كانت الدوشيرمة (باللغة التركية العثمانية: دوشيرمه، باللغة التركية: devşirme؛ وتترجم عادة «ضريبة الطفل» أو «ضريبة الدم»[1]) إحدى الممارسات التي تقوم بها الإمبراطورية العثمانية، وتتمثل بتجنيدها لأطفال الرعايا المسيحيين في البلقان،[2] وتدريبهم للعمل كعساكر وموظفي ديوان. أخذ الجنود العثمانيون الأولاد المسيحيين، الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و 20 عامًا، من شرق وجنوب شرق أوروبا بعيدًا عن عائلاتهم ونقلوهم إلى اسطنبول.[3] حُول هؤلاء الصبية بعد ذلك إلى الديانة الإسلامية بالإكراه،[4] بهدف اختيار أفضل الأطفال والمراهقين وتدريبهم لأداء الخدمة العسكرية أو المدنية للإمبراطورية ولا سيما ضمن القوات الانكشارية.[5]
بدأت الدولة العثمانية العملَ بنظام الدوشيرمة في منتصف القرن الثالث عشر، في عهد السلطان مراد الأول، كوسيلة لمواجهة القوة المتنامية للنبلاء الأتراك. رأى العديدُ من العلماء في هذه الممارسة انتهاكًا لمعايير الشريعة الإسلامية.[6] وصف ديفيد نيكول ما تعرض له الصبيان في ظل نظام الدوشيرمة بـ «الاستعباد الكامل»، ويمثل انتهاكًا لحماية أهل الذمة المكفولة بموجب قوانين الشريعة الإسلامية.[7] يخالف، خليل إينالجك، رأي نيكول، إذ يرفض في كتاباته وصف الصبيان المأخوذين للدوشيرمة بالعبيد الذين تحولوا للإسلام دفعة واحدة.[8]
كان كل من حمل لقب «الصدر الأعظم»، في الفترة الممتدة بين منتصف القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن السابع عشر، مسيحي الأصل تحوّل بالإجبار إلى الديانة الإسلامية، وخضع لنظام الدوشيرمة، ودُرّب وفقًا لنظام القصر.[9] بدأت هذه الممارسة بحلول عام 1700 بالتلاشي، يُعتقد بأن إجمالي عدد الأطفال والشبان الذين جنّدوا بهذه الطريقة يقترب من 200 ألف.[10] قاوم بعض العثمانيين، الذين رغبوا بالحصول على مناصب عسكرية ومدنية، محاولةَ إعادة إحياء هذه الممارسة في عام 1703. أُلغي نظام الدوشيرمة بشكل كامل في الأيام الأولى من عهد السلطان أحمد الثالث.
تاريخ
انبثق نظام الدوشيرمة عن نظام العبودية الذي تطور في القرون الأولى من عهد الإمبراطورية العثمانية، وأخذ شكله النهائي في عهد السلطان بايزيد الأول.[11] كان أغلب العبيد أسرى حرب أو رهائن، واشترت الدولة بعضهم من أسواق العبيد. أشار مصدر يوناني مبكر إلى كون لفظ الدوشيرمة من ابتداع رئيس الأساقفة أسيدور في سلانيك، بهدف تهدئة آباء الأولاد المختطفين بعد صدور أموامر السلطان بايزيد الأول.[12]
شعرت الإمبراطورية العثمانية (ابتداءً من عصر السلطان مراد الأول)، بالحاجة إلى «مواجهة قوة النبلاء (الأتراك) من خلال استحداث مجموعة من الجنود التابعين المسيحيين، وتحويل جماعة القبوقولو (وزراء القصر) إلى قوات السلطان الشخصية، بمعزل عن الجيش النظامي».[13] قُسمت قوات النخبة، التي كانت تعمل بشكل مباشر على خدمة السلطان العثماني، إلى مجموعتين رئيسيتين: سلاح الفرسان (الذين عُرفوا باسم «القبوقولو»، والمشاة (المعروفين بـ «الانكشاريين» أو الفيلق الجديد)).
في البداية، اختير الجنود الذين يخدمون في هذا السلك من العبيد الذين أُسروا أثناء الحرب. ومع ذلك، سرعان ما تم اعتماد النظام الجديد المعروف باسم دوشيرمة. جند هذا النظام أطفال السكان الريفيين المسيحيين في دول البلقان تحت سن المراهقة، وأُنشئوا على الديانة الإسلامية. التحق هؤلاء الأطفال، بعد بلوغهم لسن المراهقة، بإحدى الهيئات الإمبراطورية الأربعة: القصر أو الكتّاب أو الهيئات العسكرية أو الدينية. وأُرسلوا فيما بعد للجيش، إما كجزء من فيلق القوات الانكشارية أو كجزء من قوات أخرى.[14] أُرسل الأطفال الأذكياء إلى مدرسة القصر (مدرسة أندرون) التي تُخرج الإداريين والعسكريين الكبار لإدارة أمور الدولة، وتخرج ايضًا قادة قادرين على الوصول إلى أعلى منصب في الدولة، الصدر الأعظم، رئيس وزراء السلطان ذو السلطة العظيمة، والنائب العسكري.
حياة الدوشيرمة
كان العمر المثالي لتجنيد الأطفال في نظام الدوشيرمة يتراوح بين 8 و 10 سنوات،[15] إذ تم حظر تجنيد الأطفال دون الثماني سنوات. أُطلق على هؤلاء الأطفال لقبي (şirhor) بمعنى رضيع، و (beççe) بمعنى الطفل.[16] أظهر السكان المحليون، في بعض الأوقات، استياءً من نظام الدوشيرمة، وقاوموه بشتى الطرق، حتى أنّ البعض منهم تعمد تشويه أطفاله ليحميهم من سوقهم إلى الدوشيرمة.[17][18] من جهة أخرى، كان الآباء المسيحيون في البوسنة يرشون الكشافة بهدف سحب أبنائهم للدوشيرمة للدراسة في مدرسة أندرون، ليستلموا في المستقبل منصب الصدر الأعظم، ثاني أقوى منصب في الإمبراطورية.[19] «نُقل الأطفال من أسرهم إلى إسطنبول. وحُولوا فور وصولهم إليها إلى الديانة الإسلامية بالقوة، ثم فُحصوا ودُربوا لخدمة الإمبراطورية، خرّج هذا النظام جنودًا لسلاح المشاة، وإداريين مدنيين وكبار المسؤولين العسكريين.». [20]
على الرغم من استمرار تأثير النبلاء الأتراك على البلاط العثماني حتى عهد محمد الفاتح (انظر خليل باشا الجاندرلي الصغير)، لكن، تحولت الطبقة الحاكمة العثمانية ببطء لتُحكم - بشكل حصري- من قبل الدوشيرمة، الأمر الذي خلق طبقة اجتماعية منفصلة.[21] اختيرت هذه الفئة من الحكام من بين ألمع أفراد الدوشيرمة المنتقين بعناية للعمل في مدرسة القصر (مدرسة أندرون).[22] كان يتوجب على عناصر الدوشيرمة مرافقة السلطان في حملاته، لكن، تمثلت مكافأة الخدمة الاستثنائية لهم بإرسالهم بمهامٍ خارج القصر. حصل أولئك الذين اختيروا للكتّاب أيضًا على مناصب مرموقة. كانت المؤسسات الدينية، المعروفة باسم (إلمية)، المكانَ الذي يتلقى فيه جميع رجال الدين المسلمين (من أصل أرثوذكسي) العلوم الدينية ليُصار إلى نقلهم إلى المقاطعات فيما بعد أو إلى فرزهم للخدمة في عاصمة الدولة العثمانية.[23]
لاحظ تافيرنييه، في عام 1678، أن الإنكشاريين أقرب للنظام الديني أكثر منه للسلك العسكري. لم يُمنع أعضاء المنظمة من الزواج كما أشار تافيرنييه، لكنه كان، مع ذلك، نادرًا جدًا في صفوفهم.[24] يضيف تافيرنييه بأن عددهم قد تجاوز المئة ألف، ويعود ذلك إلى تفكك اللوائح التنظيمية، إضافة لكون أعداد كبيرة منهم انكشاريين مزيفين، انتحلوا هذه الصفة بغرض الإعفاء من الضرائب والحصول على امتيازات اجتماعية أخرى. يُشير تافيرنييه إلى أن العدد الفعلي للانكشاريين كان أقل من ذلك بكثير، إذ لم يتجاوز عددهم، أثناء حكم سليمان القانوني، 30 ألف.[25] زاد أعداد الانكشاريين، بحلول خمسينيات القرن السادس عشر، إلى 50 ألفًا، وذلك على الرغم من تراجع تجنيد الأطفال في نظام الدوشيرمة في الدولة العثمانية. جندت الإمبراطورية العثمانية العساكر من خلال التطوع، فقد حرص العديد من الآباء على الزج بأطفالهم في صفوف الانكشاريين لما تكفله لهم هذه الصفة من حياة مهنية مرموقة ومريحة.[26] حاول الفلاحون البلقانيون التملص من جامعي الجزية، وحاول العديد منهم إرسال أطفالهم إلى البوسنة، ولكن، وبالمقابل، قدمت العديد من العائلات الألبانية أطفالها طوعًا للدوشيرمة، لأنهم حصلوا بذلك على العديد من المكاسب التي يستحيل لهم أن يحصلوا عليها بأي طريقة أخرى.[27] تحولت بعض العائلات في البوسنة والهرسك إلى الديانة الإسلامية للحيلولة دون تجنيد أبنائها في الدوشيرمة، فيما حاولت بعض العائلات المسلمة إرسال أبنائها إلى الدوشيرمة بهدف تحقيق الارتقاء المهني لهم.[28]
تحدث ألربتوس بوبوفيوس في عام 1686 عن شيوع الأمراض في الدوشيرمة، وتعرض الأطفال فيها لسلطة نظام يتسم بالصرامة الشديدة.[29]
مراجع
- Ingvar Svanberg and David Westerlund, Islam Outside the Arab World, Routledge, 1999, p. 140
- James L. Gelvin (2016). The Modern Middle East: A History. Oxford University Press. صفحة 80. . مؤرشف من الأصل في 05 أبريل 2020.
- John K. Cox (2002). The History of Serbia. Greenwood Publishing Group. صفحة 29. . مؤرشف من الأصل في 05 أبريل 2020.
- The New Encyclopedia of Islam, ed. Cyril Glassé, (Rowman & Littlefield, 2008), 129.
- Basgoz, I. & Wilson, H. E. (1989), The educational tradition of the Ottoman Empire and the development of the Turkish educational system of the republican era. Turkish Review 3(16), 15.
- Gillian Lee Weiss (2002). Back from Barbary : captivity, redemption and French identity in the seventeenth-and eighteenth-century Mediterreanean. Stanford University. صفحة 32.
Many scholars consider that the "child levy" violated Islamic law.
- David Nicolle (22 July 2011). "Devshirme System". In Alexander Mikaberidze (المحرر). Conflict and Conquest in the Islamic World: A Historical Encyclopedia [2 volumes]: A Historical Encyclopedia. ABC-CLIO. صفحات 273–. . مؤرشف من الأصل في 05 أبريل 2020.
This effectively enslaved some of the sultan's own non-Islamic subjects and was therefore illegal under Islamic law, which stipulated that conquered non-Muslims should be demilitarized and protected
- Halil Inalcik, "Ottoman Civilisation", p. 138, Ankara 2004.
- William L Cleveland and Martin Bunt; William L. Cleveland (July 2010). A History of the Modern Middle East. ReadHowYouWant.com. صفحة 115. . مؤرشف من الأصل في 05 أبريل 2020.
- Peter F. Sugar (1 July 2012). Southeastern Europe under Ottoman Rule, 1354-1804. University of Washington Press. صفحة 56. . مؤرشف من الأصل في 05 أبريل 2020.
- Halil Inalcik, "Ottoman Civilisation", p138, Ankara 2004.
- Papadopoulos Stephanos I. Μνεία παιδομαζώματος στη Θεσσαλονίκη κατά την πρώτη κατοχή της πόλης από τους Τούρκους, [Mention of Paidomazoma in Thessaloniki during the first occupation of the city by the Turks] Christian Thessaloniki ... (11th-15th c. AD), Thessaloniki, 1992, pp. 71-77. In Greek language.
- Shaw 1976، صفحة 27.
- Shaw 1976، صفحات 112–129.
- Taskin, U. (2008). "Klasik donem Osmanli egitim kurumlari – Ottoman educational foundations in classical terms" ( كتاب إلكتروني PDF ). Journal of International Social Research. 1 (3): 343–366. مؤرشف من الأصل ( كتاب إلكتروني PDF ) في 5 أبريل 2020.
- Ortaylı, İlber (2016). Türklerin Tarihi 2. Timaş Yayınları. صفحة 71. .
- Yannaras, Christos, Orthodoxy and the West: Hellenic self-identity in the modern age, (Holy Cross Orthodox Press, 2006), 112.
- S. Trifkovic. The Sword of the Prophet: Islam; History, Theology, Impact on the World. p. 97
- Malcolm, Noel (1996). Bosnia: A Short History. London: Papermac. صفحة 46. .
- A History of the modern middle east Cleveland and Buntin p.42
- Zürcher, Erik (1999). Arming the State. United States of America: LB Tauris and Co. Ltd. صفحة 5. .
- Shaw 1976، صفحات 115–117.
- Shaw 1976، صفحات 132–139.
- تافرنييه. Nouvelle Relation de L'ınterieur du Serrial du Grand Seigneur. 1678, Amsterdam.
- Shaw 1976، صفحة 121.
- Ottoman Empire and Islamic Tradition, Norman Itzkowitz, p. 49
- Jean W. Sedlar. East Central Europe in the Middle Ages, 1000-1500. University of Washington Press. صفحة 269. مؤرشف من الأصل في 05 أبريل 2020.
- Traian Stoianovich. Balkan Worlds: The First and Last Europe. Routledge. صفحة 201. مؤرشف من الأصل في 05 أبريل 2020.
- Nicolas Brenner. Serai Enderun; das ist inwendige beschaffenheit der türkischen Kayserl, residentz, zu Constantinopoli die newe burgk genannt sampt der ordnung und gebrauschen so von Alberto Bobivio Leopolitano. J. J. Kürner. 1667. Search under Bobovio, Bobovius or Ali Ulvi for other translations. French version exists, and fragments exist in C.G. and A.W. Fisher's "Topkapi Sarayi in the Mid-17th Century: Bobovi's Description" in 1985.