قال الأنبا ايسوذورس: " فالنبأ الأول أخبر به السيد المسيح ورد في ( لوقا 21 : 43) وهو قوله عن المدينة (ستأتى أيام ويحيط أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة " وقد تمت هذه النبوة ونذكر ما ورد في الفصل 6 والفصل 7 من تاريخ المؤرخ يوسيفوس فقال: " إن آخر من تملك على اليهود اغريباس بن أغريبا بن أرسطوبولس أبن مريم زوجة هيرودس التي من نسل المكابيين، ولسوء طالع هذا الملك كان اليهود في زمنة في أشقى حال وفي فقر مدقع، وكانوا يغتالون بعضهم بعضاً غدراً وغيلة، فكان بعض من القتلة المأجورين يحملون سكاكين صغيرة ذات حدين تحت ثيابه، ومن كان له عدواً وأراد أن يقتله كان يؤج هؤلاء القتلة للتخلص من غريمه ويدفع له مبلغاً من المال، فيمشى القاتل المأجور بجانب الشخص المراد قتله وفجأة يفتك به ويختفى بين الجمع المزدحم في الأسواق والأزقة وفي الغالب كان القاتل المأجور له أعوان ليسهلوا طريقه في الهرب.
وحدث أن أغريباس عندما سافر إلى روما ليؤدى فروض العبودية والطاعة لسيده نيرون بقي Gessius Florus القائد الرومانى في مقاطعة يهوذا وحيدا فانتهزا اليهود الفرصة وحاربوه وقتلوا من الحامية الرومانية عدداً وافراً فهرب إلى قيصرية.
وفى طريق رجوع أغريباس الملك من روما مر على قيصرية وأتى بالقائد مع قائدين آخرين ومعهم جيش كبير، فلما وصل الملك خرج لأستقباله وجوه المدينة شاكيين من جور القائد Gessius Florus وظلمه، وقالوا أنهم شقوا عصا طاعة روما بقصد الأستقلال.
فقال لهم هذه حماقة ونصحهم بأن يرتدوا إلى الطاعة والسكون، ويتركوا العصيان فلم يسمعوا لنصحه، وكان قواد الرومان في أيديهم قرابيين من نيرون لبيت (هيكل سليمان) فرفضوا قبولها بخشونة واغتاظوا فقتلوا حامليها مع كل الرومان الذين في المدينة.
وكان الذي تجرأ على هذا العمل الفظيع رئيس عصابة أسمه لعازر أبن حنانيا الكاهن فلم يرضى الأعيان بفعلته وخافوا من سوء العاقبة ورد فعل الرومان فشكوه لأغريباس، وطلبوا مساعدته في سحق العصاة والمتمردين فأرسل لهم قائد ومعه 3 ألاف جندى فاستعانوا بهم وهجموا على ألعازر ومن معه وحمى القتال فهزموا رجاله وأمسكوا معظمهم، أما ألعازر عندما إنهزم تراجع إلى أورشليم وأستعان بأصحاب السكاكين الصغار وزحف على جند الرومان فهزمهم وفرق شملهم وطردهم من المدينة بعد أن أستولى عليها وحرق قصر الملك وأتلف أمولاً لا تحصى.
وذهب أغريباس إلى روما وأشتكى للقيصر فاستشاط غضباً، وأرسل في الحال إلى Cestius Gallus قائد فيالق الشرق وحاكم سوريا الذي كان في ذلك الوقت راجعا من حرب البارثين الفرس والارمن وأمره أن يخضع عصاة اليهود بحد السيف، وأخذ الملك أغريباس المنشور ورجع حاملاً إياه ووجد القائد Cestius Gallus دمشق فسلمه أمر ألمبراطور ورافقة إلى أورشليم والفيلق الروماني يتبعهما XIIe légion Fulminata فخرج اليهود لقتالهم، فكادت الدائرة تدور عليهم لو لم يتقهقروا ويهربوا غلى المدينة ويستعدوا بأبطالهم ورجالهم ويعيدوا الكرة على الروم فخاف القائد شرهم وأمر الجيش أن يتقهقر فتعقبوه وقتلوا الكثير من جنوده.
ورجع القائد Cestius Gallus إلى روما مخذولاً مهزوماً فجهز نيرون جيشاً آخر من 3 فبالق وأرسله تحت قيادة Flavius Vespasien أعظم قائد في جيوشه وأكثرهم خبرة بفنون القتال والكر والفر، فذهب يقود جيشه وصاحبه ولده تيتوس ودمسيانوس إلى اليهودية.
أما اليهود فقد قسموا قواتهم فرقاً فرقاً الفرقة الأولى كانت في جهة طبرية والجليل تحت قيادة الكاهن يوسيفوس أبن كربون، والفرقة الثانية مكانها كان في بلاد آدوم تحت قيادة لعازر بن حنانى الكاهن، والثالثة في أورشليم وما حولها بقيادة حنانى الكاهن.
ماذا حدث لجيش طبرية بقيادة يوسيفوس الكاهن؟
وعندما أتى Flavius Vespasien بجيشة إلى طبرية ومعه أغريباس الذي جمع جنود من سائر الأمم الذين يبغضون اليهود لقتالهم، وكانت طبرية تحت حماية الجيش الذي يرأسه الكاهن يوسيفوس، فلما شاهد يوسيفوس كثرة الرومان وتنظيمهم الحربي خافهم، فإنسحب إلى حصن في الجليل وتحصن به، فأرسل إليه القائد الرومانى يلاطفه ويطلب من الصلح والأستسلام وتسليم الحصن حقناً للدماء فرفض طلبه نزولاً لرغبة أعيان أورشليم وكبارها الذين رفضوا هذا العرض مفضلين الخوض في المعارك، فلما هاجمت الفيالق الرومانية الحصن خرج يوسيفوس بجنوده لقتالهم ودارت الحرب وحمى وطيسها، فلما شاهد Flavius Vespasien أن جيشة كاد أن ينهزم , وأوشكت الدائرة تدور عليه قام يحمس من همة جنوده في القتال ونزل إلى الحرب بنفسه وصاح فيهم وأندفع داخل خطوط اليهود مستقتلاً، فأصابته ضربة في ساقه كادت تقضى عليه , فلما شاهده جنده وقد أحدق الخطر بقائدهم أندفعوا يقاتلون اليهود بشراسة كالنسور فإطر اليهود الأنسحاب إلى داخل الحصن، واستمرت الحرب سجالاً مدته 48 يوماً و المدفعية الرومانبة تقصف الحصن بالمجانيق وآلة العقرب وتناقص عدد اليهود فكانت قواتهم ينقص عددها وتضعف قوتهم يوماً بعد يوم.
لقرعة
فلما كان اليهود ذات ليلة في غفلة من شدة التعب تسلق الرومان أسوار الحصن وفتحوا بابة من الداخل ومكنوا باقى الجيش الرومانى من الدخول خلسة وقاموا بقتل كل من فيه ولم يبق غير الكاهن يوسيفوس ومعه أربعون شخصاً ففروا عن طريق نفق من الحصن وأختبأوا في مغارة، ولما عرف قائد الرومان مكان وجودهم أرسل إليهم رسالة يؤمنهم على حياتهم إن أطاعوا وأستسلموا، فقبل يوسيفوس الكاهن ذلك ورغب في الأستسلام، فوبخه رفقائه وخيروه ما بين أمرين إما أن يقتل نفسه أو يقتلوه هم فلاطفهم ليتركوا هذه الفكرة فلم يوافقوه فاحتال على خلاص نفسه منهم وقال لهم: " إذا كنتم صممتم على الموت قبل أن يقبض علينا الرومان فليقترع كل أثنين من فمن وقعت عليه القرعة بالقتل يقتل صاحبه ثم يقتل نفسه حتى لا يبقى منا أحداً، فقبلوا مشورته وقتل بعضهم بعضاً إلى أن فنى الجميع ما عدا هو ورجل آخر فإتفق معه على أن ينجوان من الموت، وهكذا نفذ يوسيفوس الكاهن بحياته وخرج للقائد الرومانى ليصبح عبداً بقية حياته. وباستسلام يوسيفوس اصبح شمال فلسطين والمنطقة الساحلية جنوب جافا( تل ابيب) من جديد تحت سيطرة الامبراطورية.
الرومان يقضون على الجيش اليهودي الثاني
ومن تبقى من اليهود فقد انتشر الشر بينهم ولعب الشيطان برؤوسهم، فقد حدث أن رئيس عصابة في الجليل جمع حوله أدنياء اليهود وأوباشهم قوى بعد أن جمع حوله المجرمين فدخل إلى أورشليم وفتك بأهلها لفرض سيطرته على كل من يخالفه، فقاومه حنانى الكاهن، ولكنه لم يستطع السيطرة عليه وأشتكى إليه أهل المدينة، فبعث يستنجد بـFlavius Vespasien فلم ينجده، ولما رأى من بداخل المدينة منقسمين تركهم القائد الرومانى ليزداد انقسامهم بدون تدخل منه لأنه رأى مصلحته أن يقتل اليهود بعضهم بعضاً. وأتجه بقواته إلى بلاد آدوم، فأنتصر على فرقة اليهود الثانية التي كانت في بلاد آدوم تحت قيادة لعازر بن حنانى الكاهن في بضعة أيام ولكن من الظاهر أنه لم تكن الهزيمة نهائية الحرب على عرش روما
وفي سنة 68 قام Flavius Vespasien باخضاع Antipatris، وLydda، ويبة ونيكوبليس ثم عبر السامرية نحو القدس ولم يتبقى غير أورشليم أمام القائد الرومانى Flavius Vespasien وعندما بدأ يوجه قواته إليها، وردت أنباء بموت نيرون وقيام الفيالق الجرمانية بتعين قائدها otho امبراطورا، فغضبت الفيالق السورية من ذلك وبايعوه أمبراطوراً، فشطر الجيش قسمين، قسماً تركه تحت قيادة أبنه تيتوس وأمره بقتال اليهود، وأخذ معه إلى روما لطرد غريمه من على كرسى الأمبراطورية الرومانية، فطرده وأستولى على العرش.
تيتوس وخراب أورشليم
ونتيجة للهزيمة المتواصلة إنقسم اليهود إلى فرق عديدة، فقد جمع رجلاً أسمه شمعون عصابة حوله وقام ليغزو البلاد ويستولى عليها ويفتك بأهلها ويتلف مزروعاتهم وينهب أموالهم فقوى أمره، فإتجه إلى أورشليم وضايق أهلها فأصبحوا في بلاء مزدوج وضيق من الخارج والداخل وكانوا قد سئموا ظلم حنانى الكاهن وظنوا أن شمعون سيكون أفضل وطأة ورفقاً بهم من حنانى، ففتحوا له ابواب المدينة وعندما تمكن من السيطرة عليها أضاف عليهم ثقلاً فوق ثقل وأذاقهم الذل.
وسمع لعازر بن حنانى قائد جيش بلاد ادوم بمصائب أورشليم فأسرع لأنقاذ أهلها من مخالب هذين الزعيمين، فلما وصل لم يتمكن من طردهم وأصبح حملاً ثالثاً يتطلب أموالاً وغذاء لجيشه.
أما تيتوس فكان في هذه الفترة في بلدة قيسرية ينتظر وصول الفيالق المقدونية والدانوبية Ve légion Macedonica وlegio X Fretensis ويعدهم للحرب ثم زحف حتى وصل إلى جبل الزيتون ونصب معسكر جيشه في أتجاه شعار أهيا الاليهود المقدس وشعار النسر الرومانى علامة الدمار والخراب والعظمة الرومانية في 28 ماي سنة 70م.
ومن الأسباب التي جعلت القائد الرومانى تيطس يسرع في الزحف هاة العاصمة أورشليم هو طمعه ورغبته في ردوعه إلى روما على أثر جلوس والده على كرشى العرش، فلما شاهد زعماء اليهود الثلاثة المنقسمين جيش الرومان أمام سور المدينة كفوا عن محاربة بعضهم البعض وأصطلحوا وأتفقوا على قتال العدو، هاجمت الفيالق الرومانية القدس في 30 ماي من الشمالو وألتحم الفريقان ببعض فإنهزم اليهود وأنسحبوا إلى المدينة ثم أخرجوا قوة من المدينة في غفلة من الرومان ودارت من خلف صفوف الرومان ككمين ثم أستأنف اليهود القتال مرة أخرى وخرجوا من المدينة ولما ألتقى الفريقان في هذه المرة قام الكمين بالهجوم على مؤخرة جيش الرومان وحصروهم في الوسط وكادوا بهذه الحيلة أن يفنوهم عن آخرهم
ولكن عندما عاد اليهود إلى المدينة عاد الزعماء إلى التشاحن والتنافر والخلاف وبدأوا يفتكون ببعضهم البعض، وطيلة فترة القتال كان إذا ضايقهم الرومان يصطلحون مع بعض وإذا كف الرومان عن قتالهم قاتلوا بعضهم البعض فكانت الدماء لا تنقطع وتسيل دائما عند اليهود.
وفي 6 اغسطس عزز الرومان حصارهم للمدينة فاستعملو كبش حديدى وغيره من الألات والأبراج والمجانيق وأقتربوا من أسوار المدينة ومن الحصن وكانت بارتفاع الأسور وكانت تحت الأبراج بكرات ترفع الرجال للقتال من فوقها، فلما رآها اليهود قلقوا وأحسوا بالخطر فأتحدوا وخرجوا لقتالهم وأحرقوا هذه الألات وفرقوا الروم عن الحصن ثم رجعوا إلى المدينة وبدأ الرومان يبنون ألات أخرى أما اليهود فرجعوا للتقاتل مع بعضهم البعض وكانو حينها يعانون من نقص الغذاء، فشعر تيتوس بانشغالهم، فدفع الكبش خلسه في خدعة إلى السور الأمامى (كانت الحصون لها أثنين أو أكثر من الأسوار بحيث إذا سقط السور الأول أمكن للمحاربين الدفاع عن أنفسهم من وراء السور الثاني) وهدم جانباً كبيراً من السور الأمامى فهرب اليهود الذين كانوا يحتمن فيه ويحابون منه إلى السور الثاني (يعتقد أن السور الثاني هو الذي كان يحمى الهيكل) ، وأمر تيتوس أن تنقل الأحجار والأنقاض بعيداً وتوسع هذه الفتحة ليتمكن الجيش من الهجوم والأنسحاب أى الكر والفر. .
ولما شاهد اليهود انهيار تصالحوا مع بعض وفرقوا أبطالهم على جهات المدينة وصبروا على القتال ولكن تقدمت جحافل جيوش الرومان في تشكيلاتهم المخيفة، ودفعوا بالكبش إلى السور الثاني
فسقط منه جانب أيضاً فتراكض اليهود نحو منطقة الثغرة وصدوا هجوم الرومان وفي هذا الوقت دفع تيطس بالكتيبة 10 من الفيلق Ve légion Macedonica التي جائته وهجامت بكل قوة اعلى اليهود ففرق شملهم، حينئذ كف تيتوس عن الحرب حتى لا يسفك مزيد من الدماء، وأمر يوسيفوسى المؤرخ اليهودى أن ينصح قومه ويتكلم معهم في أمر الصلح من أسفل السور، ففعل ونصحهم مرشداً حتى لا ينتهى وجود الأمة اليهودية على أرضهم وأثناء كلامه بك الذين سمعوه لشدة تأثير أقواله عليهم.
أما بعض اليهود فتضايقوا منه ورشقوه بالحجارة من أعلى السور حينئذ قال لهم: " تقسون ليتم ما حكم الرب به عليكم من هلاك هذه المدينة وخراب هذا القدس الجليل إذ سفكتم فيه دم البار " ( يشير بكلمة البار إلى يعقوب الذي كان يطلق عليه هذا الأسم دون غيره) فلذلك قد قست قلوبكم وصارت كالحجارة لأن الحجر يؤثر فيه الماء إذا تواتر أنصبابه عليه وأنتم لا تنجح فيكم المواعظ مع كثرتها ولا تنتفعون بها ولا تلين قلوبكم ولا تخضع )
ولما رأى تيتوس الدموع تنهال على خدى يوسيفوس المؤرخ اليهودى الذي كان مرافقاً له ومشاهداً الأحداث رق قلبه وأمر بإطلاق الأسرى اليهود وأحسن إليهم، ولكن عامة الشعب تأثر من خطاب يوسيفوس ورغب كثير منهم الخروج إلى معسكر الرومان ولكن منعهم العصاة في الداخل كما نكلوا وقتلوا كل من حاول الخروج.
ولما يئس تيتوس من طاعة اليهود وإتمام الصلح عزم على هدم سور المدينة الثالث فقسم عسكره على أربعة جهات للمدينة ليهدم بها لاسور من كل جانب، فإضطر أن يخرج عصاة اليهود ويقاتلوهم في ذلك اليوم في بسالة مدهشة، وقتلوا من أعدائهم أفراداً لا تحصى وأحرقوا الكباش، ثم امر جنوده في 6 اغسطس بتدمير معبد سليمان واحراقه لمنع اليهود من الاحتماء بداخله وفي 28 اغسطس كان المعبد احترق كليا هو وقصر هيرود الأكبر ودمرت اسوار القدس ودكت المدينة بالارض وبهذا العمل انهى الرومان تمرد اليهود في الشطر الأكبر من فلسطين ولم تبقى إلى المنطقة الجنوبية حول حصن مسادة تواصل التمرد والعصيان والتي سيخضعها الرومان بعد عامين من سقوط بيت المقدس...
وبعد احتلال بيت المقدس عاد تيتوس إلى روما سنة 71 م ليحتفل بنصره وهو يحمل معه كنوز هيكل سليمان والالاف من اليهود العبيد الذين عرضهم على شعب روما في موكب نصر لم تشهد روما مثله وقام الرومان بعدها بانشاء مقاطعة اليهودية التابعة لسوريا وقام حاكمها Lucius Flavius Silva باكمال القضاء على اليهود ومنع اليهود من ممارسة شرائعهم الدينية في القدس..