الخنساء واسمها تماضر بنت عمرو السلمية (575م - 24 هـ / 645م)، صحابية وشاعرة مخضرمة من أهل نجد أدركت الجاهلية والإسلام وأسلمت، واشتهرت برثائها لأخويها صخر ومعاوية اللذين قتلا في الجاهلية.[2] لقبت بالخنساء بسبب ارتفاع أرنبتي أنفها.[3]
الخنساء | |
---|---|
معلومات شخصية | |
اسم الولادة | تماضر بنت عمرو السلمية |
الميلاد | 575م[1] نجد |
الوفاة | 645م نجد |
الإقامة | ديار بنو سليم |
الديانة | الإسلام |
الزوج | رواحة بن عبد العزيز السلمي، مرداس بن أبي عامر السلمي |
عائلة | آل الشريد (من سادات وأشراف العرب وملوك قبيلة بني سليم ) |
منصب | |
سبقها | بني سليم |
الحياة العملية | |
المهنة | شاعرة |
اللغات | العربية |
سبب الشهرة | رثاء |
📖 مؤلف:الخنساء |
اللقب
لُقّبَتْ بالخنساء لقصر أنفها وارتفاع أرنبتيه.[4] قال الحُصري في كتاب زهر الأدب: لقبت بالخنساء كناية عن الظبية وكذلك الذلفاء والذلف قصر في الأنف ويريدون به أيضًا أنه من صفات الظباء.[5]
نسبها
- هي : أم عمرو[5] تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد وهو عمرو بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. من آل الشريد من سادات وأشراف العرب وملوك قبيلة بني سليم في الجاهلية.
سكنوا بادية الحجاز في الشمال الشرقي من مدينة يثرب، حيث تمتد مضارب بني سليم.
كما اعتز النبي محمد ﷺ بالانتساب إلى بني سليم، فكان يقول: " أنا ابن الفواطم من قريش، والعواتك من سليم، وفي سليم شرف كثير "[6]، وآل الشريد كانوا سادة بني سليم. وعمرو بن الحارث -أبو تماضر- كان من وفود العرب على كسرى، وكان يأخذ بيدي ابنيه معاوية وصخر في الموسم حتى إذا توسط الجمع قال بأعلی صوته: أنا أبو خيري مضر، فمن أنكر فليغير. فلا يغير عليه أحد. وكان يقول: من أتى بمثلهما أخوين من قبل فله حكمه. فتقر له العرب بذلك.[7][8][9]
بيئتها
البيئة زمان ومكان وطبيعة وأشخاص، يتفاعل معها تكون الشخص، ويتأثر بها أبناؤه. إنما تتضح شخصية إنسان بوضوح بيئته، وخصوصاَ أولئك الذين طواهم التاريخ، ولم نستطع أن نعرف إلا مظاهر بدأت في سلوكهم أو أقوالهم. والخنساء واحدة من هؤلاء، فقد تبين كيف أنها ولدت قبيل الإسلام وعاشت بعده، ولا أحد يعرف عنها، ولا يذكر من أوصافها شيئاً، الا حين تعرض لها " دريد بن الصمة" طالباً الزواج منها، وعندها فقط التفتنا إلى أنها جميلة، أسر جمالها فارس طالما أسر الفرسان.
إن أهم ما اتسم به مجتمعهم ويساعد في توضيح شخص الخنساء، هو تألف القبيلة من ثلاث طبقات:
- أبناؤها الذين يربط بينهم الدم والنسب، وعليه ينهض القبيلة وترتفع.
- العبيد المجلوبون من البلاد الأجنبية المجاورة وخصوصا الحبشة.
- الموالي، وهم عتقاء القبيلة.
وتخضع القبيلة بطبقاتها الثلاثة لقانون اجتماعي عام، فرضته عليهم ظروف الحياة وألزمهم إياه شعورهم بالحاجة إلى التضامن. ويتلخص هذا القانون في كلمة واحدة هي ( المروءة ) وعنها تتوالد كل أخلاقهم الاجتماعية. والخنساء البدوية كانت تقطن مكاناً له خصائص ومميزات، نضحت على إهله، وظهرت على سكانه، فقد اشتهر أهل نجد بالبلاغة وقد ذهبوا في الشعر كل مذهب[10].
الخنساء الشابة
نستطيع أن نلمح صورة الخنساء بالقدر الذي يمكننا من أن نصفها -واثقين- بأنها كانت ذات حسب وجاه وشرف. وأنها كانت ذات جمال أّخاذ، وتقاسيم متناسقة... لذا شبهوها بالبقرة الوحشية. والعربي إذا تغزل في الأنثى، وأراد التعبير عن جمالها، شبهها بذلك. لكن هذا التشبيه لتماضر لم يكن في معرض غزل طارئ، وإنما هو تشبيه صار لها لقباً غالبا على اسمها وكنيتها.
كانت ذات أمر بالغ، وجاذبية طاغية، أطلقت الألسن فواجهتها بحقيقتها، فعرفت ما تملك في يدها من سلاح، كما عرفت قيمة ذلك السلاح. لم يكن في حياتها ما يقلقها، ويقض مضجعها - شأن مثيلاتها في أول العمر، ومقتبل الشباب- فقد أضفى عليها مركز قبيلتها، وكانة أسرتها، وسيادة أبيها كل أسباب الطمأنينة، كما قد أفاض عليها جمالها وحسنها ما محا من حياتها القلق، وأزال عنها الاضطراب.
كانت العاقلة الحازمة، حتى لقد عدت من شهيرات النساء.. لا يجرؤ أحد عن التهجم عليها أو التحدث عنها.. لذا لم يتكلم عنها أحد، ولم يتفوه شاعر بشيء يمكن أن ينقل وتحمله الألسن، عرفت بحرية الرأي وقوة الشخصية. ظهر ذلك أو ما ظهر حين تقدم لخطبتها "دريد بن الصمة"، بعد أن أناخ "بنو جشم" رواحلهم، طلباً للراحة من عناء السفر الطويل إلى مكة في إبان الموسم، وكان منزلهم في بادية الحجاز قريباً من منازل بني سليم.
- ساقت المقادير سيد بني جشم، وفارسها المظفر "دريد بن الصمة" فينطلق على فرسه في رياضة قصيرة، وما كان يخاف شيئاً، فقد شارك في نحو مائة معركة، ما أخفق في واحدة منها[11] وأصبح له من سمعته ما يكفل له الأمن والإكرام. وبينما دريد في رحلته تلك القصيرة، لفت نظره مشهد فتاة[12] تهنأ بعيرا لها. ويتساءل فيعرف أنها تماضر بنت عمرو، شقيقة صديقه الحميم معاوية وهو..!! أليس سيد بني جشم؟![13] ووقف سعيداً إذ وصل إلى تلك النتيجة وردد:
حَيّوا تُماضِرَ وَاِربَعوا صَحبي | وَقِفوا فَإِنَّ وُقوفَكُم حَسبي | |
أَخُناسُ قَد هامَ الفُؤادُ بِكُم | وَأَصابَهُ تَبَلٌ مِنَ الحُبِّ | |
ما إِن رَأَيتُ وَلا سَمِعتُ بِهِ | كَاليَومِ طالي أَينُقٍ جُربِ | |
مُتَبَذِّلاً تَبدو مَحاسِنُهُ | ضَعُ الهِناءَ مَواضِعَ النُقبِ | |
مُتَحَسِّراً نَضَحَ الهِناءَ بِهِ | ضحَ العَبيرِ بِرَيطَةِ العَصبِ | |
فَسَليهُمُ عَنّي خُناسُ إِذا | عَضَّ الجَميعَ الخَطبُ ما خَطبي |
حتى إذا بدأ الصبح أخذ طريقة إلى منزل صديقه معاوية بن عمرو.. تلقاه عمرو بالترحاب، وجلس دريد في مجلسه وقال: "جئت أخطب ابنتك تماضر الخنساء"[14]
قال له عمرو، "مرحباُ بك يا أبا قرة"[15]، وانك لكريم لا يطع في حسبه، والسيد لا يرد عن حاجته والفحل لا يقرع انفه[16] ولكن "لهذه المرأة في نفسها ماليس لغيرها. وأنا ذاكر لها وهي فاعلة". ثم دخل على ابنته. وقال لها: " يا خنساء! أتاك فارس هوازن وسيد بين جشم، دريد بن الصمة يخطبك وهو من تعلمين.." قالت - وكان دريد يسمع حديثهما: " يا أبت: اتراني تاركة بني عمي مثل عود الرماح، وناكحة شيخ بني جشم؟ فخرج اليه ابوها فقال: " يا أبا قرة ! قد امتنعت، ولعها تجيب فيما بعد". فقال دريد: قد سمعت قولكما. قالها وهو منصرف، دون ان يزيد عليها. يبدو ان اخاها معاوية، اراد ان يجاول صديقة دريد فحاول معها ولكنها اصرت على موقفها من الرفض، وكان بجوارها صخراً بعطفه وحنانه. عرف فيها أبوها رجاحة العقل، وأتزان الفكر، فأبي إلا ان يكون زواجها بعد موافقتها، ولم يكن ذلك حقا لكل ابنة، وانما هو خصيصة تمنح لمثيلات الخنساء.
الخنساء الزوجة
رفضت الزواج من غير بني العم، برفضها سيد آل بدر، ثم برفضها سيد بني جشم. ويرجع ذلك إلی أنها مرت بتجربة زواج من قبل ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في قصة مقتل زهير بن جذيمة:[17]" وكانت تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رباح بن يقظة بن عصية بن خفاف السلمي امرأة زهير بن خذيمة، وهي أم ولدة " وجاء في القصة نفسها[18].
زواجها من عبد العزى
يذكر أنها تزوجت من رجل من قبيلتها اسمه عبد العزى السلمي أولدها ابنها "أبا شجرة" عبد الله، [19] ولكن ابن قتيبة ذهب إلى أن اسمه " رواحة بن عبد العزى "[20]. - وقال البستاني: أنها تزوجت بعد حادثة دريد من رواحة بن عبد العزى، فولدت له عبد الله ثم خلف عليها مرداء بن أبي عامر، فولدت له يزيد ومعاوية وبنتاً اسمها عمرة.[21] ترجح بنت الشاطي أن صاحب هذه الأسماء المختلطة شخص واحد، هو الرواحي السلمي، عبد العزى بن عبد الله بن رواحة. قبلت الزواج من عبد العزى المقامر، وهي التي رفضت سيد بني جشم، ومن قبله رفضت سيد آل بدر. وقد أشارت إلی ذلك في قولها " أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح" حاولت الخنساء أن تمسك عليها زوجها، فضّحت.في سبيل ذلك بالكثير.. غيرت من طبيعتها وكبريائها، بل إنها بالغت في ذلك لدرجة جعلته يشعر بتعلقها به. فغالى في انحرافه، واستغل حرصها عليه أسوأ استغلال، وانتهز مالها ومال أخيها، وكلما فرغت يده أظهر لها الضيق بحياته معها، فهم بالرحيل عنها ولكنها تتشبث به وتقول له[22]: "أقم وأنا آتي صخراً فأسأله". ويقيم عبد العزى - تكرماً منه وعطفاً - بينما تذهب هي إلى أخيها صخر تشكو إليه حالها وما تلقى من ضيق العيش، فما يكون من صخر إلا أن يشطر ماله شطرين، يعطيها خيرهما. ويستمر عبد العزى علی ذات الحال، فيلتف ما حملت معها من أخيها، ثم يجيئها صفر اليدين وقد زاد عليها جرأة، فيلجأ إلى الطلب بدلاً من التهديد بالترك. تقول الخنساء:[23]" ثم التفت إلّي فقال: أين تذهبين يا خنساء؟ قلت: إلى أخي صخر. فأتيناه فقسم ما له شطرين ثم خيرنا في أحسن الشطرين.
وجدت الخنساء الشاعرة، التي جادت بمالها، وجاد عليها أخوها بماله، ثمناُ لهذه الفترة التي عاشتها في جوار عبد العزى.
تقف وقد بخلت بالحديث عن حياتها مع عبد العزى، فيما عدا تلك القصة التي روتها لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وبخلت عليها كذلك قريحتها الشاعرية بالتعبير عن تلك التجربة التي قد تكون الثانية في حياتها. فالخنساء ليست هناك كارثة قطعت الرجاء منها - كما هو الشأن في الموت- أنها كارثة تأمل في التخلص منها، وتبذل كل ما تستطيع من أجلها. كانت منهمكة في البحث عن حلول، فلم تكن في حاجة إلى ان تتكلم.
ربما ظنت ان في التعبير ما قد يثير زوجها، فيضيع ما بذلته لعلاجة، أو خشيت شماتة الناس، ان هي قالت شعر تتناقله الألسن، خصوصا وان شيخ جشم المرفوض ما زال على قيد الحياة. وما زال على علاقة باخيها الشقيق معاوية. وخشيتها من معاوية الذي مال إلى زواجها من دريد.. فضربت برغبته عرض الحائط. حتى انفصلت عن عبد العزى ومضت في طريقها إلى بيت ابيها، تنتظر من أبناء العم زوجاً آخر. ولعل الذي واساها بعض الشئ ما كانت تتمتع به من فتوة فقد صقلتها الأحداث الماضية.
- كان لها من الأبناء أبن واحد من زوجها عبد العزى هو:
- "أبو شجرة" عبد الله: الذي وقف حائراً بين امه وابيه.. تلك الحيرة التي ولدت فيه ضعفاً، جعله انتهازياً، لا تهمه المبادئ بقدر ما تهمه المنفعة الشخصية والكسب الخاص، وكان من نتيجة ذلك موقفه - وقد اسلم- بعد وفاة الرسول، حيث ارتد مع المرتدين الذين اشتراهم مال اعداء الإسلام ممن يقيمون على حدود الجزيرة ويحاورون بني تميم وغطفان.
- (موقف عبد العزى)
- انفصال عبد العزى عن اخت معاوية شي ووقوفه بجوارة في المعركة شي اخر، لا يتعلق احدهما بالاخر، إذا الامر هنا مرتبط بعرف القبيلة وعاداتها ولقد وقف نفس الموقف "دريد"، فليم ينسى - رفض الخنساء خطبته- ما بينه وبين معاوية اخيها من صداقة، فوقف يرثية، ورثى دريد صديقه معاوية:
وإن الرزء يوم وقفت أدعو | فلم أسمع معاوية بن عمرو | |
ولو أسمعتة لسرى حثيثاً | سريع السعي أو لأتاك يجري | |
بشكة حازم ٍ لا عيب فيها | إذا لبس الكـُماة جلود نمرِ | |
فعَزَّ عليَّ هلكك يا ابن عمرو | ومالي عنك من عزمٍ وصبرِ |
ولم يقف عند قول قصيدة، بل طلب ثأر صديقه، ولم يهدأ حتى ثأر له..
زواجها من مرداس
لم يطل بالخنساء المطال حتى تقدم اليها مرداس بن أبي عامر السلمي، الملقب بالفيض لسخائة.. ذلك بعد مقتل صخر[24]، وفي اثناء حدادها على أخيها وابيها وكان مرداس إلى سخائة رجل جد وعمل لم يترك فرصة إلا اهتم بها، ليوفر لأسرته اسباب الحياة، حتى مات في إحدى مغامراته تاركاً للخنساء أربعة بنين هم: العباس، وزيد، ومعاوية، وبنتٌ اسمها عمرة.
وتهتز الخنساء لفقد مرداس اهتزازة، يتولد عنها قصيدة ترثيه بها.. والقصيدة - وان لم تصل إلى اعوار نفسها لتفصح عن الاسى والحزن لفراق زوج عاش معها فترة من حياتها، وسجلت له الأحداث ذكريات- إلا انهاتعتبر في ميزان شعرها من احسن مراثيها فهي لا تبعد عن نهجها العام في مراثيها الترى ترددها بن الندب والتأبين، فتعدد المناقب وتذكر المآثر.
ولقد كان مرداس في رأيها أفضل الناس حلماً ومروءة وشجاعة. فقالت:
ألا اختار مِرداساً على الناس قاتله | ولو عاده كناته وحلائله | |
وقلن ألا هل من شعفاءٍ يناله | وقد منع الشفاء من هو قاتله | |
وقد منع الشفاء من شد قادراً | وقد علقت هند بن عمرو حبائله | |
فلما رآه البدر أظلم كاسفاً | أ رن شوان بُرقه فمسايله | |
رنيناً وما يُغني الرنين وقد أتى | بنعشك من فوق القرية حامله | |
وفضل مرداساً على الناس فضله | وأن كل همّ همه فهو فاعله | |
وأن رب وادٍ يكره القـوم هبطه | هبطت وماء منهلٍ أنت نازله | |
تركت بــه ليلاً طويلاً ومنزلاً | تعاوى على جنب الطريق عواسله | |
وسبيٍ كآرام الصريم حويته | خلال رجالٍ مُستكينٍ عواطله | |
فعدت عليه بعد بؤسى بأنعمٍ | وكـــلهم يُثني بــه ويواصله | |
متى ما تُعادل ماجداً تعتدل به | كما عدل الميزان بالكف ثاقله |
هكذا دخل مرداس حياة الخنساء، وخرج من غير ان نرى أثر لتلك الفترة إلا الأبناء.
الخنساء الأم
لم تكن الخنساء الأم بأوضح كثيراً من الخنساء الطفولة، أو الخنساء الشابة أو الخنساء الزوجة. يبدأ الغموض في هذا الجانب من حياة الخنساء بحصر بنيها من مرداس بن ابن عامر السلمي. فهم ولدان وبنت أو ثلاثة وبنت أو اربعة وبنت. وعليه فلا مناص من القول بأن بنيها من مرداس هم: العباس زيد، ومعاوية، وعمرة[25]. هناك من لا ينكر وجود العباس أكبر الأربعة سنا، ولكنه لا يعتبره ابنا للخنساء، وانما هو ابن زوجها من امرأة اخرى سابقة عليها. ويؤيد القول بأن الاربعة أبناء الخنساء من مرداس، ما روى من انها حضرت القادسية، ومعها بنوها الاربع. وقد يكون احدهم أبو شجرة بن عبد العزى، ما جاء على لسانها في خطبتها ليلة القادسية تحث ابناءها: " ... إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم... " هذا إلى موقف ابي شجرة من الارتداد وهو ان رجع إلى الإسلام ولم يكن يضحي بنفسه، ويؤكد ذلك ما كان بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
اما العباس فقد طفى طفوتين اثناء اسلامه لا يشرفان مسلماً ولا يشرفان من يتصل به من المسلمين، حتى ليعلن فومه في احداهما مخالفته- وهو السيد المطاع- بينما الأم صامته لا تبين، بل لا نسمع لها في ذلك الحين صوتا، ولا نعرف لها رأيا، وما اكن اجدر الخنساء بان نسمع صوتها عند ذلك.
الطفوة الأولى: كانت حين قرر الرسول صلى الله عليه وسلم[26] رد سبايا هوازن- بعد تقسيمها، ثم إسلام هوازن- بادئا بنفسه وبني المطلب، وانصاع لذلك القرار المهاجرون والأنصار. اما الأقرع بن حابس عن تميم، وعيينة بن حصن فرفضا، ورفض العباس بن مرداس بن سليم. ولكن بني سليم لم يقروا العباس على رفضة.
واما الطفوة الثانية فحينما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هوازن[27] ودعا فوزع خمسة على الذين كانوا إلى ايام اشد الناس عداوة له، نصيباً فوق نصيبهم - تأليفا لقلوبهم-، فاعطى العباس بن مرداس عددا من الإبل لم يرضه، وعاتبه على ان فضل عليه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وغيرهما.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ادهبوا به فاقطعوا عني لسانه، فاعطوه حتى رضى.
ولا ينقضي بضعة اعوام على ذلك حنى يلقى الرسول ربه، ويبتلى اهل الشمال بالارتداد عن الإسلام، فنرى ابن الخنساء البكر" أبو شجرة بن عبد العزى " واحد من حاملي لواء الارتداد، يحرض بشعره المرتين على المسلمين وقاتلهم. فلما رأى تحريضة على خالد لم يثمر، ورأى الناس يرجعون إلى الإسلام رجع هو كذلك إليه، وقد قبل منه أبو بكر عودته، وعفا عنه فيمن عفا[28].
ويبدوا ان عودته إلى الإسلام لم تكن عن صدق، فقد اتى عمر - في خلافته- وهو يعطي المساكين من الصدقة، ويقسمها بين فقراء العرب، فقال: يا امير المؤمنين، اعطني فإني ذو حاجة. قال: ومن أنت؟ قال: أبو شجرة بن عبد العزى السلمي. قال: أبو شجرة؟ أي عدو الله، الست الذي تقول:
فرويت رمحي من كتيبة خالد | واني لأرجو بعدها أن أمرا |
قال: قم جعل يعلوه بالدرة في رأسة حتى سبقه عدوا، فرجع إلى دابته فارتحلها، ثم اسندها في حرة شوران راجعا إلى ارض بني سليم فقال:
ضن علينا أبو حفص بنائله | وكل مختبط يوما له ورق[29] |
احداث ثلاثة تمر بابني الخنساء الأكبرين، فما اختلجت فيها خالجة، ولا رويت عنها كلمة تشير إلى انها اهتمت لذلك، ويبدو انها حتى ذلك الحين لم تفق من صدماتها المتواليات في اسرتها فهي في شغل عن كل ما هولها من احداث، ربما كان نتيجة انهيار اصاب منها صبلابتها، ومضى بعزيمتها على توالي توالي الأحداث.
لم تتكلم الخنساء حين اخطأ ابناءها أبو شجرة والعابس، فقد كانت قريبة العهد بمصائبها، مما يشغل عن تتبع اخطاء الأبناء. كما انها كانت حديثة العهد بالإسلام، كما انها رأت كلامها في هذا الموقف غير ذي موضوع. فبعد ان تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع صنيع ابي بكر وعمر - رضي الله عنهما- اصبح ما تأتيه وما تقوله عبثا، لا قيمة لهـ وخطأ يجدر بالعاقل ألا يقع فيه.
لم نراهم معها، ولا نراه معهم الا في نحو سنة 638 م ليلة خرج المسلمون لتأديب الفرس الذين حاولوا كثيرا تأليب الحدود على المسلمين الآمنين، وخرج هؤلاء مع الخارجين، نراها تتوسط بنيها الأربع - وليس من بينهم أبو شجرة - تحرضهم على الحرب وتمسح عن نفوسهم الخوف أو القلق على مصيرها فهي في الإسلام لن تضاع إذا ما فقدت العائل المعين.
نراها في هذا الموقف، ونسمعها - وقد عاوتها شخصيتها المفقودة ذات العقل العاقل، والعزيمة الماضية - تقول: "يا بني[30] إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارًا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة”[31].
فلما اصبحوا باكروا مراكزهم، وتقدموا واحد بعد واحد ذاكرين وصية العجوز فقال الأول: يا اخوتي ان العجوز الناصحة
وقال الثاني: ان العجوز ذات
وانشد الثالث: والله لا نعصي العجوز
وقال الرابع: لسنا لخنساء ولا للاحزم
وما زالوا حتى استشهدوا جميعاً في حرب القادسية. وبلغها الخبر - رضي الله عنها - مع الجيش العائد محملاً بالظفر، فقالت: "الحمد لله الذي شرفني
بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".[32] قالتها ولم تزد عليها[33].
وعندها يقف المنقبون في تاريخ الخنساء مع من يفسرون شخصيتها حيارى، لا يدرون إلى اين يتجهون، وكيف يسيرون، وبم يعللون هذا الجمود؟ جمود الأم المصابة في بنيها الأربع.
ولكنها لم تكن هذه الأم حرساء.. انها الخنساء..!!
حلفت بالبيت وزواره | إذ يعملون العيس نحو الجمار | |
لا أجزع الدهر على هالك | بعدك ما جنت هوادي العشار |
وقد بلعت الغصص صامته، واستقبلت ثكل الأبناء صابرة محتسبة.
وهكذا التأثر بالإسلام هو الذي دفعها إلى إدامة البكاء على السادات من مضر، وفي الإسلام لا ثأر تبكي من أجله لبنيها، ولا نار لمن استشهد في سبيل دينه.
قد يكمن سر ذلك الجمود في اطمئنانها إلى نهايتهم المشرقة، ومنزلتهم العظيمة. لان استشهادهم عن نصر كبير وفتح مبين.
الخنساء الأخت
لا تنتهي حادثة حتى تبدو حادثة أخرى، وكأنما استعاض التاريح بتلك الأحداث في حياتها عن الرصد والتدوين. وليس بعيداً عن ذلك موقف صخر منها حين حاول معاوية أخوها أن يُكرِهها على الزواج من صديقة دريد بن الصمة، فلجأت اليه ليكون لها عونا، تحقق به ما رغبت. وليس بعيداً عن ذلك الموقف موقفه منها حين أوقعها زوجها عبد العزى في ورطة مالية، فلم تجد غيره ملجأ تسعى اليه. وكان كريماً معها بكل ما تحمل تلك الكلمة من معانه، فقد شطر ماله نصفين، خيرها بين احدهما. حتى ملت زوجة واعترضت فقالت: "اما كفاك ان تقسم مالك حتى تخيرهم؟" فقال قاطعاُ عليها كل اعتراض: والله لا امنحها شرارها وهي حصان قد كفتني عارها ولو هلكت مزقت خمارها واتخذت من شعرها صدارها[34]
كان يوما من أيام عكاظ، تمنت الخنساء لو توقف الزمن عنده، أو اجتازه من غير أن يمر به، فما في حياتها أشأم من ذلك اليوم، إذا وقعت[35] عينا معاوية بن عمرو على أسماء المرية، فاعجبه جمالها،
ودعادها لنفسه، فامتنعت عليه قائلة: أما علمت أني عند سيد العرب " هاشم بن حرملة الغطفاني".؟ قال وقد أثارته بردها: أما والله لا قار عنه عنك. فهزت كتفيها قائلة في تحد: "شأنك وشأنه". ومضت إلى هاشم، فحدثته بما كان، فانطلق مغضباً حتى اتى معاوية يسأله عن الخبر، فقال معاوي، لوددت والله اني قد سمعت بظعائن بندبنك.
انتهى الموسم، وصدى الحوار ما زال يرن في أذن معاوية، فتهيأ لغزو بني مرة قوم هاشم، ونهاه صخر اخوه، ولكن دون جدوى.
وانطلق في فرسان من بني سليم، حتى إذا دنا من ديار بني مرة، دومت عليه طير، وسنح طبي، فتطير منهما أصحابه، وما زالوا به حتى رجع وبلغ هاشم ذلك فقال: ما منعه من الإقدام إلا الجبن.
واستثارت الكلمة معاوية لما بلغته فخرج في العام التالي مصراً على الغزو، لكن اخجابه تطيروا من ظبي سانح، فرجعوا وتخلف 5 وفي تسعة عشر فارساً منهم: عبد العزى الواحي السلمي، شيخاً لا يريد قتالاً.
وورد معاوية واصحابة ماء هناك يسقون، فعرفتهم امرأة من جهينة - احلاف بني سهم ابن مره- فانسلت حتى اتت هاشم بن حرملة فاخبرته ان معاويه في تسعة عشر رجلا من صحبة غير بعيد.
فخرج هاشم مع اخيه دريد وجمع من قومه، واصابوا من معاوية مقتلاً، وشد فرسان بني سليم على عدوهم، فقتلوا بمعاوية مالك بن الحارث، سيد بني فزارة، وعادوا إلى صخر وهم يظنون انهم عوضوه بما ادركوا من ثأر عاجل. ولكن صخر لم يرض، وانما انطلق اتى بني مرة يسألهم:
من قتل معاوية؟ فسكتوا طويلا، ثم قال هاشم: علم أبا حسان إلى من يخبرك، إذا اصبتني أو اصبت دريداً أخي فقد اصبت ثأرك. قال صخر: فهل كفنتموه.؟ اجابوا: نعم.. في بردين. قال: فأروني قبره. فمضوا به حتى إذا رأى القبر جزع، غير انه ما لبث ان تمالك نفسه، وقال: " كانكم قد انكرتم ما رأيتم من جزعمي، فوالله مابت منذ عقلت إلا باتراً أو مبترواً، طالباً أو مطلوبا، حتى قتل معاوية. فما ذقت طعم نوم بعده".
وسأل عن الشماء فرس معاوية، فجاؤه بها، ثم انصرف وقد توعدهم ان يأتيهم في العام القابل. وانجز صخر وعيده، غزاهم على الشماء فنال منهم، وقتل عدداً فيها "دريد" أخو هاشم، وادرك ثأره، وان فاته ان يتشفى من هاشم، حتى اشتفى منه، دريد ابن الصمة، صديف معاوية. ولم تكن بنو غطفان بالتي تترك صخراً هكذا، فقد خرجوا في إثره يطلبونه، ووقف دونه ابن اخته العباس
بن[36] مرداس، حتى فات طالبيه وعاد صخر إلى ديار بني سليم، وهو يقول[37] مجيبا من طلب منه هجوهم:
تقول: ألا تهجو فوارس هاشم | وما لي إذا أهجوهم ثم ما ليا | |
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي | وأن ليس إهداء الخنا من شماليا |
كثير من الدارسين - وقد التقوا مع مراثيها في صخر - اخذوا عليها قلة شعرها في رثاء معاوية.
والحقيقة ان شعرها في معاوية ليس قليلا في ذاته. ولكنه قليل إذا قيس بشعرها في صخر.
(ولذا يتكرر التساؤل عن تلك التفرقة):
- أما زال في نفس تماضر من أخيها الشقيق معاوية - بعد مقتله- أثر من آثار الماضي؟ - أم هي الصدمة المفاجئة، تنضم إلى صدماتها السابقات، فتلجم لسانها وتجمد عبراتها؟ - أم هو الخوف على اخيها صخر من ان تهيجه اشعارها، فيندفع - وهو الذي لا يبخل في سبيلها- إلى حتفه، وعندئذ تفقد الإخوة، مثلما فقدت الزوح والأب؟
لو رجعنا إلى عادات العرب واخلاقهم في الرثاء لبدا لنا الامر في معاوية طبيعيا، لا شذوذ فيه، ولا حاجة تستدعي تلك الافتراضات أو بعضها، فقد كان من اخلاق العرب ان يأنفوا من بكاء من مات في المعركة، لانهم يعتبرون ندبهم وبكاءهم هجاء أو في حكم الهجاء، فهم ما خرجوا الا ليقتلوا، ولذا يجي رثاؤهم - والحالة هذه - تابينا يذكرون فيه فضائل المقتول، ومركزه في قبيلته، ولذا عاب بعضهم عليها في مراثي معاوية ذلك النهج - وما تنبهوا إلى الخلق الملتزم- فقالوا: ان مراثيها فيه خلت من البكاء.
- قالت في رثاء معاوية:
الا لا ارى في النَّاسِ مثلَ معاويهْ | إذا طَرَقَتْ إحْدَى اللّيالي بِداهِيَهْ | |
بداهِيَة ٍ يَصْغَى الكِلابُ حَسيسَها | وتخرُجُ منْ سِرّ النّجيّ عَلانِيَهْ | |
الا لا ارى كالفارسِ الوردِ فارساً | إذا ما عَلَتْهُ جُرْأة ٌ وعَلانِيَهْ | |
وكانَ لِزازَ الحَرْبِ عندَ شُبوبِها | اذا شمَّرتْ عنْ ساقها وهي ذاكيهْ | |
وقوَّادُ خيلٍ نحو اخرى كانَّها | سَعالٍ وعِقْبانٌ عَلَيْها زَبانِيَهْ | |
بلينا وما تبلى تعارٌ وما ترى | على حدثِ الايَّامِ الاَّ كماهيهْ | |
فأقسَمْتُ لا يَنفَكّ دمعي وعَوْلَتي | عليكَ بحزنٍ ما دعا اللهَ داعيهْ | |
بلينا وما تبلى تعار وما ترى | على حدث الأيام إلا كما هيه |
وأيا ما كان الامر، فلن يقبل عاقل مرور تلك الحادقة على الخنساء دون أن تتناوشها الأحزان.
فقد استطاعت ان تكبت أحزانها وتسكت خوفا على صخر، أو اخبرتها اخلاق قومها على السكوت، فما كان صخر الحليم الجواد العطوف ليسكت، وما كان ليرضية ان يثأر لمعاوية "دريد" صديقه، بينما هو على قيد الحياة.
"ولم يقتنع صخر[38] بهذا الثأر المزدوج لأخيه، فتابع غاراته على مرة، حتى اصيب بجرح قتال على يدر رجل من فقعس وهي بط من اسد، كانت متحالفة مع بني مرة" وكان[39] جرحه من طعنة طعنه بها ثور بن ربيعة الأسدي[40] فمرض لها حولاً.
وأصبحت حياته مملة، حتى أن امرأته سئلت عن حاله وقالت: بشر حال، لا حي فيرجى، ولا ميت فينعى، ولقد لقينا منها الامرين[41].
وتجيب الام: " بأحسن حال، ما كان منذ اشتكى خيرا منه اليوم، ولا نزال بخير ما رأينا سواده فينا. فقال صخر:
أرى أمَّ صخرٍ ما تجفُّ دموعُها | وملَّتْ سُليمى مَضْجعي ومكاني | |
فأّيُّ امرئٍ ساوى بأمٍ حليلةً | فلا عاشَ إِلا في شقاً وهوانِ |
فلما طال عليه البلاء قالو له: لو قطعت تلك القطعى لجونا ان تبرأ، وكانت قطعت قماش في جوف الجرح، فقال شأنكم وهي، فاشف عليه بعضهم، وقال الموت اهون علي مما انا فيه، فاحموا له شفرة، ثم قطعوها فبئس من نفسه.
وجاءت تماضر- وفي يدها قلبها- تسأل: "كيف كان صبر؟"
فما كانت لتستطيع ان ترى ذلك المشهد، وسمع[42] صخر البائس سؤال تماضر الوالهة فاجابها يطمئنها وهو يعلم ألا شي يطمئن:
أجارتنا إن الخطـوب تنوب | على الناس، كل المخطئين تصيب | |
فإن تسأليني هل صبرت فإنني | صبور على ريب الزمان صليب | |
كأني وقد أدنوا إليّ شفارهم | من الصفحتين ركوب | |
جارتنا لست الغداة بظاعن | ولكن مقيم ما أقام عسيب |
ومكث صخر في مرضه، بعد ان لاقى منه الامرين، وتجرعت امه واخته الآلام في كل لحظة لمدة عام أو يزيد، ومات في يوم كلاب[43] سنه 615 م، ومن قبل مات معاوية في يوم حوزة الأول 612م، ومن قبلهما قابلت تماضر الموت في اسرتها، يوم ان اقتلع اباها عمرو بن الشريد، ومرداس زوجها الكريم، وما كانت الانثى لتستطيغ الصمود امام ذلك التيار الجارف، مهما تشبثت بالجمود، ومهما تعقلت بصلابة الرأي، ومهما لجأت إلى العزة والأنفة والعقل[44].
انهارت الخنساء، بعد ما تمالكت نفسها، وكانت موشكة ان تنهار في أثر مقتل معاوية لولا وجود صخر، ومنعتها اخلاق قومها، ولكنها لم تجد سناندا، ولم تجد مانعا، فما قدرت على تمالك نفسها بعد موت صخر، فقد مات عزها ومؤنسها وملجؤها وحاميها، ولذا وجت به اعظم الوجد، وولهت أشد الوله، واقامت على قبره زمانا تبكيه وتندبه وترثيه.
وكما كان صخر في حياتها ملجأ الخنساء، يزيل عنها شكايتها، ويمسح عليها آلامها، كان بعد موتها ملجأها كذلك، خفف عنها ما كبتت في نفسها من احزان، وما ابتلعت من غصص، طالما اقلقتها واقضت منها المضاجع، فلما مات صخر انفجرت باكية من غير مساك. فهو أسى مجمع، وشجى أثمر مع الأحداث.
في يوم من الأيام طلب من الخنساء أن تصف أخويها معاوية وصخر، فقالت: إن صخرًا كان الزمان الأغبر، وذعاف الخميس الأحمر. وكان معاوية القائل الفاعل. فقيل لها: أي منهما كان أسنى وأفخر؟ فأجابتهم: بأن صخر حر الشتاء، ومعاوية برد الهواء. قيل: أيهما أوجع وأفجع؟ فقالت: أما صخر فجمر الكبد، وأما معاوية فسقام الجسد.
ولذا قيل: كان موت صخر بن عمرو ابن الشريد تاريخ ميلاد شاعرة كشف للعرب عن شاعرة بني سليم تماضر، نظراً لكثرة ما قالت فيه. والواقع انه كان تنفسيا لذلك الحزن المكبوت، ولذا كانت تسوم[45] هودحها في الموسم، وتعاظم العرب بمصيبتها بابيها واخويها، وتقول: انا اعظم العرب مصيبة، فيقر لها الناس في ذلك وليس هذا جديد، فقد سبقوا ان اقروا لابيها حين فاخر بابنيه، ثم[46] لما كانت وقعة بدر، وقت عتبه وشيبة أبناء ربيعة، والوليد بن عتبة، اقبلت هند بنت عتبة ترثيهم، وبلغها تسويم الخنساء ودجها في الموسم، ومعاظمتها العرب بمصيبتها بابيها واخويها، فقالت هند: بل انا اعظم العرب مصيبة، فامرت بهودجها فسوم براية أيضا، وشهدت الموسم بعكاظ، وكانت عكاظ سوق تتجمع فيه العرب.
هكذا لا ترى الخنساء الأخت إلى هائمة على وجهها.. في حياة اخوتها.. تهيم على وجهها إلى الاخ الرقيق، فيمسح عليها بيده الحنون، ليزيل عنها متاعبها ويخفف عنها الامها. وبعد موت اخوتها.. تهيم على وجهها.. إلى..؟ لا شي... وتبكي وتنوح، ولا يعترض طريقها أحد. فلم يكن بد من ان يعلن في الملأ صدق حزنها، واليأس من تغيير حالها، إلى ان تترك لدمعها تناجيه ويناجيها وفي ذلك السلوى لها والراحة.. وكان ذلك بلسان الفاروق رضي الله عنه عندما قال: " دعوها، فانها لا تزال حزينة أبدا[47]
إسلامها
حين انتشر نور الإسلام، صحبت بنيها وبني عمها من بني سليم وافدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنوا دخولهم في الدين الجديد.
أسلمت في عام 8 هـ - 630 م وهي في طلائع شيخوختها لم تقل عن الخمسين، ولن تزيد على الستين[48]، عندما قدمت على النبي مع قومها بني سليم[49] وأعلنت إسلامها وإيمانها لعقيدة التوحيد وحسن إسلامها.
ذكر الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن المخزومي وهو المعروف بابن زبالة أحد المتروكين عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه عن أبي وجزة عن أبيه قال حضرت الخنساء بنت عمرو السلمية حرب القادسية سنة 16 هـ، - 638 م ومعها بنوها أربعة رجال فذكر موعظتها لهم وتحريضهم على القتال وعدم الفرار[50]، فقد حرّضت أبناءها الأربعة على الجهاد ورافقتهم مع الجيش زمن عمر بن الخطاب، وقد اوصتهم: "يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارًا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة”[31]. فلما بلغ إليها خبر وفاة أستشهادهم جميعاً، لم تجزع ولم تبك، ولم تحزن، قالت قولتها المشهورة: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته" وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى قبض رضي الله عنه. أخرجها أبو عمر.
لها موقف يدل على وفائها ونبلها مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم تزل الخنساء تبكي على أخويها صخرًا ومعاوية حتى أدركت الإسلام فأقبل بها بنو عمها إلى عمر بن الخطاب وهي عجوز كبيرة فقالوا: يا أمير المؤمنين هذه الخنساء قد قرحت مآقيها من البكاء في الجاهلية والإسلام فلو نهيتها لرجونا أن تنتهي.
فقال لها عمر: اتقي الله وأيقني بالموت فقالت: أنا أبكي أبي وخيري مضر: صخرًا ومعاوية، وإني لموقنة بالموت، فقال عمر: أتبكين عليهم وقد صاروا جمرة في النار؟ فقالت: ذاك أشد لبكائي عليهم؛ فكأن عمر رق لها فقال: خلوا عجوزكم لا أبا لكم، فكل امرئ يبكي شجوه ونام الخلي عن بكاء الشجي.[51]
وتمضي الخنساء مع الإسلام فتنسى كثيراً من عادات الجاهلية، ولكنها لا تنسى السادات من مضر، ولا يفارقها الوجد عليهم، والبكاء من أجلهم.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستنشدها شعرها، ويستزيدها - وهو مصغ إليها- بقوله: "هيه يا خناس! ويومئ بيده[52]. وقد أبى عليه قلبه الكبير ان يزرجها أو ان يلومها.
الخنساء الشاعرة
الخنساء شاعرة مخضرمة. ينطبق عليها التحديد الأصيل لمعنى الكلمة ومدلولها، حيث تطلق كلمة مخضرم عند العرب في الأصل على من ادرك الجاهلية والإسلام ثم اطلقت على طبقة الشعراء الذين أدركوا الجاهلية.
ولدت من آباء شعراء. ليسوا بني سليم، آباءها الأقربين فحسب، بل ذلك يرجع إلى ابعد الآباء في قييس كلها، وكان فيهم خمسا شعراء العرب، فقد نبغ منهم جماعة من فحول الشعراء، ومنهم النابغتان (الذيباني والجعدي) وزهير بن أبي سلمى، وكعب ابنه، ولبيد بن أبي ربيعة، والحطيئة، والشماخ، وخداش بن زهير وغيرهم. قال ابن قتيبة[53] وهي جاهلية، كانت تقول الشعر في زمن النابغة الذبياني، ويرى ابن سلام[54] هذا الرأي نفسه.
ونقطة التحول في حياة الخنساء هي فجيعتها المزدوجة بفقد اخويها معاوية وصخر"[55]
كانت الخنساء في أول أمرها تقول البيتين والثلاثة، حتى قُتل أخواها معاوية وصخر[56] اللذين ما فتأت تبكيهما حتى خلافة عمر، وخصوصاً أخيها صخر. فقد كانت تحبه حباً لا يوصف، ورثته رثاء حزيناً وبالغت فيه حتى عدت أعظم شعراء الرثاء. ويغلب على شعر الخنساء البكاء والتفجع والمدح والتكرار لأنها سارت على وتيرة واحدة تميزت بالحزن والأسى وذرف الدموع. ومما يذكر في ذلك ما كان بين الخنساء وهند بنت عتبة قبل إسلامها، نذكره لنعرف إلى أي درجة اشتهرت الخنساء بين العرب في الجاهلية بسبب رثائها أخويها.
توزع الرثاء أنواع ثلاثة، امتاز كل منها بعنوان، فاصبح تحت المرثية:
- الندب: وهو ممنوع في المرثية، وذلك إذا كان الميت قتيل حرب. وكان من اخلاق العرب انهم لا يرثون قتلى الحرب. فاذا بكوهم كان ذلك هجاء، أو في حكم الهجاء.
- التأبين.
- والعزاء.
وقد اجتمعت للخنساء في مراثيها أنواع الرثاء الثلاثة تلك فآنا نسمعها نادية باكية، يرتفع نشيجها، فيثير الأشجان، ويجري الدموع من المآقي، وذلك إذ تقول:
أبنت صخر تلكم الباكية | لا باكي الليلة إلا هيه |
وتقول:
يا عينِ جودي بالدّموعِ الغِزَارْ | وابكي على اروعَ حامِي الذمارْ | |
فرعٍ منَ القومِ الجدى | أنْماهُ منهُمْ كلُّ محضِ النِّجارْ | |
أقولُ لمّا جاءَني هُلْكُهُ | وصرَّحَ النَّاسُ بنجوى السّرارْ | |
أُخَيّ! إمّا تَكُ وَدّعْتَنَا | فَرْعٍ منَ القَوْمِ كريمِ الجَدا | |
فرُبّ عُرْفٍ كنْتَ أسْدَيتَهُ | إلى عيالٍ ويتامى صغارْ | |
وربَّ نعمى منكَ انعمتها | على عُناة ٍ غُلَّقٍ في الإسارْ | |
أهْلي فِداءٌ للّذي غُودِرَتْ | أعْظُمُهُ تَلْمَعُ بَينَ الخَبارْ | |
صَريعِ أرْماحٍ ومَشْحوذَة | كالبرقِ يلمعنَ خلالَ الديارْ | |
مَنْ كانَ يَوْماً باكياً سَيّداً | فليبكهِ بالعبراتِ الحرارْ | |
ولتبكهِ الخيلُ اذا غودرتْ | بساحة ِ الموتِ غداة َالعثارْ | |
وليبكهِ كلُّ أخي كربة | ضاقتْ عليهِ ساحة ُ المستجارْ | |
رَبيعُ هُلاّكٍ ومأوى نَدًى | حينَ يخافُ النَّاسُ قحطَ القطارْ | |
أسْقَى بِلاداً ضُمّنَتْ قَبْرَهُ | صَوْبُ مَرابيعِ الغُيوثِ السَّوارْ | |
وما سؤالي ذاكَ الاَّ لكي | يسقاهُ هامٍ بالرَّوي في القفارْ | |
قُلْ للّذي أضْحَى بهِ شامِتاً | إنّكَ والموْتَ، مَعاً، في شِعارْ |
وتقول:
بَكَت عَيني وَعاوَدَها قَذاها | بِعُوّارٍ فَما تَقضي كَراها | |
على صَخرٍ وَأَيُّ فَتىً كَصَخرٍ | إِذا ما النابُ لَم تَرأَم طِلاها | |
فَتى الفِتيانِ ما بَلَغوا مَداهُ | وَلا يَكدى إِذا بَلَغَت كُداها | |
حَلَفتُ بِرَبِّ صُهبٍ مُعمِلاتٍ | إِلى البَيتِ المُحَرَّمِ مُنتَهاها | |
لَئِن جَزِعَت بَنو عَمروٍ عَلَيهِ | لَقَد رُزِئَت بَنو عَمروٍ فَتاها | |
لَهُ كَفٌّ يُشَدُّ بِها وَكَفٌّ | تَحَلَّبُ ما يَجِفُّ ثَرى نَداها | |
تَرى الشُمَّ الجَحاجِحَ مِن سُلَيمٍ | يَبُلُّ نَدى مَدامِعِها لِحاها | |
عَلى رَجُلٍ كَريمِ الخيمِ أَضحى | بِبَطنِ حَفيرَةٍ صَخِبٍ صَداها | |
لِيَبكِ الخَيرَ صَخراً مِن مَعَدٍّ | ذَوُو أَحلامِها وَذَوُو نُهاها |
وقد أجمع أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها[40] أنشدت في سوق عكاظ بين يدي النابغة الذبياني وحسان بن ثابت "رائيتها" التي رثت بها صخر:
قذى بعينكِ امْ بالعينِ عوَّارُ | امْ ذرَّفتْ اذْخلتْ منْ اهلهَا الدَّارُ | |
كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ | فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ | |
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ ولهتْ | وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ استارُ | |
تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عمرتْ | لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ | |
تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا | اذْ رابهَا الدَّهرُ انَّ الدَّهرَ ضرَّارُ | |
لاَ بدَّ منْ ميتة ٍ في صرفهَا عبرٌ | وَالدَّهرُ في صرفهِ حولٌ وَاطوارُ | |
قدْ كانَ فيكمْ أبو عمرٍو يسودكمُ | نِعْمَ المُعَمَّمُ للدّاعينَ نَصّارُ | |
صلبُ النَّحيزة ِ وَهَّابٌ اذَا منعُوا | وفي الحروبِ جريءُ الصّدْرِ مِهصَارُ | |
يا صَخْرُ وَرّادَ ماءٍ قد تَناذرَهُ | أهلُ الموارِدِ ما في وِرْدِهِ عارُ | |
مشَى السّبَنْتى إلى هيجاءَ مُعْضِلَة | لهُ سلاحانِ: أنيابٌ وأظفارُ | |
وما عَجُولٌ على بَوٍّ تُطيفُ بِهِ | لها حَنينانِ: إعْلانٌ وإسْرارُ | |
تَرْتَعُ ما رَتَعَتْ، حتى إذا ادّكرَتْ | فانَّما هيَ اقبالٌ وَادبارُ | |
لاَ تسمنُ الدَّهرَ في ارضٍ وَانْ رتعتْ | فانَّما هيَ تحنانٌ وَتسجارُ | |
يوْماً بأوْجَدَ منّي يوْمَ فارَقني | صخرٌ وَللدَّهرِ احلاءٌ وَامرارُ | |
وإنّ صَخراً لَوالِينا وسيّدُنا | وإنّ صَخْراً إذا نَشْتو لَنَحّارُ |
فاعجبة شعرها فقال لها النابغة الذبياني: (اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين. ولولا أن هذا الأعمى (كنية الأعشى الأكبر) - أبا بصير - أنشدني قبلك لفضلتك على شعراء هذا الموسم.
- وفي رواية اخرى انه قال: "لولا ان هذا الاعمى سبقك لقلت انك أشعر الجن والإنس".[57] فغضب حسان وقال: والله انا اشعر منك ومنها.
غالبا ما تلتفت الخنساء الوالهة، فلا ترى أسرع من عينيها عونا لها في مصيبتها، فتخاطبهما بشعرها، حتى اصبحت لازمة في أكثر مراثيها، وغدا استهلالها قصائدها بخطاب عينيها سمة بارزة، وخصيصة تمتاز بها مراثي الخنساء.
تسيطر عليها تلك السمة المتكررة فتقودها - على الرغم منها- إلى تكرار مطالع قصائدها، بحيث تتشابه في كثير منها، من النماذج تلك المطالع:
يا عَينِ جودي بدَمعٍ منكِ مَسكُوبِ | كلؤلؤٍ جالَ في الأسْماطِ مَثقوبِ | |
انّي تذكَّرتهُ وَالَّليلُ معتكرٌ | ففِي فؤاديَ صدعٌ غيرُ مشعوبِ | |
نِعْمَ الفتى كانَ للأضْيافِ إذْ نَزَلوا | وسائِلٍ حَلّ بَعدَ النّوْمِ مَحْرُوبِ | |
كمْ منْ منادٍ دعا وَ الَّليلُ مكتنعٌ | نفَّستَ عنهُ حبالَ الموتِ مكروبِ | |
وَ منْ اسيرٍ بلاَ شكرٍ جزاكَ بهِ | بِساعِدَيْهِ كُلُومٌ غَيرُ تَجليبِ | |
فَكَكْتَهُ، ومَقالٍ قُلْتَهُ حَسَنٍ | بعدَ المَقالَة ِ لمْ يُؤبَنْ بتَكْذيبِ |
وقولها:
يا عَينِ جودي بدَمعٍ منكِ مُهْراقِ | اذا هدى النَّاسُ أو همُّوا باطراقِ | |
انّي تذكّرني صخراً اذا سجعتْ | على الغُصُونِ هَتُوفٌ ذاتُ أطْواقِ | |
وكلُّ عبرى تبيتُ اللَّيلَ ساهرة | تبكي بكاءَ حزينِ القلبِ مشتاقِ | |
لا تَكْذِبَنّ فإنّ المَوْتَ مُخْتَرِمٌ | كلَّ البريَّة ِ غيرَ الواحدِ الباقي | |
انتَ الفتى الماجدُ الحامي حقيقتهُ | تعطي الجزيلَ بوجهٍ منكَ مشراقِ | |
والعودَ تعطي معاً والنَّابَ مكتنفاً | وكلَّ طرفٍ إلى الغاياتِ سبَّاقِ | |
انّي سابكي أبا حسَّانَ نادبة | ما زلتُ في كلِّ امساءٍ واشراقِ |
وبرغم أنها كانت شاعرة متمكنة من اللغة لها قصائد كثيرة إلا أن شهرة الخنساء قد ذاعت وانتشر صيتها في كل مكان من خلال مراثيها لأخيها صخر التي ذاعت وتداولها الناس في الجاهلية[58].
عندما كانت وقعة بدر قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، فكانت هند بنت عتبة ترثيهم، وتقول بأنها أعظم العرب مصيبة. وأمرت بأن تقارن مصيبتها بمصيبة الخنساء في سوق عكاظ، وعندما أتى ذلك اليوم، سألتها الخنساء: من أنت يا أختاه؟ فأجابتها: أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك فبم تعاظمينهم أنت؟ فقالت: بأبي عمرو الشريد، وأخي صخر ومعاوية. فبم أنت تعاظمينهم؟ قالت الخنساء: أوهم سواء عندك؟ ثم أنشدت هند بنت عتبة تقول:
أبكي عميد الأبطحين كليهما | ومانعها من كل باغ يريدهـا | |
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي | وشيبة والحامي الذمار وليدها | |
أولئك آل المجد من آل غالب | وفي العز منها حين ينمي عديدها |
فقالت الخنساء:
أبكي أبي عمرًا بعين غزيـرة | قليل إذا نام الخلـي هجودهـا | |
وصنوي لا أنسى معاوية الذي | له من سراة الحرتيـن وفـودهـا | |
وصخرًا ومن ذا مثل صخر إذا | غدا بساحته الأبطال قــزم يقودها | |
فذلك يا هند الرزية فاعلمي | ونيران حرب حين شب وقـودهـا |
كان بشار يقول: إنه لم تكن امرأة تقول الشعر إلا يظهر فيه ضعف، فقيل له: وهل الخنساء كذلك، فقال: تلك التي غلبت الرجال.
- سئل جرير عن أشعر الناس فـأجابهم: أنا، لولا الخنساء، قيل: فيم فضل شعرها عنك؟ قال: بقولها:
إن الزمان وما يفنى له عجب | أبقى لنا ذنبًا واستؤصل الرأس |
تعكس أبيات الخنساء عن حزنها الأليم على أخويها وبالأخص على صخر، فقد ذكرته في أكثر أشعارها:
ألا يا عين فانهمري بغدر | وفيضي فيضة من غـير نزر | |
ولا تعدي عزاء بعد صخر | فقد غلب العزاء وعيل صبري |
روي في طبقات الصحابة، وفي السيرة النبوية اعجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بشعرها واستزادته من انشادها وهو يقول: " هيه يا خناس!، ويومي بيده ". ولقد وفد عدي بن حاتم الطائي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا على رأس قومه بني طيء فقال: " يا رسول الله: إن فينا أشعر الناس، وأسخى الناس، وأفرس الناس "، فلما سأله الرسول أن يسميهم أجاب: " أما أشعر الناس فامرؤ القيس بن حجر، وأما أسخى الناس فحاتم بن سعد (يعني أباه)، وأما أفرس الناس فعمرو بن معدي كرب ".
فقال عليه الصلاة والسلام: " ليس كما قلت يا عدي! أما أشعر الناس فالخنساء بنت عمرو، وأما أسخى الناس فمحمد، وأما أفرس الناس لعلي بن أبي طالب ".
هذه هي الخنساء مرآة عصرها، تكلمها هذه الرسالة من قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
الخنساء في النقد
- ابن قتيبة: " اما ما ادخلت الخنساء من صفات جديدة في المرثية، فمن الصعب ان نحدده، لانه لم يصل الينا شي تام من هذا النوع قبل قصائدها، إلا ما ورد عن المهلهل، وهو في مجمله يقرب من طريقة الخنساء[59]، ولكن مالا شك فيه هو ان من تبعها من شعراء الرثاء، وشواعره اغترفوا جميعهم من بحرها الفياض بفيض العاطفة البشرية"
- كرنكوف: "ألاحظ على مراثيها القصر، وصدق التفجع والحزن، ونكاد نقطع بان قصائدها ألهمت عدد كبيرا من شعراء المراثي المتأخرين، ومنهم ابنتها عمرة"[20]
- بطرس البستاني: " لعل الغلو أظهر خاصة في الخنساء، فهي مغالية في حزنها ولوعتها، مغالية فيما نعت به صخراً.. ورثاء الخنساء عاطفي بحت، ولا يشوبه تكلف"[60]
- أفرام البستاني يقول: "فهي شاعرة أكثر منها ناظمة، وهو ما يروقنا فيها"[61].
- بنت الشاطئ: اخذت على الخنساء قصر قصيدتها، وخلو شعرها من الحكمة أو قلتها فيه[62].
- مصطفى صادق الرافعي[63]: " ولا يهولنك كثرة أسماء النساء اللأتي قلن شعرا، فعمود الشعر عندهم الرثاء، وليس لهنت إلا المقاطيع والابيات القليلة، ولم تبن منهن إلا الخنساء وليلى الأخيلية وما شعرت الخنساء حتى كثرت مصائبها"
- المستشرق غوستاف فون غرنباوم[64]: وإذا كانت المراثي قد نشأت من نياحات النساء، إلا ان هذا الفن انما بلغ اوجه في مراثي الخنساء الشاعرة التي عاشت في النصف الأول من القرن السابع". وقال أيضا: اما الخنساء فقد جعلت قمم الجبال تتدحرج بداعي وفاة اخيها، والنجوم تهوي، والارض تهتز، والشمس تظلم"[64].
وفاة الخنساء
ماتت الخنساء -رضي الله عنها- سنة 24 هـ/645م. عمرت إلى أن أدركت نصر الإسلام المبين[65] كان موتها في عامها الحادي والسبعين، [66] وقد طبقت شهرتها الآفاق، إن لم يكن ببكائها على السادات من مضر فباستشهاد بنيها الأربعة. ماتت ومعها شاهد تضمن به تسجيل يوم موتها، ولا يعتمد فيه على الروايات، وإنما اعتمد فيه سجلات الدولة المدون فيها اسمها، لتستلم أرزاق بنيها الشهداء الأربعة من ديوان بيت المال[67][68]، وكان عمر قد قدر لها عن كل واحد مائتي درهم إلى أن قبض رضوان الله عليه.
انظر أيضاً
المراجع
- الخنساء شاعرة الصبر والحكمة نسخة محفوظة 18 مايو 2019 على موقع واي باك مشين.
- الأعلام - الزركلي - ج2 ص86
- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج6، ص34.
- الوافي في الوفيات، ج1، ص1459.
- كتاب زهر الأدب، الحصري، (341:3).
- زهر الآداب، ج4، ص957، الطبعة الثالثة.
- المصدر السابق.
- الأغاني، ج13، ص136، طبعة بولاق.
- الشعر والشعراء، ابن قتيبة، ص301.
- الإغاني ج 1 ص 72
- الأغاني ج 10 ص 3 دار الكتب.
- هنأ البعير طلاه بالهناء، وهو القطران، وكانت العرب تعالج به من الجرب.
- انظر دائرة المعارف الإسلامية ( مادة الخنساء)
- الأغاني ج 10 ص 22 ط دار الكتب، وفي الأمالي ج 2 ص 161 ط الدار أنه خطبها على اخيها معاوية، وعلى تلك الرواية اقتصرت دائرة المعارف الإسلامية لتستخلص وفاة ابيها قبل ذلك
- قرة: كنية دريد، والقرة البرد وما تقر به العين.
- لا يقرع أنفه: لا يعاب.
- الاغاني ج 11 ص 85 ط دار الكتب.
- المصدر السابق ج 11 ص 89 ط دار الكتب.
- "كرنكوف" في دائرة المعارف الإسلامية.
- دائرة المعارف الإسلامية.
- دائرة معارف البستاني مادرة (الخنساء).
- الإصابة ج 8 ص 252
- العقد الفريد ج 1 ص 22 - شرح العيون ص 299.
- "كرنكوف" في دائرة المعارف الإسلامية
- على ما رواه ابن حزم في جمهرة الأنساب، وما رواه ابن عبد الرب في الاستيعاب.
- حياة محمد لهيكل ص 422 ط دار الكتب.
- المرجع السابق ص 424.
- الصديق أبو بكر لهيكل ص 142 ط الثانية.
- تاريخ الطبري ج 3 ص 366 ط دار المعارف وبعد هذا البيت سبعة ابيات.
- انظر الاستيعاب ج 4 ص 1838 وخزانة الأدب ج 1 ص 395 وشرح مقامات الحريري للشريش ص 236 ط سنه 1300هـ والاصابة ج 8 ص 353 ومعاهد التنصيص ج 1 ص 353.
- أسد الغابة: جزء 1 – صفحة 1342.
- الدغمي، محمد راكان (1985). التجسس وأحكامه في الشريعة الإسلامية . بيروت: دار السلام. ص 193 نسخة محفوظة 24 يوليو 2019 على موقع واي باك مشين.
- الاصابة ج 8 353.
- الاصابة ج 1 ص 352.
- الأغاني ج 13 ص 134.
- هذا ما جاء في الاغاني، وجاء في العقد الفريد ح 6 ص29
- ديوان الحماسة لابي تمام شرح التبريزي ج 1 ص455.
- دائرة المعارف الإسلامية - مادة ( الخنساء).
- زهرة الآداب ج 4 ص957.
- أسد الغابة - 6884.
- هذه الرواية على ما جاء في الاغاني، وفي الشعر والشعراء، وفي شرخ مقامات الحريري لشرير ووفيات الاعيان ح 1 ص365. وجاء في الاغاني رواية اخرى ج3 ص 136 ط بولاق تفيد ان التي قالت ذلك هي بديلة الاسدية وكان صخر قد سباها فاتخذها لنفسه.
- الأغاني ح 13 ص 131.
- يوم ذي الأثل في بني عوف وبني خفاف.
- الإصابة في تمييز الصحابة.
- تسويم الهودج: ان تجعل له علامة يتميز بها عن سائر الهوادج.
- الاغاني ج4 ص210 ط دار الكتب ومعاد التنصيص ج 1 251.
- انظر ادباء العرب لبطرس البستاني ص 229.
- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ج8 ص 34 سنة 1935.
- ابن عبد البر في الاستيعاب.
- كتاب: الإصابة في تمييز الصحابة.
- الوافي في الوفيات: جزء 1 – صفحة 1461.
- الإصابة ج8 ص34.
- تاج العروس ج7 ص 28.
- الشعر والشعراء ج 1 ص 302 ط دار احياء الكتاب العربي القاهرة سنه 1346هـ..
- دائرة المعارف الإسلامية مادة الخنساء.
- معاهد التنصيص ج 1 ص 349.
- ابن قتيبة (1987). الشعر والشعراء. بيروت: دار أحياء العلوم. مؤرشف من الأصل في 28 يناير 2020. ص 218
- الاغاني ج9 ص 340 والشعر والشعراء ص 123.
- الشعر والشعراء ص 197.
- ادباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام ص 223 ط 8 بيروت..
- الروائع العدد 38 المقدمة.
- ديوان الخنساء.
- تاريخ آداب العرب ج3 ص 61.
- دراسات في الأدب العربي ص 137.
- دائرة المعارف الإسلامية، مادة الخنساء.
- فؤاد البستاني في الروائع.
- الاستيعاب، ج 4، ص 1827.
- دائرة المعارف، للبستاني، ( الخنساء ) ومعاهد التنصيص، ج 1، ص 355.