالثاً : تختص المحاكم العثمانية بنظر قضايا الأجانب مدنية كانت أو تجارية إذا كان في الخصومة صالح أهلي، وتفصل في هذه المنازعات طبقاً للقوانين الأهلية دون حاجة إلى حضور القنصل أو مندوبه أثناء المحاكمة.

ولم تكن المحاكم التركية مختصة بنظر المنازعات المدنية (غير العقارية) إذا كان الطرفان ممن يتمتعون بالامتيازات الأجنبية ولا يمس النزاع صالحاً أهلياً.

رابعاً : تسري أحكام القوانين العثمانية الخاصة بالعقوبات على الرعايا الأجانب كما تسري على الاهليين سواء بسواء، وكذلك تسري عليهم قوانين الضبط والربط واللوائح الإدارية والتنظيم والصحة، وتطبق عليهم القوانين الجنائية ويحاكمون أمام المحاكم العثمانية فيما عدا الجرائم التي تقع منهم على أجنبي.

ولم تتعد الامتيازات في تركيا الدائرة التي رسمتها المعاهدات على مافيها من غضاضة وافتيات على السيادة الأهلية.

اتساع حدود الامتيازات في مصر

ظلت الامتيازات في مصر تتبع أوضاعها الأصلية على عهد محمد على وإبراهيم وعباس، وكان بالإسكندرية والقاهرة محكمتان تسمى كل منهما المحكمة التجارية أو (مجلس التجار)، تفصل في المنازعات التجارية بين الأوروبيين والمصريين، وقضاتها من الوطنيين والأجانب، والغالبية فيها للوطنيين كما تقدم بيانه.

ولكن لما ضعف شأن الحكومة في عهد خلفاء محمد على طغت سلطة الأجانب على سيادة الحكومة، وبدأ طغيانهم في عهد سعيد، ثم إزداد في عهد إسماعيل، وفي خلال هذه الأطوار نالوا المزايا الآتية التي اغتصبوها بالعرف والعادة :

1 – انتزع القناصل سلطة الحكم فيما يقترف رعاياهم من الجرائم التي تقع على الرعايا الوطنيين.

2 – التزم الأهالي عندما يقاضون الأجانب أن يرفعوا دعاواهم أمام محاكمهم القنصلية، وذلك أن التنفيذ في منازل المحكوم عليهم كان يقتضي حضور القنصل، ولكن القناصل كانوا يمتنعون عن حضور التنفيذ فتحجم السلطات الأهلية عن اقتحام منازل الأجانب، فيضطر الأهالي إلي الالتجاء للقناصل عساهم يرسلون مندوبيهم لحضور التنفيذ، ولكن القناصل بدلاً من ذلك أخذوا يفصلون في النزاع بين الفريقين، فيضطر المدعي مرغماً إلى قبول هذه الوساطة بدلاً من الحصول على أحكام يتعطل تنفيذها إلى ما شاء الله.

3 – اغتصبت المحاكم القنصلية سلطة الفصل حتى في القضايا التي يرفعها رعاياها على الأهالي.

4 – اغتصبت سلطة الحكم على الحكومة المصرية في القضايا التي يرفعها الرعايا الأجانب، وهذا من أغرب ما يذكر في ضعف هيبة الحكومة، وقد حكمت المحاكم القنصلية فعلاً على الحكومة في قضايا تعويضات والتزمت الحكومة بدفع مبالغ باهظة بطريق التهديد خشية إغضاب القناصل وحكوماتهم.

وقد أحصيت هذه المبالغ في مدى أربع سنوات (من سنة 1864 إلي سنة 1868) فبلغت 2.800.000 جنيه، وهذا يعطيك فكرة جلية عن مبلغ استخذاء الحكومة أمام طغيان الأجانب، ولقد كان من أسباب هذا الطغيان مجاملة الخديوي إسماعيل لقناصل الدول لكي ينال رضا حكوماتهم ويكسب تأييدهم إياه في خلافه مع تركيا، ولعمري أن الخطر الذي يتهدد كيان مصر لم يكن آتياً من تركيا الضعيفة، بل كان مصدره الاستعمار الأوروبي السياسي والمالي، وقد دلت الحوادث على هذه الحقيقة، ولكن نزعة إسماعيل الأوروبية كانت تحجب عنه كثيراً من الحقائق، وأفضت إلي هذا العدوان المستمر على سلطة الحكومة.

وهذه السلسلة من الاغتصابات هي التي يسميها رجال القانون " العرف " أو " العادات المرعية "، وقد صدق القاضي الهولندي فان يملن Van Bemmelen الذي تولى قضاء المحاكم المختلطة في عهد إسماعيل في قوله عنها :

" إن الأوروبيين يعبرون عن الأختصاص المختلط للقنصليات بأنه نشأ عن " العرف "، وفي الحقيقة أنه وليد الاغتصاب الواقع من الاقوياء على حقوق الضعفاء ".

اضطراب المعاملات

ساءت الحالة من جراء انتحال المحاكم القنصلية تلك الأختصاصات الباطلة، فإن كل محكمة من هذه المحاكم كانت تحابي رعاياها وتتحيف حقوق خصومهم، هذا فضلاً عن أن كل قضاء قنصلي يحكم طبقاً لقانون بلاده، فلم يكن التعامل بين الناس قائماً على قواعد معلومة، وضوابط مرسومة، بل صارت المعاملات عرضة لأهواء المحاكم القنصلية وقوانينها، وإذا علمت أن القنصليات العامة بالدول المتمتعة بالامتيازات الأجنبية كانت سبع عشرة قنصلية أدركت أنه كانت بمصر 17 محكمة قنصلية تحكم كل منها طبقاً لقوانين بلادها.

ولم تكن تلك المحاكم تقضي في المنازعات التي ترفع أمامها إلا قضاء أبتدائياً، وأحكامها تستأنف أمام محاكم استئناف البلاد التابعة لها، فإذا كان المدعى عليه فرنسياً يرفع الأستئناف أمام محكمة (اكس) بفرنسا، وإذا كان إيطالياً أمام محكمة (انكونا) وإذا كان يونانياً فأمام محكمة (اتينا) وإذا كان إنجليزياً فأمام محكمة (لندن) وإذا كان نمساوياً فأمام محكمة (تريستا) وإذا كان ألمانياً فأمام محكمة (برلين) وإذا كان أمريكياً فإلى محكمة (نيويورك) !! فتأمل في ما تقتضيه هذه الفوضى من المتاعب والعقبات، والنفقات الجسيمة، وإضاعة الوقت، مما يؤدي في الغالب إلى التنازل عن الخصومة بدلاً من المقاضاة التي لا يعرف لها نتيجة ولا يؤمن فيها عدل.

إصلاح هذا الفساد

فكر إسماعيل في إصلاح هذا الفساد، ولكن بدلاً من أن يعالجه بالقواعد المتفق عليها بين الدول، وهي أن القضاء الأهلي هو صاحب الولاية على المتقاضين والقاطنين في البلد، وإن اختلفت أجناسهم، فإن المشروع الذي انتهي إليه الاتفاق بين الخديوي والدول يقضي بإنشاء محاكم مختلطة يكون العنصر الغالب فيها للقضاة الأوروبيين، وتفصل فيما يقوم من المنازعات بين المواطنين والأجانب.

ولا مراء أن نظرة بسيطة في أساس هذا النظام يتبين منها فساده، وبُعدِه عن القواعد النظامية في البلاد المستقلة، ولقد كان إسماعيل في غنى عنه بالرجوع إلى النظام القضائي المتبع في تركيا، فإن اختصاص المحاكم الأهلية في بلاد السلطنة العثمانية يتناول الحكم في المنازعات المدنية والتجارية بين الرعايا الوطنيين والأجانب، وفي القضايا الجنائية التي يتهم فيها هؤلاء، ولما كان مصدر الاختصاص القضائي القنصلي هو الامتياز الأجنبي في تركيا، فان الإصلاح المعقول هو الرجوع بهذا الاختصاص إلى حدود تلك الامتيازات، هي معاهدات ابرمتها تركيا وأنها تسري على مصر كما كانت تسري على سائر أجزاء السلطنة العثمانية.

وقد نصت معاهدة لندن التي حددت مركز مصر الدولي سنة 1840 على أن معاهدات السلطنة العثمانية تسري أحكامها في مصر، فمن الوجهة القانونية الدولية، ما كان يجوز أقرار مزايا لرعايا الدول الأجنبية تزيد عما كان في تركيا بمقتضى معاهدات الامتيازات.

ولكن إسماعيل ونوبار، لنزعتهما الأوروبية، لم يجدا غضاضة من التدخل الأوروبي في ولاية القضاء، ما دام هذا التدخل منظماً، فارتكبا شططاً كبيراً، وإذ لم يجعلا أساس الإصلاح اتباع النظام الخاص بقضايا الأجانب في تركيا، وارتضيا نقل سلطة المحاكم القنصلية المتعددة إلي محكمة مختلطة غالبية قضاتها من الأجانب، فجاء الإصلاح معكوساً مشوهاً، وحمل في طياته هدم ولاية القضاء في مصر، ومهد لتغلغل النفوذ الأجنبي في سلطة القضاء والتشريع، وفي كيان البلاد المالي والاقتصادي.

مذكرة نوبار باشا سنة 1867

شرع نوبار باشا في مفاوضة الدول الاجنبية في إنفاذ مشروعه، وبدأ عمله بتقديم مذكرة تفصيليه إلى الخديوي أبان فيها عيوب النظام القضائي القنصلي وامتدح إنشاء قضاء مختلط يوافق روح الامتيازات الممنوحة للأجانب.

المفاوضات بشأن النظام القضائي المختلط

تولى نوبار مفاوضة الدول بشأن نظام المحاكم المختلطة، وطالت هذه المفاوضات لأن الجاليات الأجنبية لم تكن تميل إلى إنشائها بل أرادت بقاء سلطة المحاكم القنصلية، وكانت فرنسا من أشد الدول أعتراضاً على إنشائها، وأعترضت تركيا أيضاً على التفاوض في شأنها بين مصر والدول الأجنبية.

إقرار نظام المحاكم المختلطة

واستمرت المفاوضات بين مصر والدول عدة سنوات، ثم انتهت باتفاقهن سنة 1875 على إنشاء المحاكم المختلطة التي سميت (محاكم الإصلاح)، وإليك بيان الدول التي ابرمت هذا الاتفاق : الولايات المتحدة، النمسا والمجر، بلجيكا، الدنمرك، فرنسا، ألمانيا، إنجلترا، اليونان، هولندا، إيطاليا، البرتغال، الروسيا (روسياالسويد والنرويج، ووضعت الحكومة المصرية باتفاقها مع الدول لائحة ترتيب المحاكم المختلطة وقوانينها المدنية والتجارية وقانون المرافعات، ووافقت الحكومات الأوربية على هذه القوانين، وبقيت فرنسا متردده في موقفها، فكانت أخر من وافق عليها.

وهاك خلاصة القواعد التي قام عليها نظام هذه المحاكم :

أولاً : تختص بالفصل في المنازعات المدنية بين المصريين والأجانب، وبين الأجانب الذين ليسوا من جنسية واحدة.

ثانياً : تفصل في المنازعات العقارية إذا كان أحد الطرفين من الأجانب أو كان الطرفان من جنسية أجنبية واحدة.

ثالثاً : تفصل في المسائل الجنائية بالحكم على المتهمين الأجانب في بعض المخالفات البسيطة.

رابعاً : أما الجنح والجنايات التي تقع من الأجانب فلا تختص للحكم فيها، بل بقيت من أختصاص المحاكم القنصلية، مع استثناء الجرائم التي تقع على قضاة المحاكم المختلطة، أو ماموريها القضائيين أثناء قيامهم بعملهم، فتختص بالحكم فيها.

وقضت لائحة ترتيب تلك المحاكم بإنشاء ثلاث محاكم ابتدائية، الأولى في الإسكندرية والثانية في مصر، والثالثة بالإسماعيلية، ثم انتقلت إلي المنصورة، ومحكمة استئناف في الإسكندرية.

وللقضاة الأجانب الأغلبية، ولهم رئاسة الجلسات، وبما أن المحاكم الجزئية تتألف من قاض وأحد، فقد جرى العمل على ألا يكون هذا القاضي إلا أجنبياً، على الرغم من أن لائحة ترتيب المحاكم لا تنص على ذلك، ولكنهم ساروا على هذه القاعدة بطريق الإستنتاج والتغلب، وقالوا إن رئاسة الجلسات التي تتألف من عدة قضاة تكون للأجنبي، فإذا كانت الجلسة مؤلفة من قاضي وأحد، وجب أن يكون أجنبياً.

ولا يسمح للقضاة الوطنيين أن يكون منهم قاضي الأمور المستعجلة، الذي له سلطة واسعة المدى في الأحكام، أو قاضي الأمور الوقتية، أو قاضي البيوع ونزع المـلكية العقارية.

وفي ذلك يقول القاضي الهولندي فان بملن في لهجة من التهكم : " ما دامت القاعدة أن الأغلبية في الأحكام مكفولة للأجانب فلم يبقى إذا جلس قاض وأحد إلا أن يكون أجنبياً. ولم ترد أصلاً فكرة إسناد هذه المهمة إلي قاض من القضاة الوطنيين، وكل ما سمح لهم به أن يكون منهم قضاة تحقيق، أو قضاة منتدبون في التفاليس "، ولعل هذا النظام هو الذي جعل القاضي فان بملن يصف المحاكم المختلطة بقوله (ص 205) : " إنها ركن قوي من أركان السيطرة الأوروبية على مصر ".

وهناك رئاسة واحدة تركت للوطنيين في النظام المختلط، وهي الرئاسة " الفخرية " لمحكمة الاستئناف وللمحاكم الابتدائية الثلاث. على أن هذه الرئاسات أُلْغيت مع الزمن. ففيما يتعلق بمحكمة المنصورة الابتدائية لم يعين لها سوى رئيس فخري واحد، وهو عبد القادر باشا فهمي الذي كان مستشاراً بمحكمة الاستئناف المختلطة، ولمناسبة إحالته على المعاش سنة 1894 عين رئيساً فخرياً لمحكمة المنصورة، وظل يشغل هذا المنصب " الفخري " حتى وفاته سنة 1898، ولم يعين أحداً خلفاً له، وكذلك ألغيت الرئاسة الفخرية لمحكمة الإسكندرية سنة 1896، أما محكمة مصر فكان آخر رئيس فخري لها حنا نصر الله باشا سنة 1908 ولم يخلفه أحد، وآخر رئيس فخري لمحكمة الاستئناف المختلطة هو أحمد عفيفي باشا وقد شغل هذا المنصب من سنة 1907 إلي سنة 1914 ولم يعين أحد خلفاً له. والغيت هذه الوظيفة من ميزانية المحاكم المختلطة. ويجدر بنا أن نتساءل ماذا كان عمل الرئيس الفخري لمحكمة الاستئناف المختلطة ؟ إن كل ما كان له من الحقوق أن يرأس الجمعية العمومية السنوية لقضاة محكمة الاستئناف لانتخاب نائب الرئيس الأجنبي الذي هو الرئيس الفعلي للمحكمة، وليس له في الجمعية سوى الرئاسة فقط، إذا شاء أن يتولاها، وليس له أن يعطي صوته في هذا الانتخاب، أي أن رئاسته شكلية لا عمل لها. فهي أجدر أن تكون مدعاة للسخرية والازدراء.

افتتاح المحاكم المختلطة سنة 1876

في خلال سنة 1875 تم تعيين قضاة المحاكم المختلطة، واستقبلهم الخديوي في حفلة حافلة بسراي رأس التين بالإسكندرية يوم 28 يونية سنة 1875، وخطب الخديوي مرحباً بهم وبمحاكم " الإصلاح "، راجياً أن يكون افتتاح هذه المحاكم فاتحة عصر جديد للمدنية، فرد عليه شريف باشا، وكان وقتئذ وزيراً للحقانية، مهنئاً الخديوي بالعمل المنطوي على الرقي العظيم الذي تم على يديه، شاكراً إليه باسم القضاة على الثقة التي وضعها فيهم، ولم تكن فرنسا قد أقرت بعد النظام القضائي المختلط إقراراً نهائياً، وبذلك خلت الحفلة من القضاة الفرنسيين، إذ لم يكونوا عينوا بعد، واستمرت فرنسا في ترددها ورفضها، إلي أن رأت أن النظام سينفذ رغم إرادتها، فانتهت بالتصديق عليه في ديسمبر سنة 1875.

وفي أول يناير سنة 1876 افتتح رياض باشا وزير الحقانية في ذلك الحين المحاكم المختلطة في حفلة اقيمت بسراي محكمة الإسكندرية، أعلن فيها رسمياً افتتاح تلك المحاكم، وأقيمت في اليوم نفسه حفلة افتتاح محكمة مصر ومحكمة الإسماعيلية الابتدائيتين، وبدأ انعقاد جلسات تلك المحاكم في فبراير من تلك السنة، وألغيت من ذلك العهد المحكمتان التجاريتان في القاهرة والإسكندرية، إذ حلت محلهما المحاكم المختلطة.

نظرة عامة في القضاء المختلط

قام النظام القضائي المختلط على أساس تخويل هذه المحاكم سلطة الفصل في جميع المنازعات التي تمس أي صالح أجنبي، وجعل غالبية القضاة ورئاسة الجلسات للأجانب. فإذا نظرنا إلي حقائق الأمور، وتركنا الظواهر والمجاملات جانباً، رأينا في هذا النظام قضاء أجنبياً، يفصل في المنازعات والمعاملات القائمة بين الأجانب والوطنيين، فبينما الأجانب في كل بلد متمتع بالنزر اليسير من الاستقلال، يخضعون للقضاء القومي، نجد الأمر في مصر على عكس ذلك، فالوطنيون هم الذين يخضعون للقضاء الأجنبي، فكأنهم غرباء، والأجانب هم أصحاب البلاد، ولا يوجد في العالم أمة تحترم نفسها وتشعر بالكرامة ترضى بمثل هذا النظام، لأنه فضلاً عن منافاته لركن هام من أركان الاستقلال، وهو ولاية القضاء، فإنه نظام جارح للعزة القومية، باعث على الذل والهوان، إذ كيف يستشعر الكرامة قوم يخضعون في معاملاتهم مع الأجانب إلي قضاء أجنبي قائم في عقر دارهم ؟! قلنا ونكرر القول إن القضاء المختلط هو في الواقع قضاء أجنبي بكل معاني الكلمة، وما العنصر المصري فيه إلا أقلية لا ترفع عنه الصبغة الأجنبية، وإذا دخلت يوماً أية محكمة من المحاكم المختلطة، ابتدائية كانت أو إستئنافية، جزئية أو كلية، بل إذا دخلت أقلام الكتاب في تلك المحاكم، أو أقلام التنفيذ، رأيت نفسك في محكمة أجنبية، ليس فيها للصبغة المصرية وجود ولا مظاهر، فالقضاء غالبهم من الأجانب، ولا يسمح لقاض مصري أن يرأس جلسة ما، واللغة الأجنبية هي لغة المرافعات والأحكام، لغة التخاطب والتفاهم، لغة الإعلانات والتنفيذات، لغة القضاة والكتبة، والموظفين والمحضرين، بل والحجاب والفراشين.

أما اللغة العربية، لغة البلاد وأهلها وحكومتها، فلا وجود لها في تلك المحاكم، ولا يلتفت إليها أحد، ومن أراد أن يتكلم بها لا يجد من يسمع له إلا أذا شاء المترجم أن يترجمها للغة الأجنبية، فرنسية كانت أو إيطالية، والمتقاضون من الأهالي يدخلون هذه المحاكم فيشعرون أنهم غرباء، ولا يفهمون شيئاً مما يجري حولهم، ويقضي في مصيرهم ومصير أموالهم وأملاكهم وشرفهم ووجودهم، دون أن يدروا ماذا يفعل بهم.

فالقضاء المختلط هو إذن قضاء أجنبي، فيه افتئات على ولاية القضاء، أي على ركن مهم من أركان السيادة القومية، وفيه أيضاً افتئات على السلطة التشريعية، لأن الدول المتمتعة بالامتيازات الأجنبية، قد نالت بإنشاء هذا النظام حقاً جديداً. ذلك أن التشريع الذي يسري على الأجانب لا يكون نافذاً فيهم إلا بموافقة الدول صاحبة الامتيازات. فالنظام المختلط لم يقتصر على إنشاء قضاء أجنبي نافذ الأحكام على الرعايا الوطنيين وعلى حكومة البلاد، بل خول الدول الأجنبية حق التدخل في التشريع الذي سيسري على رعاياها. وهذا حق لم يكن لها من قبل إنشاء المحاكم المختلطة.

وقد تجلى تمسك الدول بهذا الحق حين وقع الخلاف بين الخديوي إسماعيل والدائنين في أواخر حكمه، فإنه لما صدر مرسوم 22 أبريل سنة 1879 بتسوية الديون، وعلى أن هذا المرسوم لم ينتقص شيئاً من حقوق الدائنين، فإن الدول احتجت على صدوره واستمسكت بلائحة ترتيب المحاكم المختلطة، واعتبرت أن لا حق للحكومة المصرية في أن تصدر أي قانون يتعلق بحقوق الاجانب بأي طريقة ما من غير موافقة الدول، وهذا ما جعل الكاتب الفرنسي المسيو " جابرييل شارم " يقول في بحثه المنشور بمجلة العالمين الفرنسية :

" إن القضاء المختلط الذي كان في نظر انصار القضاء القنصلي ينتقص حقوق الأجانب حيال الوطنيين قد أكسبهم على العكس سلطة أقوى وأكبر مما كانوا يستمدونه من الامتيازات الأجنبية، ، فإنه بمقتضى الإصلاح القضائي (المختلط) لا يمكن وضع أي نظام مالي يمس الأجانب سواء من الحكومة المصرية أو من الباب العالي من غير موافقة الدول ".

فهذا القول الذي يقوله كاتب سياسي أوربي قوي الدلالة على أن مصر خسرت بإنشاء القضاء المختلط إستقلالها التشريعي. والواقع أن المحاكم المختلطة شاركت الحكومة في سلطة التشريع، وسلبت منها هذه السلطة بالنسبة للأجانب، ولم يعد في مقدور الحكومة أن تصدر قانوناً نافذاً عليهم إلا إذا صدقت عليه الجمعية التشريعية للمحاكم المختلطة، أي أن هذه الجمعية صارت سلطة قائمة تغل السلطة القومية المتمثلة في هيئاتها التشريعية. وهذا سلب لأخص أركان الاستقلال، وقد خسرت مصر هذا الخسران بمعاهدة أبرمتها، لأن إنشاء القضاء المختلط هو نتيجة اتفاق بينها وبين الدول. فلا سبيل إلي التحلل من قيود هذا الاتفاق أو المعاهدة إلا بمعاهدة أخرى، وذلك بعد أن كانت حرة من هذه القيود، ولم تكن مقيدة من الوجهة القانونية والدولية إلا بمعاهدات الامتيازات كما أبرمتها تركيا، وكما كانت تطبق فيها، وقد رأيت أن أحكام هذه الامتيازات أخف وطاة من القيود الواردة في نظام القضاء المختلط، بل لا تكاد تذكر بجانبها شيئاً.

فمن الناحيتين القضائية والتشريعية، يتمثل في وجود المحاكم المختلطة الاعتداء البالغ على السيادة الأهلية وعلى الاستقلال القومي، كما أنه يعارض النظام الدستوري والبرلماني في البلاد، لأن البرلمان لا يستقل بالتشريع فيما يمس حقوق الأجانب ومصالحهم.

ويزداد هذا الاعتداء ظهوراً وجسامة باتساع المعاملات بين الوطنيين والأجانب. إذ لا شك أنه يسبب تكاثر النازحين إلي مصر من الأجانب، قد ازداد تبادل المعاملت بينهم وبين الوطنيين، وأصبحت المصالح بين الفريقين مشتبكة. وحيثما وجدت هذه المصالح صار الفصل في المنازعات التي تنشأ عنها من اختصاص القضاء المختلط، أو بعبارة أوضح القضاء الأجنبى، وكل تشريع يمس الأجانب عن قرب أو بعد لا يسري عليهم الإ إذا وافقت عليه الجمعية التشريعية للمحاكم المختلطة.

ومهما يكن لهذا النظام من أنصار، فهم لا يكتمون أنه مظهر من مظاهر التدخل الأجنبي، وأنه ضرب من ضروب الوصاية الأجنبية التي تنتقص من السيادة القومية في أخص أركانها، في ولاية القضاء، وفي سلطة التشريع، وفي النظام الدستورى والبرلماني.

ويجب أن لا ننسى أن هذا النظام لا يمثل العدالة في قدسها، بل يمثل أولاً وقبل كل شيء رعاية المصالح الأجنبية وإهدار حقوق الأهليين في سبيل تلك الرعاية.

فمن يوم أن أنشئت المحاكم المختلطة توطدت مصالح الدائنين الأجانب من الشركات والأفراد، واستقرار الرهن العقاري ونزع الملكية على قواعد مضيعة لأملاك المدنيين من الأهلين وحقوقهم، ولا يوجد في العالم محاكم تشبه المحاكم المختلطة في قسوة إجراءتها حيال المدنيين، وتعريض أملاكهم وأموالهم للبيوع الجبرية بأبخس الأثمان، وبأسرع من لمح البصر، وتحميلهم فادح النفقات من المصاريف الرسمية وغير الرسمية.

وقد كانت حرباً على مصر وعلى الخديوي إسماعيل الذي أنشأها. فإنه لما ارتبكت أحواله المالية أصدرت ضده الأحكام جزافاً للدائنين الأجانب، وتشددت في تنفيذها، وأسرفت أقلام محضريها في اقتضاء ما كان يحكم به على الخديوي، حتى أوقعت الحجز على منقولات القصور الخديوية، وأعلنت بيعها بالمزاد، وأظهرت من التحيز للأجانب في دعاواهم على الحكومة ما جعلها مضرب الأمثال في امتهان العدالة، فكانت من الكوارث التي أثقلت كاهل الخزانة والبلاد بالمغارم الباهظة. ورأى إسماعيل من تحيزها للأجانب ما جعله ينقم من نوبار باشا الذي كان السبب في إنشائها، وفي ذلك يقول القاضي الهولندي فان بلمن : " إن المحاكم الأجنبية (هكذا يسميها) صارت سلطة أقوى من الحكومة المصرية، وقد أدرك الخديوي إسماعيل في الوقت الأخير وبعد وقوع المحظور أنه بإبرامه الأتفاقات المنشئة لهذة المحاكم قد خلق لنفسه أسياداً جدداً، ولجانب سيادة القنصليات ". وقال في خضوع تلك المحاكم للمؤثرات الأجنبية : " إن هذه المحاكم التي يرتعد لها الخديوي والباشوات لم تكن مستقلة تمام الأستقلال عن العنصر الأجنبي في مصر. فبينما حكومة البلاد عزل امامها، كان الأجانب يَعُدُّونها محاكمهم، ويَرَوْن أنها أُنشأت خصيصاً لمناصرتهم في جميع الأحوال والقضاء لمصلحتهم ضد العرب والترك والخديوي. فكانوا منها في موقف حصين، إذ يحميهم الرأي العام الأوروبي، والمحامون، ورجال الأعمال والصحف، فضلاً عن المال الذي هو عدة الكفاح، وتَشُد أزرهم قوات القنصليات والدول، والجاليات الأوروبية، التي تتحفز لمهاجمة كل قاض وكل محكمة لتنحاز إلي جانبهم. وكان التأثير الأجنبي الواقع من الجاليات الأجنيبة والفرنسية والإيطالية، وحتى اليونانية، والرعايا المتمتعين بالحمايات، يبدو أكثر ما يكون في الإسكندرية، حيث تبذل دار البورصة جهودها للسيطرة على سرايا الحقانية (المحاكم المختلطة) المجاورة لها ".

وقال في موضع آخر (ج 1 ص 255) : " إن المحاكم المختلطة تحت تأثير الضغط الأجنبي، قد أشرفت على إصدار الأحكام ضد الحكومة والخديوي لصالح الأجانب من المقاولين والموردين أو من الأفّاقين من مختلف النحل ممن كانوا يطالبون بما ليس لهم حق فيه، أو بأضعاف ما يستحقون. ولقد أدى الإسراف في هذه الأحكام إلي تضخم الديون الثائرة التي أثقلت كاهل الحكومة، وتفاقم النكبة التي تولدت منها ".

وقال أيضاً : " إن المحاكم المختلطة هي أداة للسيطرة الأوروبية والإستغلال الأجنبي في مصر، فهي محاكم أجنبية، تقضي بين الناس بلغة أجنبية، وتطبق قانوناً أجنبياً، ونفعها للبلاد ضئيل، أما ضررها فكبير على الشعب المصري ولاسيما الفلاحين. ولقد اعتدت على سلطة الحكومة المصرية والخديوي، وخدمت بأحكامها التحالف الأجنبي الذي يستغل البلاد. ويعد عملها على الأخص في البيوع الجبرية والرهون العقارية كارثة على مصر ".

ومما يذكره أنصار هذا النظام في معرض دفاعهم عنه أنهم يعدون افتتاح المحاكم المختلطة إحدى الحوادث الثلاثة البارزة في عصر إسماعيل، فيضعونها بجانب افتتاح قناة السويس سنة 1869، وإنشاء صندوق الدين سنة 1867. فهذا السياق يدلك على حقيقة هذا النظام، فلا نزاع في أن قناة السويس وصندوق الدين هما من المنشأت التي أنقصت استقلال مصر المالي والسياسي. وطبيعي من وجهة النظر الأوروبية أن يوضع بجانبهما إنشاء المحاكم المختلطة، لأن وجود هذه المحاكم هو نقض لإستقلال البلاد القضائي والتشريعي.

ومن أبعد الأراء عن الصواب ما يذكرونه من أن وجود هذه المحاكم ضروري لنهضة البلاد وتقدمها، وأن رؤوس الأموال الأجنبية ما كانت لتستغل مرافق البلاد إذ لم يكن يحميها هذا النظام، ولعمري ليس يسع العقل أن يستسيغ مثل هذا المنطق الذي يقتضي ألا تكون نهضة ولا يكون تقدم إلا بهدم استقلال البلاد.

فليت شعري ألم يكن للبلاد نهضة وتقدم في عصر محمد على، أي قبل أن تنشاء المحاكم المختلطة ؟ أو ليس في البلاد المستقلة نهضة اقتصادية دون أن يكون بها مثل تلك المحاكم ؟

ليست المسألة مسألة نهضة وتقدم، بل هي إستغلال الأقوياء للضعفا. فوجود هذه السلطة القضائية والتشريعية الأجنبية في البلاد لا يعدو أن يكون مظهراً من مظاهر تدخل الدول الأجنبية في شؤون مصر، وإهدارها إستقلالها. فليس ثمة شك في أن هذه المحاكم إنما وجدت لحماية المصالح الأوروبية. فهي مظهر من مظاهر الحماية أو الوصاية الأجنبية التي تعددت أشكالها. ومن الخطأ أن يستشهد به أنصار هذا النظام من التجاء طائفة من المصريين إلي المحاكم المختلطة في منازعاتهم، ويتخذون هذا ذريعة لتسويغها ويقولون إن هذه الظاهرة هي شهادة من المصريين بصلاح هذا النظام.

فليس مجهولاً أن المصريين الذين يتحايلون على القانون برفع دعاواهم أمام المحاكم المختلطة لا يقصدون إلا إرهاق مدينيهم بجرّهم أمام محاكم لا يعرفون لغتها ويضلون في إجرأتها، ويحتملون من المصاريف والنفقات الباهظة ما تنوء به كواهلهم. وليس مجهولاً أن قضايا المطالبة بالديون في المحاكم المختلطة تنتهي في الغالب بما يتخللها من فداحة المصاريف القضائية وغيرها إلي اقتضاء الدين أضعافا مضاعفة، وتؤدي إلي خراب المدينين وتجريدهم من أملاكهم وأموالهم.

فهذه الوسيلة التي يلجاء إليها فريق من الدائنين المصريين هي ذريعة للتنكيل بمدينيهم. وهي لا تنهض دليلاً للدفاع عن هذا النظام، بل هي من أظهر عيوبه.

وصفوة القول إن نظام القضاء المختلط قد نقض سيادة مصر واستقلالها في ولاية القضاء والتشريع، وقد كان هذا النظام ولم يزل أداة لإستغلال مصر وإستعبادها اقتصادياً ومالياً. إن المصري الذي يستطيع إلغاء المحاكم المختلطة وإحالة اختصاصها إلي المحاكم الأهلية يسدي إلي مصر حقاً أعظم خدمة، وينال تقدير الوطن عن جدارة وإستحقاق، ويخلد إسمه إلي الأبد في سجل الحركة القومية ".

موسوعات ذات صلة :