الرئيسيةعريقبحث

الفصل بين الكنيسة والدولة


☰ جدول المحتويات


العلاقة بين الكنيسة والدولة، تقوم في الفهم المسيحي الحديث، على الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسات الزمنية في شؤون السياسة والإدارة والأحزاب. تعرّف الكنيسة عن ذاتها بوصفها "كيان ذي رسالة روحية، وليس ذي رسالة سياسية"،[1] ولذلك فإنّ "الشأن السياسي لا يدخل مباشرة في رسالتها"،[2] فهي تعمل في كنف الدول وفي طاعتها. وتعارض القوانين التي تقرها الحكومات ضد الحقوق التي تراها الكنيسة إلزامية مثل الإجهاض أو القتل الرحيم، وتدعم بشكل خاص، القوانين التي تعزز العدالة الاجتماعية والإنماء المتوازن بين الطبقات، في هذا السياق قال البابا بندكت السادس عشر: "إن اللامساواة الجائرة، وأشكال الإكراه المختلفة، التي تطال اليوم الملايين من الرجال والنساء، تتنافى تنافيًا صريحًا مع إنجيل المسيح، ومن شأنها ألا تدع ضمير أي مسيحي مرتاحًا".[3] المجمع الفاتيكاني الثاني قال إن الكنيسة أوكلت المسيحيين شؤون إدارة العالم، والعمل السياسي والحزبي، أما هي فلا تدعم الأحزاب أو تعارضها، إلا في الحالات الاستثنائية، مثل معارضة الحزب الشيوعي لمساسه بالعقيدة وحرية الكنيسة خلال مرحلة الحرب الباردة.

الحد الفاصل بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، والذي يجد صداه في العهد الجديد (انظر مثلاً روما 13: 1)، نما باطراد منذ المجمع اللاتراني الأول في القرون الوسطى وحتى الأيام المعاصرة، ودخل بمراحل اصطدامية مثل مرحلة الثورة الفرنسية. في المقابل، تطلب الكنيسة، عدم تدخل الدولة في أنظمتها الخاصة، أو أملاكها أو تعليمها أو إدارتها. بعض الرسائل العامة للباباوات أمثال العام المئة، للبابا يوحنا بولس الثاني، علّمت أن الكنيسة "تدافع عن «دولة الحق»، ومبدأها إناطة السياسة بقوانين عادلة لا بإرادات بشرية متعسفة"،[4] وأن الكنيسة "تقدر النظام الديموقراطي نهجًا يكفل للمواطنين صنع خياراتهم السياسية، ويضمن للمواطنين القدرة على اختيار ساستهم ومراقبتهم"،[5] وأنها "ترفض قيام زمر صغيرة حاكمة تغتصب السلطة من الدولة لحساب مصالحها الخاصة أو مآربها الآيديولوجية".[5] سوى ذلك، فإن القوانين المدنية تستمد قيمها عندما تكون عادلة، وفي مصلحة الخير العام، من القانون الطبيعي، الذي وضعه لله، وهو ما يثبتها ويحميها".[6]

هذا النهج، مطبق بشكل كبير إنما غير كامل، في البلدان التي تحوي كنيسة وطنية، مثل إنجلترا. ويتمثل الفرق، بالاعتراف بدين للدولة، وبكون الملك رأس كنيسة الوطن؛ بكل الأحوال فإن الكنيسة لا تتدخل في شؤون السياسة حتى في حال الكنيسة الوطنية.

لمحة تاريخية عن المفهوم والمصطلح

العصور القديمة المتأخرة

يُعتبر القدّيس أوغسطينوس أحد المساهمين المهمّين في النقاش المتعلّق بالعلاقة المناسبة بين الكنيسة والدولة، إذ درس في كتابه مدينة الله (الكتيّب التاسع عشر، الفصل السابع عشر) العلاقة المثالية بين «المدينة الدنيوية» و«مدينة الله». افترض أوغسطينوس في كتابه هذا بأنه يُمكن إيجاد أوجه تداخل أساسية بين «المدينة الدنيوية» و«مدينة الله»، ولا سيما أن الناس في أمسّ الحاجة للعيش سويةً والانسجام معًا على الأرض. وبذلك، يرى أوغسطينوس أن مهمّة «المدينة المؤقتة» تكمن في إتاحة بناء «مدينة سماوية» على الأرض.[7]

العصور الوسطى الأوروبية

حكم الملوك بواسطة مفهوم الحق الإلهي لقرونٍ من الزمن. استخدم بعض الملوك هذا المفهوم أحيانًا بهدف تدعيم الفكرة القائلة بأن الملك يحكم كلًّا من مملكته والكنيسة الواقعة داخل حدودها، إذ تُعرف هذه النظرية باسم قيصروبابوية. وعلى الجانب الآخر، أفادت العقيدة الكاثوليكية بأنه يجب على البابا امتلاك السلطة المطلقة على الكنيسة والسلطة غير المباشرة على الدولة بصفته نائب المسيح على الأرض. علاوةً على ذلك، طالب البابا بمنحه الحق في خلع الملوك الكاثوليكيين في أوروبا الغربية عبر العصور الوسطى، إذ حاول ممارسة هذا الحق ونجح فيه أحيانا بينما فشل في أحيانٍ أخرى؛ كما كان الحال في عهد هنري الثامن ملك إنجلترا وهنري الثالث ملك نبرة.[8]

أمّا في الغرب، تركّزت مسألة الفصل بين الكنيسة والدولة على الملوك الذين حكموا المنطقة العلمانية خلال العصور الوسطى، وتعدّوا على حكم الكنيسة في المنطقة الكنسية. أسفر هذا التناقض المعلّق والمنطوي على السيطرة النهائية للكنيسة عن صراعات على السلطة وأزمات في مجال القيادة، ولا سيما نزاع التنصيب الذي انتهى باتّفاق فورمس في عام 1122. تخلّى الإمبراطور عن حقّه في تقليد رجال الدين بخاتم وصولجان -كرمز لقوّتهم الروحية- بموجب هذا الاتّفاق، ويكفل الإمبراطور أيضًا الانتخاب عن طريق شرائع الكاتدرائية أو الدير والتكريس الحرّ.[9]

الإصلاح البروتستانتي

صاغ مارتن لوثر عقيدة المملكتين مع بدايات حركة الإصلاح البروتستانتي. يرى جيمس ماديسون أحد أهم المؤيدين الحديثين لفصل الكنيسة عن الدولة أن عقيدة المملكتين الخاصّة بلوثر تمثّل بداية المفهوم الحديث للفصل بين الكنيسة والدولة.[10]

اتّخذت أفكار لوثر مسارًا جديدًا مع ظهور أفكار الإصلاح الراديكالي (تجديدية العماد). ظهر التغيير بشكل بارز في كتابات مايكل ساتلر (1490- 1527) الذي اتّفق مع فكرة لوثر القائلة بوجود مملكتين، لكنّهما اختلفا في الفكرة القائلة بأن هاتين المملكتين منفصلتان، وبالتالي يجب ألّا يصوّت المؤمنون المعمدانيون وألّا يخدموا في مناصب عامة وأّلا يشاركوا في أيّ أمر ضمن «مملكة العالم». أصبح منظور ساتلر موقفًا معياريًا لمعظم القائلين بتجديدية العماد في القرون القادمة، في الوقت الذي تنوّعت فيه الآراء خلال الأيام الأولى من حركة الإصلاح الراديكالي. جاء القائلون بتجديدية العماد بهدف تعليم الناس بأنّه لا ينبغي على سلطة الدولة إكراه الدين، إذ تناولوا أيضًا مسألة العلاقات بين الكنيسة والدولة بهدف حماية الكنيسة من الدولة في المقام الأول.[11]

خلال ثلاثينيات القرن العشرين، رفض البابا كليمنت السابع إلغاء زواج الملك هنري الثامن من كاثرين أراغون، ما دفع الملك إلى الانفصال عن الكنيسة وتنصيب نفسه حاكمًا لكنيسة إنجلترا.[12] أبقى ملوك بريطانيا العظمى على سلطتهم الكنسية على كنيسة إنجلترا منذ عهد الملك هنري الثامن، الذي لقّب نفسه الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا. لم يتنشر الاختلاط الكنسي في إنجلترا على نطاق واسع، وذلك على الرغم من الاضطهاد الواسع للكاثوليك والناجم عن استيلاء الملك هنري على السلطة. أسفر الأمر في النهاية عن الانشقاقية، والمنشقّين الإنجليز، ومعاداة الكاثوليكية على يد أوليفر كرومويل، والكومنولث الإنجليزي، وقوانين العقوبات ضد الكاثوليك وغيرهم ممّن لم يتمسّكوا بكنيسة إنجلترا.

تمثّلت إحدى نتائج الاضطهاد في إنجلترا في فرار بعض الأشخاص من بريطانيا العظمى ليتمكّنوا من العبادة كما يرغبون لكنّهم لم يسعوا إلى الحرية الدينية. لم تتسامح مستعمرات أمريكا الشمالية المبكرة مع المعارضة الدينية مثلما فعلت إنجلترا؛ على سبيل المثال، لم تسمح ولاية ماساتشوستس البروتستانتية بالعبادة القياسية المسموحة في كنيسة إنجلترا. أبحر بعضٌ من هؤلاء الأشخاص طوعًا إلى المستعمرات الأمريكية خصيصًا لهذا الغرض. عُدّل دستور الولايات المتّحدة بهدف حظر إرساء الدين على يد الكونغرس على وجه التحديد، وذلك بعد ثورة المستعمرات الأمريكية الشهيرة ضد جورج الثالث ملك المملكة المتّحدة.

التنوير

غالبًا ما يُنسب مفهوم الفصل بين الكنيسة والدولة إلى كتابات الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1704-1632). وفقًا لمبدأ العقد الاجتماعي الخاص به، ناقش لوك افتقار الحكومة إلى السلطة في نطاق الضمير الفردي، وذلك نظرًا لكون الضمير الفردي شيئًا لم يستطع العقلاء التنازل عنه لتسيطر عليه الحكومة أو الأفراد الآخرين. يرى لوك بأنّ هذا الأمر قد خلق حقًّا طبيعيًا بامتلاك حرية الضمير، التي يرى لوك بأنها يجب أن تبقى محمية من أي سلطة حكومية. أثّرت هذه الآراء المتعلّقة بالتسامح الديني وأهمية الضمير الفردي إضافةً إلى عقده الاجتماعي في المستعمرات الأمريكية وصياغة دستور الولايات المتحدة بشكل خاص.[13]

وفي تلك الفترة من القرن السابع عشر، أكّد بيير بايل وبعض من الإيمانيين الروّاد في الفصل بين الكنيسة والدولة على استقلال الإيمان عن العقل. أمّا خلال القرن الثامن عشر، انتشرت أفكار لوك وبايل، ولا سيما تلك التي تعلّقت بالفصل بين الكنيسة والدولة، إذ روّج لها فلاسفة عصر التنوير. كان مونتسكيو قد كتب عن التسامح الديني والفصل بين الدين والحكومة إلى حدّ ما في عام 1721.[14] دافع فولتير عن الفصل إلى حدّ ما، لكنّه أخضع الكنيسة لاحتياجات الدولة في نهاية المطاف. أمّا دنيس ديدرو فكان من أنصار الفصل التام بين الكنيسة والدولة، إذ قال «المسافة التي تفصل بين العرش ومذبح الكنيسة لا يمكنها أن تكون أكبر من اللازم».[15]

جفرسون ووثيقة الحقوق

يُعتبر المصطلح الإنجليزي الدقيق اشتقاقًا من عبارة «جدار الفصل بين الكنيسة والدولة»، العبارة التي كتبها توماس جفرسون في خطابه إلى جمعية المعمدانيين في دانبري في عام 1802. كتب جفرسون في تلك الرسالة إشارةً إلى التعديل الأول لدستور الولايات المتّحدة قائلًا:

«أؤمن مثلكم بأنّ الدين مسألة متمثّلة بالعلاقة بين الإنسان وإلهه وحسب، إذ الإيمان والعبادة واجب له وليس لأحد آخر، فالصلاحيات الشرعية للحكومة متعلّقة بالأفعال وحسب وليس بالآراء. إنّي أتأمل في تقديس السيادة بفعل الشعب الأمريكي كلّه الذي أعلن أنه على الهيئة التشريعية «عدم وضع قانون يحترم مؤسسة دينية، أو يحظر ممارستها بحرّية»، وبالتالي بناء جدار الفصل بين الكنيسة والدولة.»[16]

المراجع

  1. الحرية المسيحية والتحرر، بندكت السادس عشر، مجمع العقيدة والإيمان، ترجمة ومنشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب 1986، فقرة.20
  2. الحرية المسيحية والتحرر، مرجع سابق، ص.61
  3. الحرية المسيحية والتحرر، مرجع سابق، ص.57
  4. العام مئة، رسالة عامة للبابا يوحنا بولس الثاني، الترجمة العربية الرسمية عن مكتب اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، بيروت 1994، فقرة.44
  5. العام المئة، مرجع سابق، فقرة. 46
  6. الشؤون الحديثة، رسالة عامة للبابا ليون الثالث عشر، 1891، بالنسخة الصادرة بالعربية عن حركة عدالة ومحبة، بيروت 1995، ص.83 فقرة.8/ 3
  7. Feldman (2009)
  8. Elliott, Charles (1877) [1851]. Delineation of Roman Catholicism: Drawn from the authentic and acknowledged standards of the Church of Rome. صفحة 165. مؤرشف من الأصل في 6 يناير 2020.
  9. Berman, Harold J. (1983). Law and Revolution: The Formation of the Western Legal Tradition. Harvard University Press.  . OCLC 185405865. مؤرشف من في 6 يناير 2020.
  10. "led+the+way"&hl=ja#PPA242,M1 Madison to Schaeffer, 1821. 1865. صفحات 242–43. مؤرشف من الأصل في 26 يناير 2020.
  11. Bender, H. S. "The Anabaptists and Religious Liberty in the Sixteenth Century." Mennonite Quarterly Review 29 (1955): 83–100.
  12. "Henry VIII: 1509–47 AD". Britannia History. مؤرشف من الأصل في 1 مارس 201926 مارس 2008.
  13. Feldman, Noah (2005). Divided by God. Farrar, Straus and Giroux, pg. 29
  14. Masters, Voltaire. Transl. by Brian (2000). Treatise on tolerance [and other writings]. Cambridge [u.a.]: Cambridge Univ. Press.  .
  15. Mason, Denis Diderot. Ed. by John Hope; Wokler, Robert (2005). Political writings (الطبعة Reprint). Cambridge: Cambridge University Press. صفحة 225.  . مؤرشف من الأصل في 14 أبريل 2020.
  16. Jefferson, Thomas (1802-01-01). "Jefferson's Letter to the Danbury Baptists". U.S. Library of Congress. مؤرشف من الأصل في 22 ديسمبر 201930 نوفمبر 2006.

انظر أيضاً

موسوعات ذات صلة :