التجنب المهني (Occupational avoidance) ، مصطلح حديث يضاف لقاموس المتخصصين في الدراسات العلمية صكه سعيد السريحة (باحث اجتماعي سعودي)، إلى جانب ابتكاره لمصطلح الانتظار المهني والاغتراب الثقافي عن ثقافة العمل. تنبع خصوصية مصطلح التجنب المهني، وحداثته من خصوصية الظاهرة وتفردها التاريخي في الحدوث بالشكل المعاصر مع نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة، والمرتبطة بتحولات المجتمع العربي النفطي وخاصة الخليجي. وينم المصطلح عن وصف للوضعية الاجتماعية، المؤدية للبعد وللإبعاد عن العمل وليس وسم للفعل الفردي الاختياري، فهناك فرق كبير بين قولنا عزوف الشباب عن العمل، وبين قولنا التجنب المهني. فالعزوف هو بمثابة الحكم على أن الشباب هو فاعل مختار لفعل البعد عن العمل، بينما مصطلح التجنب المهني هو وصف للحالة العامة التي تنتج وضعية الابتعاد عن العمل، والتي يتسبب في حدوثها العديد من العوامل والمجالات الاجتماعية بعيدا عن إرادة الشباب الفردية، وهذا ما يسمى بجبرية الظاهرة في علم الاجتماع . كما أن ظاهرة التجنب المهني ليس ذات علاقة مباشرة بالحالة الاقتصادية للمجتمع، مما يمنعنا عن نهج المنهج التحليلي في تفسير ظاهرة التجنب المهني كظاهرة مرتبطة بوضع الاقتصاد.
التجنب المهني: هو ظاهرة اجتماعية تتمثل في وجود وضعية اجتماعية تنتج حالة بعد وإبعاد لقوة العمل المحلية عن العمل بغالبية الأعمال الدارجة في سوق العمل الأهلي. وهذه الوضعية تنتج عن تفاعل ثلاثة مجالات اجتماعية، المجتمع المحلي، الاستثمار، وسوق العمل، لكل منها ثقافة مغايرة لمطلب المجال الآخر. وتعارض قيم ومعاني هذه الثقافات، يحدث ظاهرة التجنب المهني ويؤدي إلى مزيد من انغلاق الظاهرة على ذاتها، مما يجعلها مشكلة شبه مستعصية على الحل.
حالات تكون ظاهرة التجنب المهني: ظاهرة البعد عن العمل الأهلي نتجت في البداية عن الفعل الاجتماعي المزدوج للمجتمع والاستثمار، الماثل في النزوح عن العمل والاستقدام للعمالة الوافدة. ولكن الظاهرة نتيجة لاستمرار هذا الفعل باتت تعمل على تشكيل ذاتها عبر حالات تكون تسعى لاستقلال الظاهرة عن الإرادة الاجتماعية، من خلال تضمنها لمحركات ومحفزات تنشط ذاتها نتيجة لما يعرف بارتداد وعي الظاهرة على المحيط الاجتماعي. فبدأت حالات التكون بمرحلة البروز، ثم مرحلة التشكل، ثم مرحلة التعاظم ومحاولة التمرد على الحل. وفي عام 2003 دخلت الظاهرة في حالة من المنازعة لبلوغ طور جبرية الاستعصاء، والتي كان من المتوقع أن تنتقل بعده إلى الطور الخامس الماثل في وصول الظاهرة إلى مرحلة من الانفلات التام والتمرد الحر على الحل. ولكن ما حظيت به الظاهرة من معالجة اجتماعية مركزة منذ بداية التسعينات وحتى يومنا الراهن، وما وجه لخطرها من سياسات معالجة مختلفة تجلت في بداية الحقبة الألفية الثالثة، حدت بالظاهرة إلى المرور بمراحل انتقالية، حدّت من وضعية استقلال الظاهرة وغيرت من مسارها، وباتت الظاهرة تتسم بمرورها بمراحل تطور يلحظ فيها أثر المعالجة الاجتماعية بدلا من حالات التكون الذاتية للظاهرة.
مراحل التجنب المهني
مراحل تطور التجنب المهني: ظاهرة التجنب المهني ظاهرة تطورت وترقت وتغيرت العوامل التي تشكلها خلال مراحل متدرجة منذ تكونها المتزامن مع بداية الطفرة الاقتصادية عام 1973م، بسبب ما حظيت به من معالجة اجتماعية رسمية وأهلية تروض تفاقمها وتحد من بلوغها حالات الاستقلال عن الإرادة الاجتماعية. فمرت الظاهرة بمجموعة مراحل تطور انتقالية بسبب أثر المعالجة الاجتماعية الموجهة للمشكلة، لتصبح الظاهرة في مرحلة ذات خصائص وسمات مغايرة للمرحلة السابقة لها، وتتطلب معالجة وتعامل مغاير في كل مرحلة. وعدم الدراية بخصائص كل مرحلة يؤدي بمن يتعامل مع الظاهرة إلى تعامل غير واعي بخصائص الظاهرة، قد يؤدي إلى زيادة فاعلية الظاهرة وترقيتها إذا كان تعامل غير ملائم لطبيعة مكوناتها. يمكن تصنيف هذه المراحل وحتى عام 2008 على أنها خمس مراحل: - مرحلة الميل المهني نحو العمل الحكومي والوفود العمالي الدولي. - مرحلة العزوف المهني عن العمل الأهلي والاستثمار العمالي في السوق. - مرحلة الاغتراب المهني عن ثقافة العمل والانغلاق العمالي على ممارسة وثقافة العمل. - مرحلة الانتظار المهني لفرص العمل الملائمة والاستعصاء الصامت عن الاستجابة لجاهزية الشباب. - بدايات العود المهني واستشعار المسؤولية من قبل الاستثمار.
حالة التجنب المهني الراهنة
ظاهرة التجنب المهني تتمثل حاليا في عدم تمكن قوة العمل المحلية من الاشتغال الأمثل في سوق العمل، لا بسبب مشكلة اقتصادية تؤدي إلى تشكل البطالة، ولكن بسبب اختلال وعدم تساوق المجالات الاجتماعية (المجتمع والسوق والاستثمار) وعدم ملائمتها لمطالب قوة العمل المحلية مما يؤدي إلى تشكل ظاهرة البعد والابتعاد عن سوق العمل. وتبقى الظاهرة ملازمة للمجتمع لكون أصولها المولدة لها موجودة في السياق الاجتماعي العام.
ظاهرة التجنب المهني لم تحدث بفعل عامل واحد، أو بسبب ثقافة تقليدية للمجتمع نحو العمل كما يروج البعض، ولكن هناك مجموعة عوامل وأحداث هيئة الوضع العام لنشأة ظاهرة التجنب المهني، وهي: -النزوح عن العمل الاكتسابي. -الميل نحو العمل الحكومي. -الاستقدام المهني للعمل في غالبية أدوار العمل الأهلي وخاصة الاكتسابي. -نشأة وتزايد معدلات الاستثمار البسيط في الاستهلاك اليومي عبر المحل التجاري. -رخص أجور القطاع الخاص الناتج عن رخص جهود العمل الدولية المستقدمة من أقطار ذات مهارات عمل متدنية.
عوامل نشأة ظاهرة التجنب المهني
عوامل النشأة وطول استمرار الفعل التاريخي لممارستها، أدى إلى بروز ثقافة مجتمع تأسست على نمطية العمل الحكومي، وثقافة استثمار معتمدة على مفهوم الاستقدام، وثقافة عمل دارجة في سوق العمل الأهلي أسسها فعل العمالة الوافدة المتفرغة للعمل والمتكسبة طوال يوم العمل من السوق. فنتج في المجتمع ثلاث ثقافات ملئت المجال الاجتماعي للمجتمع والسوق والاستثمار، لا تنتمي لمصلحة قوة العمل المحلية وتعمل بشكل متعارض مع بعضها البعض تؤدي في النهاية إلى عدم تمكن قوة العمل المحلية من الاشتغال الأمثل في سوق العمل، وهذه الثقافات هي: -المجتمع: في شكل ثقافته المبتعدة عن ممارسة العمل وغير المشتملة على ثقافة سوق العمل نتيجة لهذا البعد الطويل، ونتيجة لاعتماد هذه الثقافة على طبيعة العمل الحكومي فقط ويوميات الاستهلاك العام. -الاستثمار: في شكل ثقافته ومنهجه المعتمد على الاستثمار عبر عمليات الاستقدام. -السوق: في شكل ثقافته المبنية على طبيعة عمل العامل المتفرغ للعمل، والعامل الوافد المستثمر في يوم عمل طويل جدا، كعامل يحاول أن يغير من مسار الاستثمار المحلي إلى مسار استثمار عمالي.
مصادر التجنب المهني الحالية
الاغتراب الثقافي الثلاثي لمجالات (المجتمع المحلي، والسوق، والاستثمار) وما يحدثه من تنافر بين مصالحها، جعل هذه المجالات الاجتماعية لا تتكامل مع بعضها البعض كما يفترض لها. فباتت ظاهرة التجنب المهني التلقائي تحدث شيئا فشيئا. وأضحت أساسيات ثقافة العمل لدى المجتمع المحلي، والماثلة في الاتجاهات المهنية ومعنى العمل والتصورات المستقبلية عن الاستقرار المهني وعمليات الاختيار والتوجه المهني وطلب العمل ووعي شروطه، أساسيات تعاني من عدم ملائمتها لمتطلبات ثقافة العمل والسوق كما يفترض لها، نتيجة الاتجاه نحو العمل الحكومي والتعود على طابع يوم العمل الصباحي والتنزه المسائي، والسفر الصيفي والنزوح عن العمل الاكتسابي الطويل.
ومن ناحية ثانية، باتت ثقافة العمل الفعلية التي تحكم الكثير من عمليات العمل والاستثمار والإنتاجية وتشكل بيئة وثقافة السوق، لا تتسم بملائمتها للمطلب الاجتماعي والثقافي المحلي الذي يحكم الكثير من أفعال قوة العمل المحلية. فأصبحت ثقافة السوق والعمل غير متوافقة مع طبيعة المجتمع بقدر ما تلاءم طبيعة العامل الوافد المتفرغ، الذي يعمل طوال يوم العمل باحتراق سواء كان بدافع الاستثمار أو الاكتساب من هامش السوق والعمل الإضافي، أو بدافع المحافظة على فرصة العمل خوفا من العودة لبيئة البطالة وخسارة رهانه مع هجرة العمل التي يعول عليها كثيرا في إعالة أسرته وتغيير وضعه الاقتصادي في وطنه.
ما يعزز من عمق هذه الإشكالية، هي ثقافة الاستثمار المحلي، المؤسساتي عامة والفردي خاصة، التي تأسست منذ نشأتها على فكرة الربح الوفير من العمل الرخيص عبر بيع فرص العمل في سوق العرض الدولي للعمالة غير الماهرة والأقل أجرا. كثقافة استثمار مغايرة للمطلب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وغير واعية بمفهوم الحقوق العمالية. فأصبحت عمليات الاستقدام لمثل هذا الاستثمار تتنافى مع مضامين التنمية والإنتاجية والحقوق العمالية. فتحول فعل الاستثمار والاستقدام إلى عملية تهجير لمهارات العمل المحلي بأبخس الأثمان، وأعطيت لعمالة تحارب من أجل البقاء بأعلى مجهود وأقل تكلفة، وترضى بأي عرض مهما بخسها حقها هربا من شبح البطالة وطلبا لفرصة العمل التي تمكنها من الاكتساب الهامشي في سوق عمل تحول إلى شبه مفتوح لكل راغب في تجربة العمل وممارسته بدون دراية.