الأمر بين الأمرين من عقائد المذهب الشيعي الإثنا عشري في أفعال الإنسان، وهي من مباحث العدل ؛الأصل الثاني من أصول الدين عند الشيعة الإثنا عشرية، ونظرية الأمر بين الأمرين في مقابل نظرية الجبر عند المذهب الأشعري ونظرية التفويض عند المذهب المعتزلي.
تعريف النظرية
المقصود بلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين أي أن الأفعال التي تصدر من الإنسان هي فعل الإنسان وباختياره وفي الوقت نفسه فعل الله تعالى، أي أن الإنسان يصدر منه الفعل باإرادته وفي الوقت نفسه با إرادة الباري تعالى ومشيئته التي يعطي الإنسان الإرادة والاختيار.[1]
- كما يعبّر عنها السبزواري بقوله: ( و الفعل فعل الله وهو فعلنا )[2]
مثال لتوضيح
قول جعفر بن محمد الصادق: ( لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين، فقيل ما أمر بين أمرين؟ قال الصادق: مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينتهِ، فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فَتَرَكْته كنت أنت الّذى أمرته بالمعصية).
يشرح صدر الدين الشيرازي هذا الحديث بقوله: لا يخفى عليك أنّ تحقيق معنى أمر بين أمرين ممّا يعجز عن إدراكه عقول كثير من العلماء والحكماء فضلا عن العوام والضعفا، والمثال الّذى ذكره ( عليه السلام) مثال حسن لمخاطبة العامى الضعيف تقريباً لفهمه وحفظا لاعتقاده في أفعال العباد حتى لا يعتقد كون العبد مجبورا في فعله ولا مفوّضا أمره إليه بالكلّية، فحيث نهاه فلم يكن مفوّضا له، وحيث تركه فلم يكن جابرا له، فهذا نعم المثال في حقّ من قصر فهمه عن درك كيفية الأمر بين الأمرين.
- المثال الذي ذكره أبو القاسم الخوئي لتوضيح نظرية لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين: لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد، فاقد القدرة، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً، وهو يعلم أن السيف المشدود في يده سيقع على آخر ويهلكه، فإذا وقع السيف وقتله، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف، دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.(هذا المثال يضرب للجبر )
و لو فرضنا أن رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيد إرادته فقتل هو به رجلاً، فالأمر على العكس، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى. ( و هذا المثال يضرب لنظرية التفويض )
و لكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد ( لا مرتعشها ) غير قادر على الحركة إلّا بإيصال رجل آخر التيار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوة ونشاطاً بحيث يكون لو رفع يده في آنٍ، انقطعت القوة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزاً. فلو أوصل الرجل تلك القوة إلى جسم هذا الشخص، فذهب باختياره وقتل إنساناً، والرجل يعلم بما فعله، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما، أمّا إلى المباشر فلأنه قد فعل باختياره وإعمال قدرته، وأمّا إلى الموصل فلأنه أقدره وأعطاه التمكن، حتى في حال الفعل والاشتغال بالقتل، كان متمكناً من قطع القوة عنه في كل آنٍ شاء وأراد.( و هذا مثال للأمر بين الأمرين ) [3]
إثباتها
الدليل النقلي
القرآن الكريم:
- من الآيات القرانية التي يستدل بها على نظرية الأمر بين الأمرين:
- { فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنّ الله قَتَلَهُم وما رَمَيتَ إذْ رَمَيْتَ ولكِنّ الله رَمَى}.[4]
- قوله تعالى: { قَاتِلُوهم يُعذّبْهُمُ اللهُ بأيدِيكُم ويُخْزِهِم ويَنْصُرْكُمْ عليهِم ويَشْفِ صُدُورَ قَومٍ مُؤْمِنِين }[5]
تشير الآيتين إلى أن للفعل نسبتين؛ نسبة إلى الإنسان ونسبة إلى الله عز وجل إلاّ أن هذه النسبة ليست على الشراكة أو على حدٍّ سواء.يقول محمد حسين الطباطبائي: ( للأفعال جهتان: جهة ثبوت ووجود، وجهة الانتساب إلى الفاعل، وهذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الأفعال بأنّها طاعة أو معصية، أو حسنة أو سيئة ).[6]
- هناك العديد من الآيات القرآنية التي نسبت الفعل الواحد إلى الإنسان وآيات آخرى تنسب نفس الفعل إلى الله عز وجل، كما جاء في قوله تعالى في حديثه عن قسوة القلوب:
- { ثم قَستْ قُلُوبُكُم مِنْ بَعْدِ ذلِك فهي كالحجارةِ أو أشَدُّ قسوةً }[7]
- { و لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُم وزيَّنَ لَهُمُ الشيطانُ ما كانوا يعملُون }[8] نُسب فعل القسوة في هذه الآيات إلى الإنسان "اليهود".
- ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُم لَعَنّاهُم وجَعَلْنَا قُلُوبَهُم قَاسِيةً )[9] و في هذه الآية الكريمة نُسب الفعل نفسه وهو قساوة القلب إلى الله عز وجل.
- هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تشير إلى أن الإنسان مختار في أفعاله، منها:
- قوله تعالى: { مَن عَمِلَ صَالحاً فلِنفسِهِ ومن أساءَ فَعَلَيْهَا ومَا رَبُّكَ بِظَلام لِلْعَبِيدِ }[10].
- قوله تعالى: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين } [11].
- قوله تعالى: { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كَفوراً }[12].
كما أن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن مشيئة الله تعالى وإرادته بكل شيء، وإن كل شي تحت قدرته وسلطانه، منها:
- قوله تعالى :{ و ما تَشَاءُون إلاّ أنْ يَشَاءَ الله رَبُّ العالمين }[13]
- قوله تعالى: { قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً ولاَ ضَرّاً إلاَّ مَا شَاءَ الله } [14]
- قوله تعالى: { و مَا كَانَ لِنَفْسٍ أنْ تُؤمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [15]
السنة النبوية
هناك الكثير من الروايات الواردة في السنة النبوية التي يثبت ويبين فيها أهل البيت نظرية الأمر بين الأمرين ويبطل الجبر والتفويض، منها:
- عن يزيد بن عمير ابن معاوية الشامي قال: دخلت على علي بن موسى الرضا بمرو فقلت له: يا بن رسول الله روي لنا عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه؟ فقال: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض، فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك.
فقلت له: يا بن رسول الله فما أمر بين أمرين؟
فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما امروا به وترك ما نهوا عنه. فقلت له: فهل لله عز وجل مشيئة وإرادة في ذلك؟ فقال: أما الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها الامر بها، والرضا لها، والمعاونة عليها، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها، والسخط لها، والخذلان عليها.[16]
الدليل العقلي
نظرية الجبر والتفويض
الجبر
- مقالة مفصلة: جبرية
* القائل بهذه النظرية هم الأشاعرة.
* تعريفها: نظرية الجبر تعني أن الإنسان في أفعاله مجبور، فجميع أفعال الإنسان هي في الحقيقة أفعال الباري تعالى. يعرّف محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه الملل والنحل نظرية الجبر والجبرية بقوله: ( الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى. و الجبرية أصناف: فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً. و الجبرية المتوسطة هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثِّرة أصلاً. و أما من أثبت للقدرة الحادثة أثراً ما في الفعل وسمّى ذلك كسباً، فليس بجبريّ )
و تنطلق نظرية الجبر من مقولة ( لا مؤثر في الوجود إلاّ الله تعالى ).
* الدافع: السبب في ذهاب الأشاعرة إلى القول بنظرية الجبر هو الحفاظ على أصل التوحيد ( توحيد الخالقية).
* الدليل:
الدليل النقلي من الآيات القرآنية التي يستدل إليها الأشاعرة في إثبات نظرية الجبر:
- قوله تعالى: { الله خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُون }[17]
- قوله تعالى: { و جَعَلْنَا على قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } [18]
* من أقوال الأشاعرة في نظرية الجبر:
- قول الأشعري في كتاب الإبانة: ( إنّه لا خالق إلّا الله، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله مقدّرة كما قال تعالى: { و الله خَلَقَكُمْ ومَا تَعْمَلُونَ }[19]، و إن العباد لا يقدرون أن يَخلقوا شيئاً وهم يُخلقون، كما قال تعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} [20] ) [21]
* النتائج: إن القول بنظرية الجبر يؤدي إلى:
- نفي العدل عن الله تعالى ونسبة الظلم إليه.
- نفي الحكمة عنه تعالى وذلك في عبثية الخلق وتكليف الإنسان وإرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية والوعد والوعيد والعقاب.
- نفي قانون السببية والعلّيه والمعلولية في عالم الإمكان، فطبق نظرهم لا يوجد هناك الإّ علة واحدة تامة تقوم مقام جميع العلل، فلا تأثير في الوجود إلّا لله سبحانه وتعالى.
- نفي الاختيار عن الإنسان.
إن نظرية الجبر تنطلق من الفهم الخاطئ لتوحيد الخالقية، بأن الله تعالى خالق كل شيء والمالك لكل شيء.
الأدلة على بطلان الجبر
من الأدلة التي يستدل بها المذهب الشيعي على بطلان الجبر: صحيحة يونس بن عبد الرّحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبد الله قالا : (إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون...)
التفويض
- مقالة مفصلة: قدرية
* القائل بها هم المعتزلة.
* تعريفها: أن الله تعالى ليس له أي صلة با أفعال الإنسان، فهو تعالى خلق الإنسان فقط وفوض إليه أمره.
توضيح يرى أصحاب نظرية التفويض أن حاجة الموجود الممكن إلى واجب الوجود في الحدوث فقط دون البقاء، أي أن الله تعالى بعد أن يحدث ويوجد الإنسان يعطيه الاستقلال التام، فيكون الإنسان في أفعاله تام الاستقلال والاختيار والإرادة من دون أن يكون لله تعالى في أفعاله أي إرادة ومشيئة.
* الدافع: للحفاظ على العدل الإلهي، الذي يعد في مذهب المعتزلة من أصول الدين، وعدم نسبة الظلم الذي يرتكبه الإنسان إلى الله تعالى وتنزيهه عن ذلك.
* الدليل:
- الدليل العقلي
- يستدل القاضي عبد الجبار على نظرية التفويض بأدلة منها:
-أنّه توجد في أفعال الإنسان ما هو ظلم وجور، -فلو كانت هذه الأفعال الظالمة والجائرة من فعل الله تعالى -يستلزم ذلك كون الله تعالى ظالما وجائرا، والله تعالى منزه عن ذلك.
- كما أن المذهب المعتزلي ينطلق في نظريته من قانون ( أن علة احتياج ممكن الوجود إلى علة تكمن في حدوثه " حدوث الفعل " لا شيء آخر) و من هذا المنطلق يكون ممكن الوجود بعد حدوثه وإيجاده مستغني عن العلة في بقاء وجوده. و يذكرون إمثلة حسية لإثبات ذلك، منها:
- البناء؛ أن البناء يحتاج إلى البنّاء فقط في حدوثه، وبعد ذلك ليس بحاجة إليها، بحيث لو مات البنّاء فلا يؤثر ذلك في وجود البناء أبداً.
- الكتاب؛ فإن احتياجه وعلاقته بالمؤلف فقط في حدوثه، وبعد ذلك ليس بحاجة إليها.
* من أقوال المعتزلة في التفويض:
- قول القاضي عبد الجبار: ( ذكر شيخنا أبو علي: اتفق اهل العدل على أن افعال العباد من تصرفهم وقيامهم و قعودهم، حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل اقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم).
* النتائج
- نفي تعلق الإرادة الإلهية با أفعال الإنسان.
- إن نظرية التفويض تستلزم الشرك، والقول بمخلوقين مستقلين.
- كما أنها تستلزم محدودية القدرة الالهية، يقول على بن موسى الرضا:( مساكين القدرية ارادوا ان يصفوا الله عز وجل بعدله فاخرجوه من قدرته وسلطانه).
الأدلة على بطلان نظرية التفويض
من القرآن الكريم
تتعارض نظرية التفويض مع ظاهر الآيات القرآنية، من ذلك:
- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }[22]
- قوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ}[23]
مسائل متعلقة بنظرية الأمر بين الأمرين
- هناك بعض علماء غير المذهب الشيعي ممن قبل بهذه النظرية، كالشيخ عبده في رسالة التوحيد، وأتباعه، وأيضاً قبل بها الرازي، وبعض مفكري مصر.[24] يقول محمد عبده: ( فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق، وهو غرور ظاهر. و منهم من قال بالجبر وصرّح به، وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف، وإبطال لحكم العقل).
انظر ايضاً
- الحسن والقبح العقليين.
- العدل عند الإثناعشرية.
المصادر
- (تنبيه: ليس المقصود بنظرية الأمر بين الأمرين في الفعل الإنساني أن يكون هناك شراكة في الفعل بين الله تعالى و الإنسان بحيث ينسب نصف الفعل لله تعالى و النصف الآخر للإنسان، بل المقصود أن الفعل كله لله تعالى كما أنه كله للإنسان، و لكن مع حفظ الجهة بين الوجد الغني لله تعالى و الوجود الفقير للموجود الإمكاني)الحيدري،الإنسان بين الجبر و التفويض مدخل لدراسة نظرية الأمر بين الأمرين،ص165
- السبحاني، جعفر، لب الأثر في الجبر و القدر و تليه رسالة أخرى في الأمر بين الأمرين، ص 236
- السبحاني، جعفر، لب الأثر في الجبر و القدر، ص241
- سورة الأنفال: الآية 17
- سورة التوبة: الآية 14
- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن،ج1،ص103
- سورة البقرة: الآية 74
- سورة الأنعام: الآية 43
- سورة المائدة: الآية 13
- سورة فصلت: الآية 46
- سورة الطور: الآية 21
- سورةالإنسان: الآية 3
- سورة التكوير: الآية 29
- سورة الأعراف: الآية188
- سورة يونس: الآية100
- النوري الموسوي، محسن، القصص العقائدية في التوحيد و العدل و النبوة و الإمامة و المعاد،ص 103
- سورة الصافات : الآية 96
- سورة الأنعام: الآية 25
- سورة الصافات: الآية 96
- سورة فاطر: الآية 3
- السبحاني، جعفر، بحوث في الملل و النحل، ج2، ص147
- سورة فاطر: الآية 15
- سورة البقرة : الآية 102
- السبحاني، جعفر، لب الأثر في الجبر و القدر، ص 236
مراجع
- الحيدري، كمال، موسوعة العدل الإلهي.
- الحيدري، كمال، الإنسان بين الجبر والتفويض ـ مدخل لدراسة نظرية الأمر بين الأمرين.
- السبحاني، جعفر، تلخيص محاضرات في الإلهيات.
- السبحاني، جعفر، لب الأثر في الجبر والقدر، وتليه رسالة في الأمر بين الأمرين.
- الأمر بين الأمرين دراسة في مسألة الجبر والاختيار، مركز الرسالة.
- مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية