تعدد الأصوات في رواية "على ضفاف البحيرة"للروائي المغربي مصطفى لغتيري
نورالدين بلكودري ناقد مغربي
الإطار العام للرواية : تتألف رواية "على ضفاف البحيرة" من ست و تسعين صفحة، مقسمة إلى فصول، كل فصل معنون باسم الراوي الذي تكلف بفعل الحكي، و يشكل "محسن" و "أسماء" و "شمس" الشخصيات الرئيسية الفاعلة في الرواية، و هم من جاء الحكي على لسانهم من بداية الرواية إلى نهايتها . يبرز موضوع الرواية من خلال فصلها الأول، فالراوي "محسن" يعيش حالة نفسية صعبة بسبب فقدانه لزوجته "أسماء" و إبنته"شمس"، و سيكتشف القارئ في الفصل الأخير من الرواية أن سبب وفاتهما حادثة سير خطيرة سينجو منها الأب "محسن". تجري أحداث الرواية في جبال الأطلس و اعتمد الكاتب تقنية الاسترجاع و كلف الرواة بإعادة نسج الأحداث و تقديمها للقارئ، و يمكن القول إن رواية "على ضفاف البحيرة" تكشف البعد الإنساني للعلاقة التي تجمع بين أفراد الأسرة الواحدة، كل شخصية من شخصياتها تعبر عن انشغالاتها و همومها، أحاسيسها و هواجسها و إن كان الحب هو الرابط القوي الذي يجمع بينها. خصص الكاتب مصطفى لغتيري الفصلين الأول و الأخير للمهندس المعماري "محسن"، ما دام هو الشخصية التي بقيت على قيد الحياة و يلمس القارئ مدى تعلق هذه الشخصية بأسرتها الصغيرة و مدى حبه لها. يقول "محسن" في الصفحة 12:"سأجعل من أجمل الذكريات التي جمعتني بهما، و عشتها صحبتهما نبراسا أستضيء به، ينير طريقي، فأمضي به حثيثا بإصرار و عزم حتى أصل إلى مبتغاي ......لقد أخذت قرارا لا رجعة فيه بأن أنضو عني ثوب الحزن و أن أتخلص مما عشته لشهور في كنف الألم و الحسرة " 1 إن المهندس "محسن" كانت تربطه علاقة قوية بإبنته"شمس" لدرجة أن زوجته "أسماء" كانت تحذره من تساهله معها و تشجيعه لها على تهورها، و بما أن نقطة التحول كانت هي تأخر" شمس" في العودة من نزهتها و هم في جبال الأطلس يستمتعون بعطلتهم جنب البحيرة، هذا التأخر دفع الأب للخروج بحثا عنها، تسرب القلق إلى الأم لكن "شمس" عادت، و بقيت الأم على حالتها المتوترة فطلبت من "محسن" العودة إلى الديار، و أثناء رجوعهم وقعت الحادثة المميتة و ظل "محسن" يحس بتأنيب الضمير و بعذابات تمزق قلبه، بما أنه كان يسوق بسرعة جنونية فانقلبت السيارة عند المنعرج الخطير . مرت الحادثة و عاش "محسن" صدمة فراقه لأحب الناس إليه، لكنه بعد شهور يقرر عدم الاستسلام فوضع بين عينيه صورتي "شمس" و" أسماء " و عقد العزم على العودة إلى نجاحاته السابقة في التصميم المعماري. الفصل الثاني من الرواية استأثرت به "شمس" بما أنها أقرب إلى أبيها "محسن" لتكشف عن التآلف الحاصل بينهما و تصف ببراءة طبيعة الأطلس و تعبر عن مدى تعلقها بهذه المنطقة، خصوصا أن أباها يعرفها عن قرب و يفتخر بها، تأثرت "شمس" بذلك و أصبحت تحلم بها و تنتظر بشغف زيارتها و هذا ما سيتحقق لاحقا و إن كانت الأم "أسماء" ممتعضة من الرغبة المشتركة "لمحسن" و" شمس" في زيارة الأطلس و عبرت "أسماء " عن موقفها قائلة في الصفحة 31 :"لقد سبق لمحسن أن زار تلك المنطقة بمفرده أو رفقة أحد أصدقائه، و لم أعترض على الأمر، أنا بطبيعتي حذرة و أرتعب من المرتفعات، لا أتصور أن تشق بي السيارة طريقها وسط الممرات الوعرة و المرتفعة، مجرد التفكير في ذلك يصيبني بالدوار لذا لم أكن أبدا أفكر في زيارة أية مدينة من المدن الجبلية، التي كثيرا ما سمعت قصصا عن مسالكها الصعبة و الشاهقة و عن الحوادث الخطيرة التي تتسبب فيها "2 إن توجس "أسماء" كان في محله، فعند انفعالها لحظة تأخر "شمس" و بعد أن استأنسوا بالمكان و نصبوا خيمتهم في موقع استراتيجي يستمتعون من خلاله بالطبيعة الخلابة سيتغير كل شيء و تثور أسماء في وجه "محسن" و "شمس"، و مخافة اعتبار رفضه العودة تواطؤا مع ابنته سيقرر تلبية رغبتها، لكنه كتم غضبه، فتعلقه بالمكان و عدم استمتاعه بعطلته أسباب مقنعة بالنسبة له حتى يتوتر، لم يجد "محسن" غير دواسة البنزين يضغط عليها، و بما أن المنعرجات خطيرة فالسرعة لم تترك له فرصة التحكم في السيارة التي انقلبت لتموت "شمس" و "أسماء" ،يصاب "محسن" بالصدمة و الذهول و زاد من حسرته عدم قدرته على إنقاذ "أسماء" التي نزفت كثيرا قبل أن تودع الحياة بين ذراعيه . يقول "محسن" الصفحة 96:"نشجت باكيا من جديد داهمني إحساس بالذنب، لقد حملت نفسي سبب موتها، و وعدت نفسي بأنني لن أغفر لها أبدا هذا الجرم الذي ارتكبته في حقهما، انتظرت أن يصل الدرك أو الإسعاف، لكن دون جدوى، كنت أحترق غضبا و حزنا قرب زوجتي التي تحتضر . قاومت"أسماء" لأكثر من ساعة لكنها بعد ذلك فارقت الحياة "3 الرؤية و الموضوعات : إن كل رواية تفرض البحث عن رؤيتها و موضوعها الرئيسي الذي من خلاله تتشكل القضية المركزية التي يعمل الكاتب على الوقوف عندها و نقلها إبداعا إلى المتلقي، و كل عمل روائي قد تتعدد موضوعاته، و قد يهيمن أحد هذه الموضوعات و يفرض نفسه على القارئ، إما بوعي من الكاتب أو عن غير وعي منه . العمل الأدبي إبداع يتشكل كنتيجة لرؤية فنية لواقع الحياة، لأن الكاتب ينقل هذا الواقع إلى الخيال فيخلق مجموعة من العلاقات حسب رؤيته الفنية، و يتكلف الراوي بمهمة نقل الوقائع و الأحداث بكل تجلياتها، و يقول الأستاذ محمد عناني :"إن الراوي له وعي داخلي تنطبع فيه الأحداث و تخرج منه "4 تتشكل رؤية الكاتب مصطفى لغتيري من خلال شخصية "محسن" الذي تغيرت حياته بعد الحادثة، و انطلاقا منه أيضا حاول الكاتب تمرير عدة رؤى مرتبطة بمنطقة الأطلس، سواء ما تعلق بالدور الكبير الذي لعبه سكانها في مواجهة المستعمر و أيضا مجموعة من المظاهر الاجتماعية التي تميز هذه المنطقة باعتبارها جزءا من المغرب غير النافع، وقف الكاتب أيضا عند ظاهرة الدعارة و ملامح الفقر الواضحة على ملامح السكان و مكان عيشهم. تقول "أسماء" الصفحة 73:"لم يمض كثير من الزمن حتى وجدنا نفسينا في مدخل مدينة "عين اللوح" إنها مدينة صغيرة، أقرب إلى المركز الحضاري من كونها مدينة، تقبع في مكان مرتفع على الجبال، تبدو مختلفة عن باقي المدن التي زرتها سابقا، لاحظت قلة من الناس يخطرون في أزقتها ...."5 إن الكاتب مصطفى لغتيري ركز عل بعدين أساسين في رواية "على ضفاف البحيرة" ،أولهما العلاقات الإنسانية داخل الأسرة و يمثلها هنا "محسن" ،"شمس" ،"أسماء" ،و ثاني البعدين منطقة الأطلس بتاريخها و نضالها، طبيعتها و سكانها... و قارئ الرواية يحس بذلك الارتباط الوثيق الذي يجمع "حسن" بأفراد أسرته الصغيرة، محسن –شمس، محسن-أسماء، أسماء-شمس، و هذا ما يؤدي إلى تشكل علاقة إنسانية مركبة بين أفراد الأسرة الواحدة، و تبقى "شمس" هي جوهر الحب الذي نما في قلبي "محسن" و "أسماء" و إن كانت "شمس" مشاغبة و مندفعة و قد يحملها القارئ و بناء على أحداث الرواية النهاية المأساوية التي آلت إليها الأمور . بعد الجانب الإنساني نعرج على منطقة الأطلس المتوسط، و يمكن القول إن الكاتب مصطفى لغتيري أعطى للرواة وظيف توثيقية، فعلى لسانهم يكتشف القارئ المغربي و العربي جوانب من تاريخ المنطقة النضالي ضد المستعمر الفرنسي و ذلك من خلال استحضار شخصية "موحا أوحموا الزياني" القائد الذي قاد مقاومة باسلة و استطاع إلحاق هزيمة قاسية بالفرنسيين في معركة "الهري". تحضر طبيعة المنطقة بشكل بارز وشكلت الدافع ل "محسن" و أسرته لزيارة المنطقة و اكتشاف جمالها و روعتها، و نجد ارتباطا وثيقا بين العنوان و هذا الجانب، لأن الأسرة استقرت أسفل الجبل، تطل على بحيرة "أكلمامأزكزا" و تقول "شمس" الصفحة 64:"جاء المساء بسرعة ذلك اليوم، فاكتست الأجواء بمنظر رائع يعجز المرء عن إيفائه حقه في الوصف، إنه بصدق يفوق الخيال، توزعت الأضواء و الألوان، و انعكست على صفحة البحيرة مشكلة كرنفالا مبهجا للنفس"6 إلى جانب البعد التاريخي النضالي و روعة طبيعة الأطلس المتوسط، يؤشر الكاتب مصطفى لغتيري على البساطة و الكرم اللذان يتميز بهما سكان المنطقة و هناك مجموعة من المواقف التي تضمنها المتن تؤكد ذلك كالحوار الذي دار بين "محسن" و صاحب المقهى، و أيضا بين "شمس" و النسوة، و تقول "شمس" في هذا الإطار :"تركت إحداهن ما تقوم به و تسللت داخل الخيمة .اختفت لبعض الوقت، ثم عادت تحمل إناء يمتلئ لبنا قدمته لي بكثير من الفرح الذي بدا لي على سحنتها "7 و في مقابل ذلك رفضن أن تأخذ لهن "شمس" بعض الصور تأكيدا على الطابع المحافظ الذي يتميز به سكان المنطقة في تناقض صارخ مع واقع الدعارة الذي تعرفه بعض المراكز السكانية في المنطقة. موقع الراوي: تتميز رواية "على ضفاف البحيرة " بتتعد أصوات الرواة، و يتحكم الكاتب مصطفى لغتيري في لعبة الحكي بتوزيع الأدوار على "محسن" ،"شمس" ،"أسماء" وفي هذا الإطار تقول "بال":إن القاص هو فاعل السرد"8 ،فالراوي بذلك ليس شخصا بل ضميرا مستترا في ثنايا الرواية. و بما أن الخطاب الروائي موجه إلى قارئ و هذا الأخير يتفاعل مع القصة و أحداثها و رسائلها، و أيضا مع شخصياتها وجب الإشارة إلى اعتماد الكاتب في هذه الرواية على التبئير الداخلي المتعدد، فالشخصيات قدمت المعلومات و الوقائع كل من منظوره الخاص و إن كانت المادة الحكائية واحدة و المعلومات و الوقائع هي نفسها.9 إن طبيعة العلاقة التي تقوم بين الراوي و القصة تختلف من عمل روائي إلى آخر، و الدكتور "سعيد يقطين" يشير إلى وجود نوعين من الرواة، أحدهم غير مشارك في القصة يسميه "براني الحكي"و الآخر مشارك في القصة يسميه "جواني الحكي"،و في رواية "على ضفاف البحيرة" كل الرواة مشاركون في الأحداث وهم من تحمل مهمة الحكي لندرجوا بالتالي ضمن صنف "جواني الحكي" 10 و من جانب آخر تصنف أيضا هذه الرواية ضمن السرد الذاتي، لأن الراوي هو المسيطر على فعل الحكي، و يتميز هذا الصنف من السرود بعرض الأفكار و الأحداث و المواقف من زاوية واحدة هي زاوية الراوي. إن الرواة على ضفاف البحيرة نشأت بينهم و بين القصة علاقة تفاعل، وبما أنهم مشاركون في الأحداث فصوتهم السردي يفرض نفسه بقوة لأنه الوحيد الذي يقدم الأحداث. تقول" شمس " مثلا في الصفحة 62:"في منابع أم الربيع قضينا لحظات لا تنسى، إنها حقا جنة أرضية، ذات رونق و بهاء لا يقارنان"11 إن رواية على ضفاف البحيرة تمثل صوتا متجددا في أعمال الكاتب مصطفى لغتيري، وتجريبه لتعدد الأصوات في هذه الرواية يعتبر خطوة نحو تجارب أخرى إثراء لمسار الكاتب و إثراء للساحة الروائية المغربية، سواء باعتماد تقنيات سردية حديثة أو بالتطرق لمواضيع لم يسبق تناولها أو أن الاشتغال عليها لم يشبع نهم القارئ في بعض الأعمال، لتبقى الرواية بذلك فضاء واسعا لملامسة الواقعي و المتخيل بكل التفاصيل و الجزئيات . الهوامش: 1-على ضفاف البحيرة، مصطفى لغتيري،دارالنايا، سوريا2012 .ص12. 2-ص31 نفسه. 3-ص96 نفسه. 5-ص73 نفسه. 6-ص64 نفسه. 7-ص83 نفسه. 11-ص62 نفسه. 4-البناء الفني في روايات ليلى الأطرش، تمام سلامة عسكر الرشود، الأهلية للنشر و التوزيع، الأردن2011.ص155. 8-ص153نفسه. 9-ص154نفسه. 10-ص155نفسه.