لقد وجـد الإنسان نفسه بعد أن لم يكـن ( الإنسان هنا بالمعنى العـام الافتراضي و ليس آدم )، وجد نفسه مدرِكاً لنفسه، وسـط مخلوقات قد تشبهه من أوجه وتمتاز عنه من أوجـه أخرى، بين سمـاء وأرض، يتعاقب عليه ليل ونهار، تتجاذبه أحوال متباينة، ملائمة لأغـراضه تارة، وغير ملائمة أخرى؛ ووجد من نفسه انجذاباً إلى أشياء حسب هذه الأغراض، ونفوراً من أشياء أخرى، كما وجد من نفسه قوة تسعفه على التصرف في نفسه أو في غيره من الموجودات تبعاً لما يعطيه إدراكه. غير أن ذلك لم يكن له دائماً على التمام: فقد لاحظ أن الأشياء قد تنصاع له حيناً، وتستعصي عليه حيناً آخر: وذلك كتوفر مصادر الأكل له مثـلاً في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان، أو مناسبة نوع من المأكولات له في حال دون حال؛ فاحتار الإنسان في نفسه: أهو سيد الوجود، بحيث يكون من سواه عبيداً مُسخَّرِين له يتصرف فيهم كما يشاء ؟ ... فلا يـجب أن يستعصي عليه شيء، ولا أن يخالف إرادته شيء ! أم هو مسخر مثل غيره، لا يملك من أمره شيئاً؟ فلمن هو مسخّر، ولمَ هو مسخّر؟ ... ولماذا يجد من نفسه بعض قدرة وبعض تحكم في مقابل ذلك؟ فصار الإنسان يتوق إلى الوصول إلى حل هذا اللغز الكبير، واستعمل في ذلك كل قواه الحسية منها والعقلية ، فشرع يرتب معلوماته ويصنفها، ثم يركبها تركيباً خاصاً ينتج له معلومات جديدة، وصار إدراكه يتطور شيئاً فشيئاً ويتوسع بمرور الزمن، فظن أنه يقترب من الحل، حل اللغز الذي يُحيّره. وإلى جانب تعطشه إلى العلم بحقيقة الأمر، أو قل قبله، كان الإنسان يتحرك حسياً ومعنوياً في هذا الوجود بدافع حافزين اثنين، هما:
وكلاهما يندرج تحت معنى واحد هو: المحافظة على بقاء النفس. tمن قبيل دفع الضرر: احتماؤه من الحر والقر، واتقاؤه من الحيوانات التي تكون خطراً على حياته، إلى غير ذلك من المضار. ومن قبيل جلب المنفعة: توفير المأكل والمشرب للإبقاء على حياته وقوته، والبحث عن سبل تنمية مداركه، إلى غير ذلك من المنافع. لكن من حقق النظر، يجد أن جلب المنفعة يعود في الأصل إلى دفع الضرر، فتوفير المأكل والمشرب مثلاً، إنما هو في الأصل لدفع ضرر الجوع والعطش في المرتبة الأولى، ثم دفع ضرر الموت في المرتبة الثانية، وهكذا في كل أمر على التفصيل. غير أن إدراك هذا الأمر على سبيل التحقيق، ليس في مقدرة العقل في هذا الطور. كما يلاحظ أن النتائج لم تكن دائماً موافقة لإرادة الإنسان في هذا المجال: فهو من حيث يريد دفع الضرر، قد يقع فيه؛ ومن حيث يريد جلب النفع، قد يجر على نفسه ضرراً لم يكن متوقعاً لديه. وبمرور الزمن، صارت هذه الصورة المبسطة لمظاهر حياة الإنسان، تزداد تعقيداً وتشعباً حتى لتكاد تخفى أصولها عن جل العقول.