بعد عام 1948 تعمدت الحكومات الصهيونية المتعاقبة وضمن التغييرات الجذرية التي أقدمت عليها، تهويد الحيز والمكان في فلسطين المحتلة عام 1948، بصورة عامة وفي المدن الساحلية خاصة، إذ تم إلى هذه اللحظة دُمِّر وهجِّر نحو 518 قرية ومدينة فلسطينية. وحولت المؤسسة الصهيونية أكثر من 80% من الفلسطينيين إلى لاجئين ومشردين في فلسطين وخارجها، وتحولت المدن الفلسطينية التي بقي فيها فلسطينيون وهي عكا وحيفا واللد والرملة ويافا، إلى "غيتوات" معزولة. وتم تهميش سكانها تماماً وفصلهم عن واقعهم الفلسطيني، وتحولت إلى مخيمات لاجئين، ومدن مستهدفة، يختلط فيها التمييز الحكومي الرسمي العام مع تمييز السلطات المحلية في تلك المدن الخاصة.
مخططات صهيونية
وضمن هذه السياسة المستمرة، تواجه البلدة القديمة بمدينة عكا الساحلية مخططات صهيونية مستمرة لتهجير السكان الفلسطينيين منها وتهويدها، حيث تعرض عشرات البيوت على المستثمرين اليهود لتملكها واستثمارها. وفي السنوات الأخيرة، بيعت عشرات البيوت لمستثمرين يهود، حيث تنظم "شركة تطوير عكا" جولات مستمرة لعرض البيوت للبيع بعد أن استولت عليها السلطات الصهيونية من الفلسطينيين.
وتضع السلطات الصهيونية يدها على هذه البيوت التي تعود ملكيتها في الأساس للاجئين فلسطينيين هجّروا من المدينة، أو تعود إلى مالكين لا يملكون ثمن ترميمها فيضطرون إلى تركها مقابل الحصول على بيوت جديدة خارج البلدة القديمة. عكا اليوم تعيش أزمة حقيقية تستهدف قضية المسكن والتعليم والهوية، وتعاني من تمييز واضح، والمتمعن في صيرورة الحياة ليس في عكا فحسب، بل في المدن الساحلية يرى أن الحقيقة غير ما تظهره السلطة، وأن المخططات والجهود والميزانيات المرصودة من أجل تكريس الهوية اليهودية ومحو الصلة بين هذه المدن والعرب الفلسطينيين قد بلغت مبلغاً كبيراً. ويعود تاريخ عكا إلى زمن بعيد، وهي من أقدم المدن الفلسطينية على الإطلاق، حيث تعتبر عكا مفتاح فلسطين بسبب موقعها الاستراتيجي، فهي قد بدأت كميناء كنعاني. وعرفت عكا بصناعة الزجاج والأصبغة الأرجوانية الملوكية، وقد احتلها وحكمها سلسلة طويلة من الغزاة، واشتهرت بصدها نابليون بونابرت عن أسوارها إبان الحملة الفرنسية، والبلدة القديمة هي بمثابة لؤلؤة أثرية وتاريخية، يزورها مئات السياح يومياً ليتمتعوا بسحرها وأجوائها المميزة. لكن البلدية الصهيونية تستغل الإعلان عنها كجزء من التراث العالمي إلى جذب السياح الأجانب، وقد أدى هذا الاعتراف إلى ارتفاع أسعار العقارات والبيوت داخل الأسوار بشكل كبير، مما جعلها محط أنظار المتمولين والشركات السياحية والعقارية الكبرى، ويأتي هذا الاهتمام على حساب السكان الذين يعانون من محاولات التهجير، سواء بوسائل الترغيب أو الترهيب".
طمس الهوية
واستغلت السلطات الصهيونية ذلك لتسهيل مساعيها لتفريغ البلدة القديمة البالغ عدد سكانها ما بين 8000 و10000 شخص، للاستيلاء على العقارات فيها وكل ذلك بادعاء أنها أملاك غائبين، وفلسطينيو عكا لا يستطيعون شراءها. والخطر هنا يكمن في الصراع بين الطمع الرأسمالي والصراع القومي، على غرار ما يجري لأحياء السود في الولايات المتحدة، وقد حولت البلدية العقارات في البلدة القديمة إلى سوق عقاري، يستهدف الوجود الفلسطيني فيها، مما يشكل خطرا على مستقبل الوجود العربي في البلدة القديمة.
ومثلاً الحمام الصغير وخان العمدان بيعت لمستثمرين بريطانيين بـ12 مليون شيكل، واليوم هي تعاني من إهمال متعمد. هذا بالإضافة إلى عملية تهويد أسماء الشوارع والحانات والساحات في عكا، حيث أطلق عليها أسماء عبرية، ومثال على ذلك قصة الميناء، حيث أطلق عليه اسم "الرمبام- رابي موشيه بن ميمون" ومؤخراً قامت البلدية بإطلاق اسم أحد قادة سلاح البحرية الصهيوني، وسط معارضة السكان الفلسطينيين الذين يطلقون عليه اسم "مرسى عيسى العوام". تغيير أسماء الشوارع والحارات في عكا القديمة، يمكن مشاهدته خلال السير في شوارع وأزقة البلدة القديمة، حيث تحمل اللافتات أسماء لا تمت بصلة إلى المدينة وسكانها وتاريخهم، وقد غيرت أغلب المسارات السياحية والمركزية في عكا القديمة وأعيد تسميتها، وكل ذلك من أجل جذب السياح الأجانب. وإجمالا، يتعرض فلسطينيو المدن الساحلية في فلسطين التاريخية لمعاناة وتمييز مزدوج. الأول كونهم جزءاً من الأقلية الفلسطينية، والثاني كونهم أقلية داخل هذه المدن، وتتعرض أسماؤها وأحياؤها وشوارعها لحملة تهدف إلى طمس أحيائها وهويتها العربية بكل الطرق والوسائل.