إنّ موقع فلسطين الجغرافي المميّز جعل منها مُلتقى الحضارات البابلية، المصرية القديمة واليونانية، ثمّ الرومانية والعربية. ولاشك أنّ المعلومات الطبية المتاحة لدى هذه البلدان كانت متاحة أيضًا لدى فلسطين التي كانت تشكل مركزًا تجاريًا تتلاقى فيه الحضارات وتتبادل التأثير، كما كانت معبرًا لكل العلوم الطبية والفلسفية والدينية، ليس آخرها انتقال الحروف الأبجدية إلى العالم المتحضر في ذلك الوقت.
أنشأ المصريون القدماء أول مستشفيات في التاريخ إلى جانب المعابد وكانت تسمى "بير عنخ" أي بيوت الحياة، وكان المرضى ينامون فيها تحت عناية رجال الدين، وانتقلت الفكرة إلى اليونان حيث أسّست معابد إسكولابيوس، واستمرت العناية بالمرضى كما يفرضه الواجب الإنساني في كل الأنحاء. وفي فلسطين كانت تنتشر عبر التاريخ أمراض كثيرة كالموجودة في حوض البحر المتوسط، وذكرت التوراة، العديد من الأمراض، كالملاريا، الجدري، الصرع، الهيضة، السل، الطفيليات المعوية والبرص وغيرها. كما ذكر الإنجيل أيضًا بعض الأمراض في سياق معجزات عيسى (عليه السلام). كانت المستشفيات مراكز إجتماعية تساهم في صحة المجتمع ونظافة البيئة وتعليم الأطباء والكادر الطبي طرق العناية بالمرضى، بالإضافة إلى صناعة الصيدلة وتركيب الأدوية للمرضى الداخليين والمتردّدين على العيادات الخارجية التي كانت موجودة في كل مستشفى، حيث يذهب الناس لإستشارة الأطباء وتلقي العلاج. وشهدت العصور الذهبية العربية الإسلامية مستشفيات، أو بيمارستانات في معظم العواصم في بغداد ودمشق وحلب وغرناطة ومراكش وفاس والقاهرة وغيرها حتى بلغ عدد المستشفيات في العالم الإسلامي حوالي أكثر من مائة مستشفى.[1]
المستشفيات في فلسطين قبل الإسلام
أسّس هيركانوس الأول (من عهد المكابيين الحشمونيين 104-175 ق.م) ما يشبه مستشفى في مدينة القدس مستفيدًا من النقود التي وجدها في قبر داوود. وكان المستشفى مخصّصًا لإيواء المرضى والحُجّاج من زوار المدينة الذين يحتاجون للراحة من عناء السفر.
في سنة 325م اعتنقت الملكة هيلينا، والدة القيصر قسطنطين العقيدة المسيحية، فانصب اهتمامها على بناء الكنائس على الأماكن التي استحوذت على الباب المؤمنين المسيحيين كالمكان الذي صلب فيه السيّد المسيح وشهد قيامته (كنيسة القيامة)، المكان الذي ولد فيه (كنيسة المهد) في بيت لحم، كذلك المكان الذي دفن فيه إبراهيم وأبناؤه عليهم السلام (الحرم الإبراهيمي) في الخليل.
مع بناء هذه الكنائس، وبدء توافد الحجيج من مختلف أنحاء العالم المسيحي اخذ الاهتمام بفلسطين منحى جديدًا. ففي عام 325م قرر القنصل فيسيا إنشاء فندق وما يشبه ومستشفى ملحقين بكنيسة بُنيت على تلة الجولجوتا في القدس وسميت "بازيليكا" على اسم القيصر "بازيليوس". وذكر المطران اليوناني كيريللوس (313-387 م) وجود مستشفى في المدينة سنة 348م.
بعد ثورة السامريين عام 529م، وتردي الأوضاع في البلاد رجا بطريرك القدس بطرس، القديس سابا أن يسافر إلى القسطنطينية ويطلب من القيصر جوستنيان (527-565) أن يخفّف الضرائب التي يجب أن يدفعها سكان فلسطين، ذلك بسبب الدمار الذي سببته السامرة هناك. قال القديس سابا للقيصر: "أرجوكم أن تخفضوا ضرائب فلسطين، لأن السامرة قتلت سكانها ودمروها، ويمكن للقيصر أن يأمر بإعادة بناء الكنائس التي دمرها السامريون، وأن يبني في القدس مستشفى للحجاج".
وافق القيصر على جميع هذه الطلبات، وأعاده مع ضابط زوده بتعليمات، وعند وصول الضابط إلى القدس أسّس الضابط مستشفى للحجاج. ربما كان هذا المستشفى مجرد توسيع للمستشفى القديم، وجزءًا من كنيسة جوستنيان التي سميت ("نيا" Nea الجديدة) وبنيت على سطح كنيسة "بازيليكا" المشيدة فوق بركة سلوان.
كان المستشفى يحتوي في البداية على مئة سرير، ثمّ أمر الإمبراطور بزيادة الأسرة إلى مائتين. وذكر المؤرخون أن ثمة مستشفى آخر أقيم بعد مستشفى جوستنيان بحوالي نصف قرن، أنشئ في القدس، ويعود الفضل في إنشائه إلى البابا غريغوريوس الأول (590-604 م)، كان موقعه قرب كنيسة القيامة (حارة الدباغة).
دُمّرَ هذا المستشفى أثناء الغزو الفارسي عام 614م ضمن ما دُمّرَ في المدينة. أمر بترميمه هراقليوس الذي استعاد القدس عام 624م من الفرس بحيث كان قائمًا أثناء الفتح الإسلامي للمدينة. دُمّرت الكنيسة والمستشفى اثر زلزال ضرب المنطقة في القرن الثامن، وظهرت أثار الكنيسة في حفريات أجريت بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 جنوب الساحة الألمانية. سمح الخليفة المستنصر بالله الفاطمي عام 1062م لتجار إيطاليين برعاية وبناء مثل هذه الأماكن فبنوا كنيسة مريم مع مستشفى، في عام 1063م توسعت وسميت مستشفى يوحنا، كان صالحا للخدمة أثناء الحروب الصليبية وبعد احتلال القدس، فانتفع به لبداية لنشاط "الهوسبتاليين" (المشافيين)، أو فرسان يوحنا، في هذا المضمار، ولاحقًا عمل في هذا المستشفى الطبيب الفلسطيني يعقوب بن صقلاب المتوفي عام 1228م، وكتب تفاصيل العمل في المستشفى في "قوانين روجر دي مولان" 1177-1187م حيث يقول" أنّ لخدمة الفقراء في المستشفى في القدس يسمى للعمل أربعة أطباء متعلمين، الذين يمكنهم من أخذ عينات البول، ويساعد المرضى في تركيب الأدوية". في عام 1070م أنشأ جماعة من حجاج أمالفي (إيطاليا) نزلًا في بيت المقدس بادر إليه الحجاج الفقراء، وأذن الوالي المصري على بيت المقدس لقنصل أمالفي أن يختار موقعًا مناسبًا، وتقرر تدشين الدار باسم القديس يوحنا المتصدق، بطريك الإسكندرية في القرن السابع، وكان جلّ القائمين على هذه الدار من الرهبان الأمالفيين. عندما استولى الصليبيون على القدس كان مقدم هذه الدار يسمى جيرار، الذي أسّس طائفة مستقلة اتخذت اسم الـ "إسبتارية" وتدين بالطاعة للبابا مباشرة واتخذوا شارة صليب أبيض على ستراتهم فوق أدواتهم الحربية لتميزهم عن سائر الطوائف.[2]
مستشفيات فلسطين في العصور الإسلامية
لعلّ أشهر من عمل في الطب في العصر الأموي هو خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان يحاضر في صحن الصخرة ببيت المقدس، وكان عمر بن عبد العزيز من رواد حلقاته في التطبيب والتثقيف الصحي. تلقى خالد العلم على يديّ الراهب مريانوس المقدسي الذي علمه صناعة الطب والكيمياء وتحضير العقاقير الطبية.
في العصر العباسي ذاع صيت عدد من الأطباء في مدن الرملة، عسقلان وطبرية، مثل بولس بن حنون، الذي أتى ذكره في مجلس طبي في بغداد، وأبو الفتح كشاجم الذي أستقر عند زعيم القرامطة الذي كان يحتل الرملة 967-976م. في القدس كان يوسف النصراني، بطريرك القدس يمارس الطب أيضًا عام 980م. كما أشتهر في القدس كذلك الأنبا زخريا بن ثوابة والطبيب سعيد التميمي وحفيده محمد بن أحمد بن سعيد التميمي عام 1000م الذي تعلم على يد الأنبا زخريا، ثم انتقل إلى الرملة في فلسطين وعمل لدى طغج الإخشيدي، ثم توجّه إلى مصر في البلاط الفاطمي، حيث ألف العديد من المؤلفات في الطب والترياق.
أول مستشفى بُني في فلسطين إبان العصر الإسلامي كان في زمن الفاطميين، ولم يعرف اسم بانيه، أو سنة بنائه، لكنه يرجح أنه بني في الزمن نفسه الذي بنيت فيه دار العلم الفاطمية 1009 م، أي في زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي، وظل عامرًا ما يقرب من قرن إلى أن احتل الفرنجة مدينة القدس 1099م. بني هذا المستشفى في الناحية الجنوبية من المسجد الأقصى، لعله مكان الزاوية الختنية، وهي الآن وراء المسجد الأقصى.
جاء ذكر هذا البيمارستان في رحلة الإيراني ناصر خسرو الذي زار القدس عام 1047م: "وفي بيت المقدس مستشفى عظيم عليه أوقاف طائلة ويصرف لمرضاه العديدين العلاج والدواء، وفيه أطباء يأخذون مرتباتهم من الوقف". هذا المستشفى ومسجد الجمعة يقعان على حافة وادي النار.[2]
مستشفيات فلسطين إبان الحروب الصليبية
فرضت الظروف الحربية على الصليبيين الاهتمام بالجرحى والمصابين في الحروب المتكررة التي قادوها للاستيلاء على البلاد المقدسة. هكذا أنشأوا المستشفيات إلى جوار الكنائس، مثل مستشفى القديس عازار لمداواة المجذومين، ومستشفى القديس يوحنا السابق الذكر. تأسست ثلاث منظمات رهبانية عسكرية هدفها إيواء ومداواة المرضى والجرحى من الجنود والحجاج المسيحيين، وهي؛ منظمة فرسان القديس يوحنا، تميز أتباعها بارتداء الثوب الأسود والصليب الأبيض على الصدر، منظمة فرسان الهيكل، تميز أفرادها بالثوب الأبيض والصليب الأحمر على الصدر، وهاتان المنظمتان فرنسيتان. منظمة التوتونيين، وهم من الألمان ، ميز أعضاؤها بارتداء الثوب الأبيض والصليب الأسود على الصدر، وكان لباسهم جميعًا يدل على الصفة المزدوجة التي تجمع بين الرهبنة والجندية.
بدأ الإسبتارية نشاطهم في عهد بلدوين الثاني 1118-1131م. في سنة 1118م تمكن هيوغ باينزأن يقنع بلدوين الأول بأن يسمح له ولفئة من رفاقه الفرسان بالنزول في جناح بالقصر الملكي بالمسجد الأقصى، من نزولهم بالمعبد المذكور أطلق أسم "الفرسان الداوية"، التزمت هذه الجماعة بالجانبين الديني والعسكري، واتخذوا الصليب الأحمر شعارًا لهم. يأتي اسم الهوسبتاليين من الإنجليزية والتي تعني "المضيفين" من المضافة.
في جوار المضافة التي كانت تقع بين السوق وكنيسة القبر المقدس كان يعيش الرهبان الذين يخدمونه، الذين انضموا فيما بعد إلى جمعية تحمل الاسم ذاته، من هنا جاءت تسميتها بـ جمعية الهوسبتاليين، أخذوا على عاتقهم أمر العناية بالحجاج الذين يتوافدون إلى فلسطين، فكانوا يؤمّنون لهم المأكل والمسكن، ويعالجون الذين يمرضون في الطريق. كان عملهم موجهًا نحو الخدمة العسكرية والإنسانية ولضيافة الحجاج والجنود، لهذا أمر صلاح الدين بإنشاء مستشفى خارج إطار مبناهم الذي كما يبدو لم يتميز بشئ طبي، كذلك فعل في عكا. هذا يدل على أن الصليبيين لم ينشئوا مستشفيات بالمعنى الصحيح، بل أنشئوا دور ضيافة للحجاج والمرضى منهم، واستعانوا بالأطباء العرب الموجودين كإبن صقلاب وغيره.
يقول ميخائيل زابوروف في كتابه "الصليبيون في الشرق" (ص 159-160): "ولكن واجبات الإحسان المترتبة على الهوسبتاليين تراجعت إلى المرتبة الثانية بعد مرور بضع سنوات على فتح فلسطين من قبل الصليبيين الذين اشتركوا في الحملة الصليبية الأولى؛ وفي عهد الأستاذ الأكبر ريمون دي بوي (1120-1160) صارت جمعيتهم على الأغلب جمعية عسكرية فرسانية." أما الهيكليون فإن جمعيتهم اتسمت منذ بادئ بدء بطابع عسكري صرف تقريبًا.
كما أسس الألمان مستشفى لهم، إذ كشفت الحفريات عن أنقاض هذا المستشفى في حارة المغاربة بالقدس، شيّد هذا المستشفى عام 1127م، شيّدت معه، وبقربه كنيسة مريم الألمانية. كما أنشأ المجريون مستشفى لهم عام 1135م ويرجح أنّه كان يقع شمال كنيسة القيامة، ولم يتخلف الأرمن عنهم فأسسوا سنة 1165 مستشفى أضافوه إلى الكنيسة والدير وذكره يوحنا فون فورتسيبورغ.[3]
مستشفيات فلسطين في العهد الأيوبي
عندما نزل صلاح الدين إلى القدس، نزل في دار الإسبتار وسمح لعشرة رهبان البقاء فيه لمدة سنة كاملة لعلاج المرضى، كان منهم يعقوب بن صقلاب الطبيب المقدسي المتوفى عام 1228م، جعل الكنيسة المجاورة لدار الإسبتار بيمارستانًا، ووقف عليه الأوقاف. جاء في سيرة صلاح الدين لابن شداد: "وأمرني السلطان بالمقام في القدس لعمارة بيمارستان أنشأه وإدارة مدرسة التي أنشأها فيه إلى حين عودته، وسار من القدس صحوة الخميس في السادس من شوال 588هـ/ تشرين الثاني 1192م، كان السلطان أنشأ هذا البيمارستان عام 583هـ عندما فتح القدس، وكان واحدًا من عدة مؤسسات علمية وخيرية أنشأها صلاح الدين في المدينة والديار المقدسة".
كان بن صقلاب قد تتلمذ على يدي ثاوذوري الأنطاكي الذي كان يعلم الطب والعلوم الطبيعية والحساب وأحكام النجوم، كما عمل في مدينة القدس أيضًا أبو منصور الصوري النصراني، الذي عمل أيضًا مع السلطان صلاح الدين الأيوبي، كما عمل مع السلطان الطبيب عبد اللطيف بن يوسف البغدادي موفق الدين المتوفي عام 1231م 629هـ وساهما في دفع الحركة الطبية في فلسطين، حيث كانت له حلقة في المسجد الأقصى يعلم فيها الطب. دعي البناء البيمارستان الصلاحي، وبقي البناء حتى دخول فريدريك الثاني في مارس 1229، حيث أقام حفلة بعد تتويجه في كنيسة القيامة وألقى خطبة باللغة الفرنسية وترجمت إلى الألمانية واللاتينية.
يقول عارف العارف: "إنّ هذا البيمارستان انهار كغيره مع المباني مع الأيام، وإن الزلزال الذي حدث عام 1458م أتى على القية الباقية من أنقاضه. ولعلّه يقصد البناء الأصلي الذي شيده صلاح الدين. إذ أن السجلات التي عثرنا عليها في المحكمة الشرعية بالقدس، تدل على أنه كانت هناك في أواسط القرن الثامن عشر مؤسسة تعرف بالمارستان الصلاحي؛ حتى أن القاضي عين زين بن إمام قلعة البرك في وظيفة خدمة المرضى والمجانين بالمارستان الصلاحي بعثمانيين في كل سنة، عوضًا عن حجازي بن العجمية لوفاته، وأمره بتقوى الله في عمله، وتذكر الوثيقة 64 من وثائق مقدسية تاريخية أن البيمارستان قد تم تعميره سنة 978هـ (حوالي 1557م)، وتذكر الوثيقة 65 تعيين جراح للبيمارستان هو السيد وفا أفندي علمي زاده سنة 1203هـ ووثيقة 70 لسنة 1205هـ (حوالي 1784م) تصف الأعيان الموقوفة عليه.
وفي سنة 1753م/1167هـ كان متولي وقف البيمارستان الصلاحي محمد نجم الدين أفندي العلمي. واكتشف الألمان وهم يحفرون أساس كنيسة الدباغة حجارة نقش عليها صلاح الدين وأسماء الذين تولوا الحكم بعده ويقول د.سامي حمارنة "البقايا الأثرية للبيمارستان الصلاحي بالقدس ، مجموعة دعامات حجرية وعقود، وآثار القاعات وهي مغطاة بسقوف ذات أقبية متقاطعة وسقوف برميلية، وكانت لكل قاعة مخصصة لحالات مرضية معينة؛ داخلية، أو حميات، أو جراحة وتوليد. وقسم البناء الأصلي مكان البازار اليوم والواجهة. والحاجة ماسة إلى مداومة الصيانة للأبواب والشبابيك والغرف والمجاري وترميم البناء منذ خرابه عام 1458م.
يقول مصطفى مراد الدباغ في موسوعة "بلادنا فلسطين": "أهدى السلطان عبد العزيز (1861-1879م) لولي عهد ألمانيا فريدريك ولهلم، عندما جاء لحضور افتتاح قناة السويس وزار القدس، بقعة كانت قسمًا من المستشفى الصلاحي بنيت عليها فيما بعد كنيسة الدباغة"، وأهدى السلطان كذلك لإمبراطور النمسا موقعًا آخر على درب الآلام عند مفترق الطرق المؤدية إلى باب العامود وحارة باب الواد بناه النمساويون نزلًا لإمبراطورهم فرنسوا جوزيف وقد نام فيه ليلة عندما زار القدس عام 1869م، ولكن لم يستعمل كمستشفى إلا في أواخر الانتداب البريطاني وهو ما يسمى الآن الـ "هوسبيس".
بعد انسحابهم من القدس بعد معركة حطين 1187م/583هـ انتقلوا إلى عكا، التي أصبحت عاصمة الصليبيين في فلسطين، حيث أقاموا أيضًا مستشفى الإسبتارية، وعندما دخل صلاح الدين أوقف دار الإسبتار على الفقراء وجعل دار الأسقف بيمارستانًا وولى أبا جمال الدين ابن الشيخ أبي النجيب النظر في أمره.
كانت فلسطين تحظى أثناء حروب صلاح الدين ضد الصليبيين باهتمام سياسي رافقه اهتمام طبي لمرافقة الجيوش، وكان يرافق جيوش صلاح الدين مجموعة من الأطباء المشهورين، كعبد اللطيف البغدادي، ورشيد الدين الصوري، وأحمد بن قاسم ابن أبي أصيبعة، المتوفى عام 1270م/668هـ، ورشيد الدين (أبو وحش ابن الفارس ابن أبي الخير ابن أبي سليمان ابن أبي فانة المقدسي المعروف بأبي حليقة) 1261م/660هـ، وأبو عمران موسى بن ميمون القرطبي، الذي ولد بقرطبة عام 1134م وتوفي في مصرعام 1204م، وأبو منصور النصراني، ويعقوب بن صقلاب.[3]
مستشفيات فلسطين في العهد المملوكي
استمر الاهتمام بفلسطين وتطوير دور الإشفاء والعلاج في مدنها حتى بعد خفوت أوار الحروب الصليبية، تسابق الخلفاء والأمراء المماليك في تشييد البيمارستانات والتكايا والأوقاف ويلاحظ الزائر لمدينة القدس آثار هذه المنشآت في أحيائها المختلفة. توّلوا الرهبان الفرنسيسكان العناية بالمرضى في فلسطين، ففي سنة 1355م اشترت فلورنسية ثرية تدعى أرضًا بجوار كنيسة العشاء الأخير (مقام النبي داود) في جبل صهيون وبنت فيها مستشفى وضعته تحت إدارة أصحاب القديس فرنسيس، جهز المستشفى ليستقبل عددًا كبيرًا من الحجاج، بقي هذا المستشفى قائمًا حتى سنة 1477م/882هـ، ولم يقو فرسان القديس يوحنا على مجاراة الفرنسيسيين في هذه الأعمال وإن حاولوا ذلك.
وقد أضيف إلى ما سبق ذكره من البيمارستانات التي شيدت في عهد المماليك:
البيمارستان المنصوري في الخليل: من أوقاف السلطان قلاوون بن عبد الله، وعمّره سنة 1281م/680هـ.
بيمارستان الرملة: بناه فخر الدين القبطي، ناظر الجيش للسلطان قلاوون، الذي بدوره بنى العديد من البيمارستانات في نابلس وبيمارستانًا في القدس أيضًا، كما بنى عددًا من المساجد والسبل ولم ترد عن البيمارستان في القدس أي إشارات أخرى عدا اسمه.
بيمارستان غزة: بناه علم الدين سنجر بن عبد الله الجاولي الفقيه عام 1344م/745هـ وكان عامل الملك الصالح إسماعيل الأيوبي على غزة حيث عمر في غزة المسجد وحمام ومدرسة للشافعية. وكان شرقي الجامع الكبير وبه رباط أنشأه الملك الناصر قلاوون سنة 730هـ وكانت له أوقاف كثيرة، وكان قسم من البيمارستان مخصصًا لمداواة أمراض العقل وبقي عامرًا حتى عام 1215م وتم تخريبه خلال هجوم نابليون.
بيمارستان صفد: عمّره سيف الدين تنكز عام 1340م/741هـ وكان نائب السلطان بالشام أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون.
بيمارستان نابلس: جاء ذكره في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي 1689م ويستدل من نقش على بابه على ضريح المصطفى بك الفقاري، أنه شيد عملًا بإشارة من رضوان بك أمير الركب المصري سنة 1051م، ولعله نفس البيمارستان الذي بناه فخر الدين القبطي 1331م.
بيمارستان بيسان: وهو أيضًا من أعمال سنجر الجاولي.[3]
مستشفيات فلسطين في العهد العثماني
اعتنى العثمانيون بالبيمارستانات التي أُسّست في فلسطين في العهد المملوكي وزادوا أوقافها، والبيمارستانات هي مستشفيات عامة تعالج فيها الأمراض الباطنية والرمدية والعقلية وتمارس فيها العمليات الجراحية، يُعالج فيها عن طريق طاقم طبي متخصص. من هذه البيمارستانات: بيمارستان الفاطمي في مدينة القدس، وبيمارستان الصلاحي في عكا، وبيمارستان المنصوري في الخليل، وبيمارستان غزة، وبيمارستان الرملة وبيمارستان نابلس، وبيمارستان تنكز في صفد.
أما المستشفيات "البيمارستانات" التي ظهرت في فلسطين في العهد العثماني فهي:
المستشفى البلدي:
أُنشئ هذا المستشفى عام 1891م، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في القدس؛ حيث اشترى الحاج سليم أفندي الحسيني (رئيس بلدية القدس) قطعة أرض في حي الشيخ بدر، بنى عليها مبنى من طابقين يضم 28 غرفة و40 سريرًا؛ أمّا طاقم المستشفى فكان يتألّف من 7 ممرضات و5 ممرضين وإمامًا يمثل إدارة البلدية ويقوم بوظيفة سكرتير المستشفى؛ وكان رئيس الأطباء يونانيا يُدعى "فوتيوس أفكليدس" يساعده الطبيب المقدسي كامل الحسيني.
زُوّد المستشفى بغرفة عمليات مجهزة وصيدلية تحتوي على جميع الأدوية المعروفة في ذلك الوقت؛ في زمن متصرف القدس (علي أكرم بك)، أُنشئت بناية صغيرة من ثلاث غرف، خُصصت للأمراض المعدية؛ وبعد الحرب العالمية الأولى حوّلت سلطات الانتداب البريطاني دار المستشفى إلى مقر لدائرة الصحة.
اتسم العهد العثماني في فلسطين بازدهار مستشفيات الإرساليات الأجنبية، وخصوصًا في المدينة المقدسة ومنها:
المستشفى الروسي:
يقع في المسكوبية وبناه الروس سنة 1859م لمن يفد بقصد الحج من أبناء روسيا، وبعد عام 1917 أصبح مستشفى للموظفين البريطانيين وغيرهم؛ لذا أُطلق عليه اسم "مستشفى الحكومة".
مستشفى الهوسبيس:
بناه النمساويون على درب الآلام عند مفترق الطرق المؤدية إلى باب العامود وحارة باب الواد في القدس.
وبُني أصلاً ليكون نُزُلاً لإمبراطور النمسا فرانسوا جوزيف عند زيارته للقدس، ولكنه لم يُستعمل كمستشفى إلا في أواخر فترة الانتداب البريطاني.
المستشفى الإنكليزي:
أسّسته الأسقفية البروتستانتية في القدس لخدمة اليهود، بمبادرة من مّبشّري جمعية لندن لنشر المسيحية بين اليهود، ووصل إلى فلسطين مُنشئ المستشفى وأول مدير له (الدكتور ماكجوان) سنة 1842م؛ ولكن مساعي المبشّرين الأنجلكانيين اصطدمت بمعارضة يهود القدس. وبمساعدة مالية من موشي مونتفيوري (الثري اليهودي البريطاني) استطاع اليهود أن يبنوا مستشفى خاصًا بهم، وأقيم المستشفيان اليهودي والإنكليزي سويًا عام 1844م.
المستشفى الألماني:
بُني سنة 1894م ويُعرف باسم "المستشفى المجيدي"؛ لأن من يدخله من المرضى كان يدفع ريالًا مجيديًا عثمانيًا فقط، مهما طالت إقامته.
ووصفه المؤرخ الفلسطيني عارف العارف بأنه أكبر المستشفيات التي قامت بالقدس، وأن فيه مختبرًا وآلة للتصوير بأشعة (روتنجن)؛ وفي عام 1924م أداره الدكتور توفيق كنعان والدكتور غمالين، وتم إغلاق المستشفى عام 1939؛ بسبب الحرب العالمية الثانية، واُستعمل ثكنة للجند.
المستشفى الإيطالي:
تم بناؤه حوالي عام 1920م على طريق القديس بولس، ويتكون من ثلاثة طوابق، ويُعتبر أحدث المستشفيات الغربية الكلاسيكية عهدًا.
مستشفى الأطفال:
هو مستشفى صغير كان يقع شمال المسكوبية، ولم يضم سوى 15 سريرًا. أسّست هذا المستشفى عائلة أرستقراطية ألمانية، وأنفقت عليه طيلة سنوات وجوده من 1872م حتى إغلاقه 1899م، عندما انتحر مديره (الدكتور ساندرشكي).
وفضلًا عن هذه المستشفيات، عرفت أيضًا مشافى: بيت صفافا للأمراض السارية، مستشفى بيت لحم للأمراض العقلية، مستشفى مار يوحنا لأمراض العيون 1861م، ومستشفى لمداواة المجذومين 1867م، ويقع بين حي الطالبية والبقعة التحتى، وأداره الدكتور توفيق كنعان عام 1919م.
ومما يجدر ذكره أن كُليّةَ صلاح الدين الإسلامية التي أُنشئت بالقدس سنة 1915م ضمت في برامجها التعليمية مادة لتعليم مبادئ حفظ الصحة.
تفيد المراجع بأن القدس عرفت في القرن السابع عشر الميلادي ما يمكن تسميته أوما يشابه في وقتنا الحالي النقابات الطبية، وكانت تُسمى الطوائف ولها رئيس يديرها، وقد تولى رئاسة طائفة الأطباء محمد بن أحمد سويسوا بين عامي (1596م/1610م)؛ أما طائفة الكحالين فعُرف من أعضائها إسحق بن شحاذة. وبالنسبة لطائفة البياطرة فقد ترأسها خليل بن أبي زيد عام 1555م، وبلغ عدد أطبائها بين أعوام (1545م-1555م) خمسة أعضاء. كان رئيس أو شيخ الطائفة يمنح الترخيص للأطباء لممارسة مهنة الطب، كما كان ذلك من جملة مهام القاضي حيث يعود له قرار تعيينهم أو رفضه.
كان لهذه المستشفيات أو البيمارستانات وغيرها من المؤسسات العلمية والدينية دور بارز في إظهار الجوانب الحضارية في فلسطين، ووجود مثل هذه المستشفيات "البيمارستانات" في فلسطين، والتي تضم أطباء، وممرضين، وموظفين، وأقسامًا طبية متنوعة- يدل على وجود ازدهار ثقافي ونهضة فكرية في المجال الطبي.[3]
المستشفيات الفلسطينية في زمن الاحتلال الإسرائيلي
شهدت الأوضاع الصحية في فلسطين في زمن الاحتلال الإسرائيلي تدهورًا مستمرًا كباقي مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية؛ فقد أبقت "إسرائيل" المؤسسات والخدمات الصحية على ما كانت عليه قبل الاحتلال عام 1967م؛ ولم تضع أي خطط أو برامج لتطوير هذه الخدمات؛ فضلًا عن تدمير العديد من المؤسسات أو إغلاقها.
الضفة الغربية:
فصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مدينة القدس عن باقي الضفة الغربية، وأعلنت ضمها إلى "إسرائيل"، وعملت على تقويض المؤسسات الصحية فيها؛ فمنعت المواطنين الفلسطينيين من سكان القدس من الانضمام إلى مشروع التأمين الصحي في الضفة الغربية، وقامت بإغلاق مستشفى الأطفال، ومديرية الصحة، والمختبر المركزي، وبنك الدم، ومركز مكافحة التدرن؛ كما أغلقت مستشفى "الهوسبيس" الذي كان يقدم خدمات صحية لنحو 150 ألف مواطن، وحولت المستشفى الحكومي في الشيخ جراح إلى مقر للشرطة.
في منطقة رام الله أغلقت سلطات الاحتلال المستشفى الميداني، وحولته إلى إدارة للحاكم العسكري؛ وأغلقت مستشفى الأمراض السارية، ثم قامت بدمج المستشفيين الحكوميين القديم والجديد؛ ما أدى إلى انخفاض عدد الأسرة، وعدم القدرة على تلبية احتياجات السكان؛ فانخفض عدد الأسرة من (209) أسرّة مخصصة لـ 115.000 نسمة تقريبًا في العام 1967م، إلى نحو (116) سريرًا مخصصة لنحو 140.000 نسمة تقريبًا في العام 1987م.
في منطقة نابلس قامت سلطات الاحتلال بإغلاق المستشفى الوطني الحكومي، الذي كان يتسع لـ 153 سريرًا؛ وأغلقت أربعة طوابق من مستشفى رفيديا الجديد؛ فتقلص عدد أسرته إلى (118) سريرًا فقط.
في منطقة الخليل، فكان هناك مستشفى واحد يقدم نصف سرير لكل ألف مواطن في العام 1967؛ ثم تقلص إلى ربع سرير لكل ألف مواطن عام 1987.
في منطقة طولكرم وجنين، قلصت سلطات الاحتلال عدد الأسرة في مستشفى طولكرم وجنين من 140 سريرًا إلى 115 سريرًا.
في منطقة بيت لحم وبيت جالا وأريحا مارست سلطات الاحتلال نفس الأسلوب؛ فقلصت عدد الأسرة في مستشفى أريحا من 72 سريرًا إلى 48 سريرًا.[3]
وهذه الممارسات تنطبق على كل مناطق الضفة الغربية.
بلغ عدد سكان قطاع غزة في العام 1987م حوالي 664.378 ألف نسمة، بينهم 427.893 ألف لاجئ منذ عام 1948م. وكان في القطاع جهازان رئيسيان يعملان في مجال الخدمات الطبية: أحدهما حكومي، تديره سلطات الاحتلال العسكري الإسرائيلي؛ والآخر تديره وكالة الغوث. وكانت سلطات الاحتلال العسكرية تنفق 30 دولارًا للفرد تقريبًا في مجال الصحة. وقد تضاءل عدد الأسرة في قطاع غزة من 1004 عام 1974م إلى 855 سريرًا عام 1982م.
وأغلقت سلطات الاحتلال مستشفيين هما: تل الزهور، والحميات؛ وحولتهما إلى إدارات عسكرية؛ وخفضت عدد الأسرة في مستشفى الأمراض الصدرية (وهو الوحيد في المنطقة) إلى 70 سريرًا في العام 1980.
في حين كانت سلطات الاحتلال العسكرية تدير أربع مستشفيات في قطاع غزة؛ كان أكبرها مستشفى الشفاء في مدينة غزة، حيث كان يحتوي على 336 سريرًا؛ وكانت حالته سيئة بسبب نقص التجديد والمعدات، التي لا يمكن مقارنتها بالمعدات الموجودة في المستشفيات الإسرائيلية.
أما مستشفى ناصر في خان يونس؛ فكان يحتوي على قسم جراحة عظام يضم حوالي 20 سريرًا؛ ولكن في عام 1984م، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية بإغلاق هذا القسم. أما المستشفى الأهلي فكان المستشفى الوحيد الخاص في قطاع غزة؛ غير أن تكاليف العلاج به كانت باهظة؛ إذ كانت تصل إلى 100 دولار في الليلة الواحدة. وكانت سلطات الاحتلال تدير خمسًا وعشرين عيادة في أنحاء القطاع؛ ولكن غالبية هذه العيادات لم تكن تمتلك إلا القليل، أو لا شيء، من الأدوية، كما كانت تنقصها التجهيزات المخبرية الضرورية. وكانت نوعية الخدمات التي تقدمها هذه العيادات محدودة جدًا.
مراجع
- Altibbi.com. "المستشفيات في فلسطين حتى بداية العصر العثماني". الطبي. مؤرشف من الأصل في 13 يناير 201616 يونيو 2019.
- "تاريخ المستشفيات في فلسطين | مركز المعلومات الوطني الفلسطيني". info.wafa.ps. مؤرشف من الأصل في 14 ديسمبر 201916 يونيو 2019.
- "المستشفيات في فلسطين قبل الإسلام | مركز المعلومات الوطني الفلسطيني". info.wafa.ps. مؤرشف من الأصل في 14 ديسمبر 201917 يونيو 2019.