الرئيسيةعريقبحث

منهج التفكيكية


☰ جدول المحتويات


التفكيكية هي مصطلح موفق، وإن كان قد أسئ فهمه إساءة بالغة، ربما بسبب عدم تقديمه في صورته التاريخية التي تعتبر فلسفية أولا ونقدية أوأدبية ثانيا.فالتفكيك الذي اشتق منه المصدر الصناعي هو فك الارتباط، أو اللغة وكل ما يقع خارجها، أي إنكار قدرة اللغة علي أن تحيلنا إلي أي شئ أو إلي أي ظاهرة إحالة موثوقا بها، وعندما ننظر في معناها الفلسفي خصوصا في إطار مدرسة التحليل اللغوي الفلسفية الإنجليزية والتي عرفناها من خلال مناهج برتراند رسل وفتجنشتاين و جلبرت رايل وإير وغيرهم ممن قدمهم إلي قراء العربية زكي نجيب محمود وعزمي إسلام.

والغريب ألا نلتفت في مناهج الدراسة الفلسفية إلي هذه الفلسفة التي قدمها إلي الناطقين بالفرنسية جاك دريدا في ثلاثة كتب أصدرها عام 1967 م فحولت مجري التفكير النقدي البنيوي بتوسيع مجاله بحيث أصبح ممارسوه بعد التوسيع يصفون الحركة بما بعد البنيوية أما الحركة النقدية نفسها التي رفع رايتها من يسمون بأصحاب مدرسة ييل وهم بول دي مان نفسه، وجيفري هارتمان، فلم يكتب لها البقاء لأنها علي عكس البنيوية، كانت سلبية فهي تنكر ولاتثبت، وتقطع ولا تصل، وتفك ولا تربط إلا في حدود اللغة نفسها، ومن النص إلي النص، بل إن مذهبها الأساسي ألا وهو استحالة إثبات معني متماسك لنص ما.يبدأدريدا نقده علي الوصول بالطرق التقليدية إلي حل لمشكلة الإحالة، أي قدرة اللفظ علي إحالتنا إلي شئ ما خارجه فهو ينكر أن اللغة منزل الوجود ومعني منزل الوجود في نظره الطاقة علي سد الفجوة بين الثقافة التي صنعها الإنسان والطبيعة التي صنعها الله، أي أن اللغة لن تصبح أبدا نافذة شفافة علي العالم كما هو في حقيقته.وجهود فلاسفة الغرب جميعا وخصوصا من سبق ذكرهم من المحدثين هنا وكذلك الألمان مثل هايدجر وفريجي في محاولة تحقيق هذا الهدف بإرساء الأسس أو المذاهب القائمة علي البديهيات أو الحقائق البديهية الموجودة خارج اللغة وقد وصف دريدا مواصلة اعتساف هذا الطريق بأنه عبث لا طائل من ورائه، وبأنه تعبير عن الحنين إلي ماضي من اليقين الزائف .[1]

نظرة نحو التفكيكية

تعتبر ما بعد الحداثة عامة تفكيكا للنماذج المعرفية التي افترضت وجود غائية، أو افترضت من ثم مصدرا متعاليا للمعرفة، يقرر المعني، الحقيقة، القيم، وبالتلي السلطة.وذلك في كل من النموذج المعرفي الديني في العصور الوسطي,والنموذج المعرفي العقلاني الذي طرحه ديكارت.

هذا المصدر المتعالي الذي ألمح إليه دريدا علي أنه ميتافزيقا الحضور أو اللاهوت الأنطولوجي[2] وهو ما يوهم بطبيعية العلاقات بين الإنسان ومجتمعه وعالمه، فإذا كان الخطاب الذي يتضمن المجتمع بالضرورة كما يقول فوكو هو بمثابة فضاء تتأسس فيه العلاقات بين الأفراد[3] وينتج المعني، ويحددمواصفات القيم، أي أنه العملية الاجتماعية لصنع المعني، فإنه بالتالي يصبح أداة السلطة (أي سلطة) نحو السيطرة، ومن ثم يخلع علي نفسه ويستلب نعوت القوة، الحقيقة، المطلق..الخ.وذلك كي يتحول في النهاية إلي خطاب للهيمنة.إن زعزعة الخطاب السائد هو النغمة الأساسية لإستراتيجية التفكيك وبشكل أشمل الفلسفة المعاصرة بداية من نيتشه وهو مايؤدي إلي غياب الإطار المرجعي اليقيني أو تدميره، الأمر الذي يفضي حتما علي النسبية,وتعدد المنظور، أو فوضي المعني.

فتعمل التفكيكية علي تدمير هذا الخطاب المهيمن الذي يخص المدلول المفارق المعني الذي تم الاعتراف به باعتباره مطلق، وثابت، وأزلي، وشفاف، وسابق علي النظام، والذي تخضع له كل المدلولات الأخرى بمعني أنه مدلول مركزي و مهيمن و يقوم بتمثيل المعني النهائي (الله) مثلا هوهذا المدلول المتعالي، المركز، الذي يقر المعرفة:بنية ومحتوي، ويمنح المؤسسة الدينية(الكنيسة) شرعية صياغة خطابات المعرفة الواجبة، والملزمة، ومن ثم يصبح الخطاب الديني، هو الخطاب المركزي الذي تدور في فلكه كافة الخطابات المعرفية الأخرى.تقوم هذه الإستراتيجية إذن علي افتراض أن خطاب التفكيك يحاول أن يلغي أي مركزية وأي ميزة يمكن أن تنشأ عن وجود هذه المركزية.

وعلي افتراض أنه خطاب يسعي نحو خلق الاختلافات ويحتفل بها وبهذا يكون هذا الخطاب (خطاب تفكيك) هو نوع من الخطاب الهامشي الذي يحاول تعرية وتفكيك الخطاب السائد المهيمن حول الإنسان والمجتمع والعالم، والكشف عن جذوره التاريخية، وتفكيك ألياته المراوغة التي تسعي نحو خلق نوع من المعرفة الزائفة (الأيدولوجيا) التي تضمن احتكار القوة.أي أنه يقوم بما أسماه بارت بالنشاط المعادي للاهوت الذي يقوض التصورات الراسخة التي أقرها المجتمع السلطوي، والتي هيمنت في عصور السرديات العظمي.ولذلك احتفلت تلك النصوص بالحضور المتزايد لدلالات النسبية والتعدد، ونفي معاني الأصل الواحد والذات المركزية وثبات التقابل الحدي.وذلك هو الحضور الذي لا تفارق فيه الصورة دائرة المرايا المتعددة، المتوازية أو المتقابلة، تلك التي تعيد كل واحدة منها إنتاج الأخرى علي سطحها، في لعبة لا نهائية لما تنطوي عليه من التكثر والتنوع والتعدد و التباين كما لو كنا في غياهب تيه من المرايا.[4]

لا يقوم هذا الخطاب حين يفك اللوجوس باستبدال مرجع بأخر أو معني بأخر، فهي ليست لعبة سلطة، فحتي دريدا الذي أعاد تراتيبة الصوت، الكتابة، وأقر بأن الكتابة هي أصل اللغة، صرح بأنه لم يفعل ذلك في لعبة متبدلات قائلا :(أنا لم أفكر عموما في مقابلة مركز بأخر.فكتابي في علم الكتابة ليس دفاعا عن علم الكتابة أو تصويرا لمعالمه، بل وبدرجة أقل هو ليس إحياء لما اعتدنا تسميته بالكتابة.إن المسألة لا تتعلق بأن نعيد للكتابة حقوقها وامتيازها وكرامتها، هذه الكتابة التي اعتبرها أفلاطون شيئا يتنيما ولقيطا مقابل الكلام الذي جعل منه الابن الشرعي والبار للأب اللوجوس[5] أي أن مسألة إعادة التوزيع لم تكن في حسبانه أبدا.

إن التفكيك الذي قام به دريدا في هذه المسألة هو استبعاد المركز/الكلام، ثم اكتشاف الطاقة الكامنة في الهامش/الكتابة، ومن ثم اكتشاف أن مركزية الكلام المدعاة لم تكن غير زيف، حيث أن كافة السمات التي ادعاها الكلام كي يوهمنا بامتيازه قد اكتشف دريدا أنها سمات يشترك فيها الكلام مع الكتابة، وبالمنطق المعكوس، تستبدل الصيغة اللاهوتية في البدء كان الكلمة/اللوجوس بصيغة تفكيكية الكتابة لا تكمل فقط بل تحل محل أيضا، لأن الكلام مكتوب دائما[6].يجعلنا ذلك نفهم أن إستراتيجية التفكيك لاتبدأ من الخارج أبدا، أي أنها لاتجعل من نفسها سلطة فوق النص، بل ان دريدا نفسه في كتابه الكتابة والاختلاف يري ان التفكيك ليس نشاطا خارجيا، فالناقد التفكيكي مثلا لا يمارس نشاطا فوقيا علي النص، بل إنه فقط يساعد النص علي الإفصاح عن تناقضاته.حيث أن النص يظل دائما متضمنا أسباب دماره أو كما تقول سارة كوفمان

" أن دريدا لم يهاجم الميتافزيقا ولكنه أظهر فقط أن هذه الأخيرة لم تتوفر أبدا علي هذا الامتلاء,وتلك الثقة في النفس,وذلك الحضور الذي تدعيه "

,وباختصار إن عمل دريدا يقوم فقط علي الزيادة في صدع كان موجودا من قبل[7],ويتفق معها تيري ايجلتون الذي يري أن النص ينتقد أيدولوجيته من داخله عن طريق ما يغفل ذكره صراحة، أي عن طريق صراعات المعاني المتابينة[8].فنشاط التفكيك ليس خلخلة لبناء نص ما، بل إثبات أن هذا النص قد قام بخلخلة نفسه بنفسه.وما يقوم به التفكيك هو السماح للنص بأن يبوح بسقطاته الأيدولوجية أو نقاط العمي، أو لحظات التناقض الذاتي حيثما يفضح النص، لا إراديا، التوتر بين بلاغته ومنطقه، بين ما يقصد قوله ظاهريا وبين ما يكره علي أن يعنيه[9],ينطبق ذلك أيضا علي الخطاب التفكيكي، فالناقد كما يقول بول دي مان

" لايقول فقط ما لا يقوله النص,بل إنه يقول أيضا شيئا مالا يعنيه هو نفسه[10] "

تقودنا هذه الملاحظة الأخيرة إلي مفهوم أساسي في الإستراتيجية التفكيكية وهو مفهوم النص ذلك النص الذي صار نسيجا من الفضاءات البيضاء والفجوات التي يجب ملؤها<ref>ايكو,امبرتو/التأويل والتأويل المفرط/ص255</ref> كما يقول ايكو.يذكرنا ذلك بتفرقة بارت الهامة بين نص القراءة الذي يستهلكه القارئ، والذي يمنح نفسه للقارئ بلا مشقة، ومن ثم يقوم بترسيخ العادة، والسحر، والمألوف، وبين نص الكتابة الذي يقوم القارئ بإعادة كتابته مرة أخرى ومرات آخر في كل مرة قراءة ومن ثم فهو يمنح القارئ لذة خاصة تلك اللذة التي لاتشبه قراءة الأعمال الجنسية والبوليسية والميلودرامية، ولكن اللذة التي تضعنا في وضع الخسران، ولا تريحنا، بل قد تؤدي إلي إشعارنا بقدر من الضجر.وتهز أسس القارئ التاريحية والثقافية والنفسية مثلما تهز أنساق أذواقه وقيمه وذكرياته، إنها تثير أزمة في علاقته مع اللغة[11] .

نوع النص

إنه ذلك النص الذي يمنح لذة القراءة أو الكتابة باعتبار القارئ هو كاتب النص وهو يفعل ذلك عبر الغياب لا عبر الحضور، أي أن اللذة تأتي من الفجوات التي كلما امتلأ بها نص ما كلما كان هذا النص جديرا بالاعتبار، مثل روايات بيكيت القصيرة بخاصة مثل رواية الحب الأول خاصة حين يتمكن النص من مشاغبة مسلماتنا ودفعنا إلي التشكك فيما كنا نظنه صاحب حصانة.يفعل النص ذلك بأدواته اللغوية، بل وهذا هو الأقرب إلي النسق المفاهيمي لما بعد الحداثة، فإن اللغة نفسها هي التي تقوم بفعل الأداء وليس النص نفسه، أي أنها تقوم بهذا الأداء من خلال النص، فالنص أشبه بالاحتفال اللغوي الذي تكون اللغة أثناءه في إجازة من أعبائها اليومية العادية[12] أي إجازة من وظيفتها الإعلامية.

والواقع أن هذه الفكرة الأخيرة تحلنا إلي عدة مفاهيم أخرى مثل الكرنفال بالمعني الذي كان يعنيه باختين. وكذلك مفهوم كسر الألفة الخاص بالشكلانيين الروس إلا أنها وهذا هو الأهم تحلنا إلي المفهوم الأكثر أصالة لدي دريدا, وهو المفهوم الذي يعني الاختلاف والإرجاء في نفس الوقت.هذا المفهوم الذي يعبر عن غياب المعني الأبدي، فالإ|لارجاء أو الغياب هذا هو محور اللعب الحر في المنظور التفكيكي[13] حيث أنه يؤكد الصيغة الدريدية(نسبة إلي دريدا) والتي تقول أن الدال يشير إلي مدلول يتحول بدوره إلي دال يشير إلي مدلول يتحول بدوره إلي دال، في لعبة لا نهائية، ومن ثم يظل المعني غائبا أبدا، أي مرجئا، ولايمكن اقتناصه، فلاشئ غير الدوال التي تحيل إلي بعضها البعض دون امتلاك معني ما، في فوضي ما بعد حداثية شاملة، تتعارض بالتأكيد مع النظرة البنيوية الحداثية التي كانت تتجاهل هذا الحور اللانهائي للدال.بينما يتفق مفهوم الاختلاف مع قرينه لدي سوسير.فكما يقول سلدن

" فإن الاختلاف مفهوم مكاني تنبثق فيه العلامة من نسق للاختلافات التي تتوزع داخل النسق,أما الارجاء فمفهوم زماني تفرض فيه الدوال إرجاء لانهائيا للحضور,والفكر الذي يقوم علي مركزية الصوت يتجهل عنصر الارجاء ويلح علي حضور الكلمة المنطوقة بذاتها.[14] "

والواقع أن مفهوم الاختلاف في رأي الباحث هو واحد من أهم مصطلحات دريدا وأكثرها أصالة وإبداعا.حيث أن اللفظة التي صكها دريدا، والتي كما ذكرنا تعني الاختلاف والإرلاجاء في نفس الوقت، تشير بشكل موحي جدا إلي الإستراتيجية التفكيكية، حيث أن المعني الأول لها وهو الاختلاف يشير إلي تحقق البنية/النظام، الذي يقوم علي نسق الاختلاف كما يقول سوسير.أما المعني الثاني وهو الإرجاء، والذي هو مضمر في اللفظة فإنه يشير إلي غياب المعني الدائم، حيث أنه يتم إرجاؤه في كل مرة يلح فيها علي الحضور، ومن ثم يصبح حضور المعني مؤجلا إلي الأبد، رغم حضوره المضمر في الاختلاف نفسه.فإذا كان الاختلاف عنصر تثبيت الدلالة، فالتأجيل عنصر تفكيكها[15].هذا الإرجاء المحبوب هو ما يجعلنا نفضل النص الاحتفالي أو نص الكتابة الذي أشرنا إليه، ذلك النص الذي لايحضر المعني فيه أبدا.ومن ثم يظل نصا مفتوحا علي النهايات كلها، أي أنه يظل قابلا لقراءة لن تحدث أبدا، فالنص أصبح عملية وليس منتجا نهائيا سابق التجهيز.أي أنه صار نتاجا وليس سيرورة، بمعني أنه نتاج لسيرورة إنتاج النص [16] أي أنه صار خطابا، صار نتاج لا نهائي لعمليات جدلية بين الخطابات كلها.حتي الكاتب نفسه لم يعد ذلك المبدع الرومانسي الذي يقف بين الألهة والبشر بعد أن أسقط رولان برت عرشه.فالكاتب يكتب أساسا ما يكتبه الأخرون[17].ولذلك حل مفهوم التناص في أبجديات ما بعد الحداثة محل مفهوم النصية الحداثي.بل ان البعض يعتقد أن الانتقال من الحداثة لما بعدها توازي مع التحول من النصية إلي التناصية.وهذا معقول جدا، خاصة إذا عرفنا أن النصية كانت تجعل من النص بنية مغلقة ومعزولة.أما التناصية فإنها تفتح هذ البنية علي كافة البني الأخرى، فتجعل من النص خطابا ضمن خطابات كثر.ولذلك فإن فوكو خاصة بمفهومية الخطاب والأرشيف يعد أكثر الما بعد حداثيين تمايزا بفضل انتباهه للمجتمع، حتي لو كان هذا المجتمع ليس إلا نصوصا كثيرة، حيث أنه لا يعترف بوجود أو نص نغلق ومحدود.ولكنه يضع الخطاب والنص في جدل مع أرشيفه.كذلك فعل رولان بارت حين حاول أن يكشف عن التناص، أي عن تفاعل النصوص وتداخلها الذي يكشف النقاب عن وهم البنية الكتفية بذاتها[18],ولذلك فإن هذا الوعي بانفتاح النص يتضامن مع الوعي بموت المؤلف/المرجع/الأصل/المركز كي يجعل من القارئ هو فاعل التناصية الأول والأخير.إن دراسة استيراتيجية التفكيك هي أيضا دراسة حتمية لنظريات التلقي والنقد القائم علي استجابة القارئ [19] رغم أن هذه النظريات أسبق من التفكيك.حيث أنها قد سبقت التفكيك في الاهتمام بفكرة تعدد القراءات، بل أنها في بعض الأحيان قد بالغت في التعامل مع الذات نفسها تلك التي فككت وانحلت بسبب فرويد باعتبارها نصا مفتوحا، أو كما يقول سلدن فإن الأنا القارئة هي نفسها كثرة من نصوص أخرى[20],ولكن وفي ضوء ما سبق هل يمكن أن تصبح هناك قراءة أفضل من أخرى؟.بمعني هل يعني ما سبق أن هناك فرضي في القراءة تمكن أي قارئ أي كانت رؤيته للعالم، أو خبرته بالأدب، أو حتي مقصده من الاعتقاد في صدق تأويله؟وهل يسقط ذلك بالتالي من سلطة الناقد/المفسر؟.ألا ينبئ ذلك بموت الناقد أيضا؟خاصة إذا صدقنا أن القراءة الوحيدة لنص ما والتي يمكن التعويل عليها هي قراءة خاطئة [21] أو كما يقول بول دي مان أن كل قراءة هي إساءة قراءة.وبالمعني المعاكس تصبح كل قراءة صحيحة.هل بالغ التفكيكيون في ديمقراطيتهم؟وإيمانهم بالتعددية؟يبدو أن هذه شكالية أو مطب بمعني ما قد أوقع التفكيكيون أنفسهم فيه.ولايخرجهم منه إدعاء دريدا بأنه ليس فيلسوفا ولا ناقدا، وإنما هو قارئا للنصوص.وحتي لو سلمنا معه بذلك، فما الذي يمايز بينه كقارئ للنصوص وبين قرئ نصوص آخر؟وما المبرر إذن الذي يجعل من دريدا دريدا، بينما ينتهي الأخرون عند حدود عتباته من الدعين والملفقين..الخ؟ألا يحلنا ذلك مرة أخرى إلي تعالي هذا القارئ للنصوص؟بمعني ألا يعيدنا ذلك إلي مفهوم السلطة وعلاقة المعرفة بالقوة إذا استعرنا مصطلحات فوكو يبدو أنه لامناص لنا من ذلك.حتي أن العبارة المراوغة البديعة التي يقولها دي مان لا تنجح في الانفلات من التراتبية التي يكرهونها، يقول بول دي مان أن إساءة القراءة الصحيحة هي التي تطلق، لا التي تحد من، إساءات القراءة الحتمية التي تنتجها كل لغة[22] قاصدا بذلك القراءة الخاطئة/الصائبة هي التي لا تدعي امتلاك الحقيقة والمعني، والتي تسمح بتحقق التعددية، تعددية القراءات الخاطئة/الصائبة.ألا يعني ذلك أن هناك تراتبية بين القراءة الخاطئة/ الصائبة وبين القراءة الخاطئة .وإلي أن تحل هذه الإشكالية، يبقي الاعتراف بفضل التفكيك في تحرير ما يمكن تسميته بالنشاط المعادي للاهوت أو المعادي للأسطرة أو المتجاوز لميتافزيقا الحضور، وذلك من خلال موت الكاتب الذي هو الثمن الذي تتطلبه ولادة القارئ[23].لم يبرز تأثير فلسفة دريدا في النقد الأدبي إلا في كتابات نقاد جامعة ييل وبخاصة بول دي مان، ويصور دي مان العلاقة بين الأدب والفلسفة بقوله:

" إن الأدب أصبح الموضوع الأساسي للفلسفة ونموذجا لنوع الحقائق (أو الحقيقة) التي تطمح الفلسفة لبلوغها' "

ويعني ذلك أن الأدب لا يزعم أنه يحيل القارئ إلى الواقع الحقيقي خارج اللغة فهو تعريف خيالي، وتاريخ الفلسفة حسب تصور دي مان كان رحلة طويلة في دنيا الإحالة أو الإحالية، وإلى المضمون بعيدا عن الوعي بذاته، أي بأن الفلسفة استمدت أصولها من مصادر بلاغية أو من علم البلاغة نفسه. ويستند دي مان هنا على قول دريدا بأن الأدب يمكن اعتباره حركة تفكيك ذاتية للنص، إذ يقدم لنا معنى ثم يقوضه في آن واحد، فالأدب أقرب ما يكون إلى تجسيد مبدأ الاختلاف. وهو يحتفل بوظيفة الدلالة وفي الوقت نفسه بحرية عمل الكلمات في نطاق الطاقات الاستعارية وألوان المجاز والخيال دون الجمع بين المتناقضات فلا يصل أبدا إلى الوحدة[24].وأهم ما يلاحظ هنا هو أن هذا التصور للأدب باعتباره نصوصا متداخلة ينفتح بعضها على بعض ولا يجد النص منها حدودا تمنعه من تجاوز ذاته بدلا من التصور القائم على وجود نص مستقل أو كتاب مغلق يناقض تعريف الأدب الذي جاء به النقد الجديد باعتباره عملا يتمتع بالوحدة العضوية. وتستند النظرية كذلك إلى ما يطلق عليه 'خبرة القارئ' أو تجربة قراءته للنص وهو مرتكز يؤدي آخر الأمر إلى التصالح بين المعاني وتوحيد القوى المتصارعة وإحالة النص والقارئ جميعا في آخر المطاف إلى العالم الخارجي، ومن ثم يقول التفكيكيون – والكلام لجيفري هارتمان- إن الحقيقة الشعرية كانت تستمد حياتها في نظر النقد الجديد من العالم الخارجي باعتباره حقيقة فوق الواقع اللغوي أي متعالية عليه[25].ويرى التفكيكيون أن الميزة الأولى للأدب ترجع إلى أنه خيال أو كذب، فالشعر يحتفل بحريته من الإحالة وهو واع بأن إبداعاته ذات أساس تخيلي، ولذا فإنه لا يعاني مثلما تعاني النصوص الأخرى من مشكلة الإحالة إلى خارج النص وهو ما يلخصه أحد شراح النظرية – فيرنون جراس – بقوله: 'ترجع أهمية الأدب في ظل التفكيكية/ التقويضية إلى طاقته على توسيع حدوده بهدم أطر الواقع المتعارف عليها، ومن ثم فهو يميط اللثام عن طبيعتها التاريخية العابرة، فالنصوص الأدبية العظيمة دائما تفكك معانيها الظاهرة سواء كان مؤلفوها على وعي بذلك أم لا من خلال ما تقدمه مما يستعصي على الحسم. والأدب أقدر فنون القول على الكشف عن العملية اللغوية التي تمكن الإنسان بها من إدراك عالمه مؤقتا وهو إدراك لا يمكن أن يصبح نهائيا أبدا.[26]

القراءة التفكيكية

يرى دريدا أن النّص ليس ساحة تباينات، ومجال للتوتر والتعارض وحيز للتبعثر والتشتت وذلك حيث يولد دوماً عن القراءة تفكك البنى وانفجار المعنى وتشظي الهوية.إنّ تفكيكية دريداكممارسة نقدية تفكك النّص لتكشف أن ما يبدو عملا متناسقا وبلا تناقضات هو بناء من الاستراتيجيات والمناورات البلاغية. إن فضح ذلك البناء ينسف الافتراض بوجود معنى متماسك غير متناقض ومفهومه يمكن تفسيره بشكل واضح ويؤكد دريدا أهمية تحطيم كل الجاهز والمؤطر والمشكل والنظامي سواء كان نظريا، أم ثقافيا، أم مؤسسيا. ويلاحظ دريدا على النصوص أنها ليست متجانسة دائما ويحدد مطلبه من القراءة بقوله

" ما يهمني في القراءات التي أحاول إقامتها هو ليس النقد في الخارج، وإنما الاستقرار والتموضع في البنية غير المتجانسة للنصّ، والعثور على توترات، أو تناقضات داخلية، يقرأ النصّ من خلالها نفسه، ويفكك نفسه,أن يفكك النصّ نفسه فهذا يعني أنه يتبع حركة مرجعية ذاتية حركة نصّ لا يرجع إلاّ إلى نفسه، ولكن هناك في النّص قوى متنافرة تأتي لتقويضه وتجزئته".[27] "

ويقول دريدا معارضا البنيوية{{اقتباس خاص|إنّ الكتابة (إيكرتير) هي أصل اللغة، وليس أصلها هو الصوت الذي ينقل الكلمة المنطوقة. ويهدف علم الكتابة الذي وضعه دريدا إلى الحلول محل سيميولوجيا سوسير، والكتابة في تصوره المفصل تعني أية ممارسة من التفريق والإيضاح والفصل بالمسافات[28]. ويستخدم دريدا مفهوم الأركى–كتابة هذا ليحدث انقلابا في الأقطاب الموجودة في التمركز التقليدي حولاللوجوس:الكتابة/الصوت؛ الصمت/الصوت؛ عدم الوجود/الوجود؛ اللاوعي/الوعي؛ الدال /المدلول، إلى آخره. ونجد أن النظام المتمركز حول الصوت أو اللوجوس يصور العلامة تقليديا على أنها تتألف من الدال والمدلول، والعلامة تقع برسوخ في القلب من ذلك النظام وتدل فيه على قرب الصوت من الحقيقة ،والصوت من الوجود ،والصوت من المعنى[29].والإنسان التفكيكي عند دريدا وعلى العكس من أسلافه التقليديين يؤكد على لعب العلامات ونشاط التفسير، وهو يتتبع حول المركز اللعب الحر للدوال والإنتاج ذا الغرض للأبنية، ويتخلى عن الحلم بالأصول والأسس الوهمية ويشطب على الإنسان الأنطو-ديني والإنسانية الميتافيزيقية[30].إنّ القراءة التفكيكية ليست هي التي تقول ما أراد القول قوله، بل تقل ما لم يقله القول وليس في قولنا طلامس ولا سحر ولا شعوذات ولا لعب على الألفاظ،والقراءة بهذا المعنى تتيح تجدد القول ،أي قراءة ما لم يقرأه المؤلف، وهذا معنى قول التفكيكيين أن النّص ينطوي على فراغات، لأن النّص في حقيقته كوّن من المتاهات وهكذا يبنى النّص على الغياب والنسيان الأعلى الحضور والتذكر والغياب هو غياب الجسد والدال والحجب هناك يلجأ إليه المؤلف عمدا، لسبب من الأسباب ولكنه أيضا حجب يتم من دون قصد المؤلف، بسبب مضامين أيديولوجية تتسرب إلى النّص، ويقتصر تأثيرها على تغليف الحقيقة بقشرة خارجية أو جعل ما ليس بحقيقي تعلقا من خارج[31].وهكذا فإنّ التفكيكية تعطي السلطة الحقيقية للقارئ لا للمؤلف كما تركز تركيزاً كبيرا على الكتابة باقتلاع مفاهيم الكلام والصوت وتقتل أحادية الدلالة وتدعو إلى تشتت المعنى بتخليص النّص من القراءة الأحادية وتدعو التفكيكية إلى موت المؤلف وميلاد القارئ وتعتبر النصّ جملة من النصوص السابقة أو إقصاء لنصوص متعددة –التناص.عبد الله الغذامي ما إذا رجعنا إلى الخطاب النقدي العربي المعاصر فإننا نجد بعض الأقلام المتميزة التي اهتمت بهذه القراءة وحاولت تطبيقها على بعض النصوص العربية ومن أبرز هذه الأقلام: عبد الله الغذامي في مؤلفيه "الخطيئة والتكفير" و"من البنيوية إلى التشريحية"، و عبد المالك مرتاض في تطبيقاته على "حمال بغداد: تحليل سيميائي تفكيكي"، و"ألف ياء: دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة أين ليلاي لمحمد العيد آل خليفة، و"تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سردية".

نقد التفكيكية

التفكيكية منهج نقدي خطير لأنها نقد وتفكيك للمفاهيم السائدة قامت على التشكيك وزعزعة كل يقين.انطلقت التفكيكية من التشكيك في العلم ثم تحوّل إلى شك في كل شيء. شككّت التفكيكية في العلاقة القائمة بين الدال والمدلول والمعنى المتولد عنهما وهذا ما لا يقبله المنطق[32]. إنّ شك التفكيكية في اللغة نتج عنها شك في كل قراءة أو تأويل للنصوص، وهكذا فتحت التفكيكية الباب على مصراعيه لتعدد القراءات.تعسف التفكيك في الاحتكام إلى اللغة، وإقصائها الملابسات الخارجية جميعها.إلغاء المؤلف والحكم عليه بالموت، وبهذا يصبح المؤلف ناسخا فقط لنصوص أدبية وتجاهل لمواهب الأدباء وفرديتهم وتميّزهم[33]. تركيز التفكيك على الكتابة ونفيه للأشكال الأخرى للتواصل. غموض التفكيك واستخدامه لمصطلحات غير واضحة سعيا لإبهار القارئ وإقناعه بأن ما يقال استثنائي وغير عادي[34].بعد ما كان النص الأدبي مغلقا لا أفق له في الدراسات السياقية حيث كان مرتبط حينا بصاحبه وبمحيطه الاجتماعي والسياسي أحيانا أخرى، فغدا وثيقة تاريخية تبررها مواقف وأفعال، وهّمش القارئ، وكان مجرد مستهلك متلق لا ينتظر منه أي رد فعل مهما كانت قيمته وشكله.ولكن ما إن حدثت الخلخلة في النظام الابستيمولوجي الذي حرك المناهج السياقية ووجهها، عادت للقارئ سلطته التي فقدها فصار أكثر قدرة على استنطاق النص وفك شفراته من خلال إعادة تركيبه وفق ما يرتضيه هو أو ما يمنحه النّص من إمكانيات فعل ذلك[35].من ها هنا فتحت المقاربات النسقية للنص الأدبي أفاقا رحبة لفعل القراءة عندما منحتها سلطة تتجاوز إلى حد بعيد الصفة الاستهلاكية[36].إذن ما نخلص إليه من خلال هذه الدراسة هو أنّه إذا كانت المناهج السياقية قد حامت حول النّص الأدبي، فإنّ المناهج النسقية قد ولجت عالم النّص ولم تر فيه إلاّ شكلا لغويا جماليا، ولم تعد تعيرُ اهتمامها بما يقدمه النّص ولا عن دوره في المجتمع.إنّ للدرس الحديث دورا في تأسيس لمنهج نقدي معاصر يسعى لإلغاء السياق وتبني الطرح النسقي المحايث الذي يسعى إلى مقاربة نقدية مبنية على مقاربة النّص الأدبي لذاته وبذاته. لكن سرعان ما وقع هذا الطرح في مأزق النّص البنيوي المغلق، فعمل الخطاب النقدي جاهدًا من أجل تأسيس لمقولة أخرى تعمل من أجل تبني "الداخل والخارج" في الممارسة النقدية وجعل الخطاب الأدبي هو الوثيقة الأساسية التي تسعى المقاربة النقدية لقراءتها فتلمس علاماتها الدلالية من خلال المستويات الأساسية التي يؤسس عليها الخطاب الأدبي.وهذا ما يؤكد أن الخطاب النقدي المعاصر يعمل دائما من أجل الكشف والاستكشاف وذلك لتجديد أدواته الإجرائية ومفاهيمه ورؤاه، حتى يبقي على دم التجديد يسري في عروقه.

  1. كتاب المصطلحات الأدبية الحديثة للدكتور محمد عناني
  2. سبيفاك,جايتريا/صوردريدا/ص9
  3. الزواوي بغورة/مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو/ص36
  4. جابر عصفور/افاق العصر/ص20
  5. دريدا,جاك/مواقع/ص18
  6. سلدن,رامان/النظرية الأدبية المعاصرة/ص167
  7. كوفمان,سارة/مدخل إلي فلسفة جاك دريدا/ص22
  8. ايجلتون,تيري/التفسير والتفكيك و الأيدولوجية/ص103
  9. نوريس,كريستوفر/المرجع المذكور/ص187
  10. دي مان,بول/العمي والبصيرة/ص143
  11. ستروك,جون/البنيوية وما بعدها/ص101
  12. المرجع السابق/ص97
  13. عبد العزيز حمودة/المرايا المحدبة/378
  14. سلدن,رامان/النظرية الأدبية المعاصرة/ص165
  15. عبد العزيز حمودة/المرجع المذكور/ص378
  16. فيرلكو,نورمان/الخطاب بوصفه ممارسة اجتماعية/ص158
  17. جاكوبي,راسل/نهاية اليوتوبيا/ص126
  18. كريزويل,اديث/عصر البنيوية/ص271
  19. عبد العزيز حمودة/المرجع المذكور/ص314
  20. سلدن,رامان/المرجع المذكور/ص149
  21. ايكو,امبرتو/المرجع المذكور/ص41
  22. دي مان,بول/المرجع المذكور/ص158
  23. بارت,رولان/هسهسة اللغة/ص83
  24. المصطلحات الأدبية الحديثة للدكتور محمد عناني/ص143,ص144
  25. نفس المرجع السابق/ص145,ص146
  26. المرجع السابق/ص147
  27. جاك، دريدا: مقابلة أجراها، كاظم، جهاد: مجلة الكرمل، عدد،17 ،ص:59 ،عن عبد الكريم ،درويش: فاعلية القارئ في إنتاج النّص، المرايا اللامتناهية، مجلة الكرمل، 2010،ص:209.
  28. محمد، شبل الكومي: تقديم محمد، عناني: المذاهب النقدية الحديثة مدخل فلسفي،ص:318.
  29. محمد شبل، الكومي المرجع نفسه، ص:318.
  30. المرجع السابق/ص319
  31. عبد الكريم، درويش: فاعلية القارئ في إنتاج النّص المرايا اللامتناهية، مجلة الكرمل، 24/04/2010 ص:221.
  32. وليد، قصاب: مناهج النقد الأدبي الحديث، ص: 201
  33. المرجع السابق/ص211
  34. المرجع السابق/ص 116
  35. منصور، عبدالوهاب: القراءة من موت المؤلف إلى ميلاد القارئ، عن مجلة النقد والدراسات الأدبية واللغوية/ص71
  36. المرجع السابق /ص71

موسوعات ذات صلة :