الرئيسيةعريقبحث

مراسلات الحسين – مكماهون


☰ جدول المحتويات


خطاب مكماهون للحسين بتاريخ 24 أكتوبر 1915. جورج أنطونيوس الذي كان أول من نشر المراسلات كاملة، وصف الخطاب بأنه "أهم خطابٍ بفارقٍ كبيرٍ عن كامل المراسلات، ولربما يشار له كأهم وثيقةٍ دوليةٍ في تاريخ الحركة القومية العربية... ومايزال يعد جزء الإثبات الرئيس الذي استناداً إليه يتهم العربُ بريطانيا العظمى بخرق معاهدتها"

مراسلات الحسين-مكماهون (McMahon–Hussein Correspondence)‏ سلسلة من الخطابات المتبادلة أثناء الحرب العالمية الأولى وافقت فيها الحكومة البريطانية على الاعتراف باستقلال العرب في القسم الآسيوي من الوطن العربي عدا عدن المحمية البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى مقابل إشعال شريف مكة الثورة العربية ضد الدولة العثمانية.[1][2] كان للمراسلات تأثير كبير على تاريخ الشرق الأوسط بعد الحرب، كما استمر النزاع بعدها حول كثيرٍ من النقاط ومنها فلسطين.[3]

تكونت المراسلات من عشر خطاباتٍ متبادلةٍ في الفترة من 14 تموز/يوليو1915 إلى 10 آذار/مارس1916،[4] بين الحسين بن علي شريف مكة والسير هنري مكماهون المعتمد البريطاني في مصر (1915-1917). كانت منطقة الاستقلال العربية ضمن الحدود التي أقرها شريف مكة بالرغم من طلب الإنجليز استثناء أجزاءٍ من سوريا تقع غرب مقاطعات المدن السورية دمشق وحمص وحماة وحلب مراعاةً لاهتمامات فرنسا -كحليفٍ في الحرب- بشأنها، لكن الشريف أصر عليها. أدت بعض التفسيرات المتضادة إلى نزاعٍ كبير في السنوات التالية.

بعد إعلان تصريح بلفور (Balfour Declaration)‏ في 2 تشرين الثاني/نوفمبر1917 -الذي وعد بتوطين اليهود في فلسطين-، وكشف النقاب عن اتفاقية سايكس بيكو المعقودة في أيار/مايو1916 -التي اتفقت فيها كل من بريطانيا وفرنسا على تقاسم الأراضي العربية للدولة العثمانية غرب آسيا- اعتبر الشريف والمثقفون العرب هذه الوثائق خرقاً لمراسلات الحسين-مكماهون.[5]. أحد النزاعات على التأويل -التي استمرت إلى اليوم- هو حول حجم الأراضي من المنطقة الساحلية لبلاد الشام الذي طلب الإنجليز استثناءه من الاتفاق، علماً أن جواب الحسين على ذلك كان الإصرار على عروبتها وعدم استثنائها مهما كلف الأمر (انظر الجدول في الأسفل: ملخص الخطابين 7 و8).[6]

أثرت المراسلات على العلاقات البريطانية-العربية لعدة عقود.[4]

نُشرت مقتطفاتٌ منها غير رسمية في كانون الأول/يناير 1923 بواسطة جوزيف ن. م. جيفريز في صحيفة ديلي ميل،[2] ونشرت أجزاء من عدة خطابات في الصحافة العربية، كما نُشرت مقتطفات أخرى عام 1937 من قبل لجنة بيل،[7] ثم نشرها كاملةً لأول مرة جورج أنطونيوس في كتابه (The Arab Awakening)‏ "يقظة العرب" عام 1938[8] بمناسبة الإعلان عن الدعوة للمفاوضات بشأن فلسطين في مؤتمر المائدة المستديرة في لندن، ونشرها الإنجليز رسمياً عام 1939 لإدراجها في وثائق المفاوضات. وعام 1964 أعيد نشر أجزاءٍ أخرى.[9]

الخلفية

المفاوضات الأولية

تعود أول مفاوضاتٍ مسجلةٍ بين البريطانيين والحسين بن علي شريف مكة (عيّنه السلطان شريفاً عام 1909) إلى شباط/فبراير1914 قبل أشهرٍ خمسٍ من اندلاع الحرب العالمية الأولى إثر زيارة عبد الله بن الحسين ثاني أبناء الحسين[10] للقاهرة واجتماعه باللورد كيتشنر المعتمد البريطاني في مصر (1911-1914) وفيها طلب تزويده بمدافع. لم يكن الشريف حسين مرتاحاً للحاكم العثماني الجديد في الحجاز وهيب باشا، فضلاً عن القلق المتزايد بسيب التوجس من مد الخط الحديدي الحجازي (المدشن عام 1908 بين دمشق والمدينة المنورة) ليصل إلى مكة المكرمة، والذي هدد بدعم التمركز العثماني المتزايد في المنطقة وتقليص نفوذ الشريف. حسب رونالد ستورس السكرتير الشرقي للبعثة البريطانية بالقاهرة في مذكراته فإن بريطانيا اعتذرت عن منح السلاح لأن الدولة العثمانية بلد صديق. أتى اندلاع الحرب ليقلب الموازين، وبات واضحاً أن الاتحاديين سيدخلونها سراعاً إلى جانب ألمانيا (وقعت الدولة العثمانية وألمانيا معاهدة تحالفٍ سريةٍ في 2 آب/أغسطس1914 وفي اليوم ذاته أعلنت التعبئة العامة). أرسل كتشنر الذي غدا سكرتير شؤون الحرب (وزير الحربية) برقيةً (1 تشرين الثاني/نوفمبر1914) إلى الحسين تتعهد بها بريطانيا بضمان استقلال وحرية وحقوق السلطة الشريفية ضد الاعتداءات الخارجية خاصة العثمانيين مقابل الدعم من عرب الحجاز.[11] عبر الشريف عن عدم استطاعته قطع العلاقات مع العثمانيين فوراً في حين أراد الإنجليز ضمانه إلى جانبهم تحسباً للمواجهة المرتقبة على مسرح الشرق الأدنى. أدى دخول الدولة العثمانية الحرب رسمياً إلى جانب الألمان في 5 تشرين الثاني/نوفمبر1914 إلى تسارع التحولات. يُرجع المؤرخ ديفيد تشارلوود السبب لفشل حملة جاليبولي الذريع (15-1916) ما أدى لزيادة رغبة الإنجليز في التفاوض مع العرب لفتح جبهةٍ جديدة[12]، يمكن كذلك إضافة الإخفاقات الأولية الفادحة التي عانتها الحملة البريطانية على العراق (15-1916) ولاسيما هزيمة الكوت (نيسان/أبريل 1916)، لكن ليشاوت يعطي خلفية أخرى لتعليل التحول في تفكير البريطانيين.[13]

بروتوكول دمشق

في 23 أيار/مايو 1915 قدم الأمير فيصل –ثالث أبناء الحسين- الوثيقة التي عُرفت فيما بعد باسم بروتوكول دمشق. تسلم فيصل الوثيقة عندما زار دمشق لاستكمال المحادثات مع الجمعيات العربية السرية كالجمعية العربية الفتاة وجمعية العهد التي انتقل معظمها إلى دمشق وبعضها إلى بيروت إثر إعلان الحرب، والتي كان قابل أعضاءها من قبل في آذار/مارس ونيسان/أبريل في رحلته إلى اسطنبول ليعرض على الصدر الأعظم ما لديه من أدلةٍ على مخطط الاتحاديين للإطاحة بوالده. أوضحت الوثيقة أن العرب سيثورون في تحالفٍ مع بريطانيا، وبالمقابل ستعترف بريطانيا باستقلال العرب في المنطقة بدءاً بخط عرض 37 شمالاً قرب جبال طوروس جنوب الأناضول وحتى بحر العرب جنوباً وما بين فارس والخليج العربي شرقاً، والبحر الأبيض المتوسط وسيناء والبحر الأحمر غرباً.[14][15]

الخطابات (يوليو 1915 إلى مارس 1916)

بعد المشاورات في الطائف بين الحسين وأبنائه في حزيران/يونيو 1915 أوصى فيصل (1883-1933) بالحذر، بينما جادل علي -الابن الأكبر- ضد الثورة، في حين دعا عبد الله -الابن الثاني- (1882-1951) إلى العمل وشجع والده على الدخول في مفاوضاتٍ مع بريطانيا.

كان المشرف على ترجمة وتحرير وعرض فحوى الخطابات وكتابة التقارير بشأنها سواء لمكماهون أو للخارجية البريطانية رونالد ستورس (السكرتير الشرقي البريطاني في القاهرة) بصفته مكلفاً بالعلاقات مع السلطة الشريفية، وهو يُرجع في مذكراته الفضلَ لنفسه في طرح فكرة تشجيع الشريف على الثورة لكن الحقيقة أن الأمر كان يدور بخلد الدوائر البريطانية من قبل.[16]

فيما بين 14 تموز/يوليو 1915 إلى 10 آذار/مارس 1916 تم تبادل عشر رسائلَ، خمسٍ من كل جانبٍ بين السير هنري مكماهون والشريف الحسين. كان مكماهون على تواصلٍ مع سكرتير شؤون العلاقات الخارجية (وزير الخارجية) السير إدوارد جراي (عضو حكومة أسكويث حتى كانون الأول/ديسمبر1916 عندما خلفه بلفور في حكومة لويد جورج إلى نهاية الحرب) طيلة الفترة. كان جراي يمثل حكومة صاحب الجلالة، وفي النهاية أصبح هو المسؤول عن المراسلات.

يستشهد المؤرخون بأحد المقتطفات من خطابٍ خاص أرسله مكماهون خلال فترة المراسلات (4 كانون الأول/ديسمبر 1915) كدليلٍ على ازدواجية البريطانيين:

[الخطاب موجه إلى "هاردينج Hardinge" ويحتمل أنه موظف حكومي أو صديق شخصي، وقد استشهد به كل من قدوري (2004)، وليشاوت (2006)][17]

"أنا لاآخذ فكرة قيام دولةٍ عربيةٍ مستقلةٍ قويةٍ في المستقبل على محمل الجد. ظروف شبه الجزيرة العربية لاتسمح ولن تسمح لفترة طويلة للغاية للعرب بشيءٍ كهذا. لايمكنني التخيل للحظةٍ واحدةٍ أن المفاوضات الحالية ستذهب بعيداً في تكوين الشكل المستقبلي لشبه الجزيرة العربية، أو حتى أن تقر حقوقنا أو تضع أيادينا على هذه الدولة. الوضع وعناصره أكثر ضبابيةً بكثيرٍ من ذلك. ما يمكننا فعله حالياً هو أن نحاول اجتذاب العرب نحو الطريق الصحيح، وفصلهم عن العدو، وجلبهم إلى جانبنا. من ناحيتنا -في الوقت الحاضر- هي بشكلٍ كبيرٍ مسألة كلمات، ولكي ننجح يجب علينا أن نستخدم عباراتٍ مُقْنعةً، وأن نمتنع عن المساومةِ الأكاديميّةِ حول الشروط سواءً عن بغداد أو غيرها. [باعتبار أن الإنجليز أبدوا تحفظاتٍ حول مصالح لهم في جنوب العراق]"

يمكن تلخيص الخطابات العشر في الجدول التالي، من الخطابات المنشورة بشكلٍ كاملٍ عام 1939:[18][14]

الرقم التاريخ من وإلى الملخص
1. حسين إلى مكماهون،
14 يوليو 1915
الحدود: بالتوافق مع برتوكول دمشق فالمطلوب "اعتراف إنجلترا باستقلال الدول العربية والتي يحدها من الشمال مرسين وأضنة إلى خط عرض 37 والذي تقع عليه بيره جيك وأورفة وماردين ومديات وجزيرة ابن عمر [قرب دياربكر التركية حالياً] والعمادية وصولاً إلى حدود فارس [أي كامل قيليقية (راجع الأقاليم السورية الشمالية)]، ومن الشرق حدود فارس حتى خليج البصرة [الخليج العربي]، ومن الجنوب المحيط الهندي باستثناء موقع عدن للإبقاء عليه كما هو، ومن الغرب البحر الأحمر والبحر المتوسط حتى مرسين.".

الخلافة: مطلوب من إنجلترا "قبول إعلان الخلافة العربية الإسلامية".
أخرى: في المقابل سيكون لإنجلترا أفضلية اقتصادية في الدول العربية مع إلغاء الامتيازات الأجنبية الأخرى فيها. يتفق الطرفان على معاهدة دفاع مشترك، وبقاء طرفٍ على الحياد إذا ما ابتدأ الطرف الآخر صراعاً أو عداءً ما.

2. مكماهون إلى حسين،
30 أغسطس 1915
التأكيد على "رغبة البريطانيين في استقلال الدول العربية وسكانها، وقبولنا للخلافة العربية"
3. حسين إلى مكماهون،
9 سبتمبر 1915
تكرار أهمية الموافقة على "الحدود والقيود" بحيث تكون المفاوضات "معتمدة فقط على رفضكم أو قبولكم لمسألة القيود وإعلانكم حماية دينهم أولاً [أي العرب] ثم بعد ذلك حفظ باقي الحقوق من أي ضرر أو خطر"
4. مكماهون إلى حسين،
24 أكتوبر 1915
الحدود: تم الاعتراف بأهمية الاتفاق على الحدود، حيث إن "مقاطعتي مرسين وأضنة وأجزاء من سوريا التي تقع غرب مقاطعات دمشق وحمص وحماة وحلب لايمكن القول إنها عربية تماماً ويجب أن تُستثنى من الحدود المطلوبة. أما عن المناطق الواقعة داخل هذه الحدود فيحق لبريطانيا العظمى التصرف [أي المفاوضة] فيها دونما ضررٍ بمصالح حليفتها فرنسا. إن بريطانيا العظمى جاهزة للاعتراف ولتأييد استقلال العرب في جميع المناطق داخل الحدود التي طلبها شريف مكة."

أخرى: نعد بحماية الأماكن المقدسة، وتوفير النصح والعون للحكومة العربية، مع تفهم أن بريطانيا فقط من يستطيع لعب مثل هذا الدور. واستثناء ولايتي بغداد والبصرة والسماح بإجراءاتٍ إداريةٍ خاصةٍ عليهما لبريطانيا.[19]

5. حسين إلى مكماهون،
5 نوفمبر 1915
"ولايتا مرسين وأضنة": تسهيلاً للوفاق نترك الإلحاح في إدخالهما.[19]

"ولايتا حلب وبيروت وسواحلهما": نرفض استثناءهما حيث إنهما "ولايتان عربيتان بشكل كامل، ولا فرق بين عربي مسلم وعربي مسيحي"
"الولايات العراقية": نلاحظ أننا "قد نتفق على تركها للقوات البريطانية، مقابل مبلغٍ مناسبٍ يُدفع للمملكة العربية كتعويضٍ عن فترة الاحتلال."
أخرى: يناقش باقي الخطاب التخوف العربي من التسرع في أي ثورةٍ في ظل خطر طلب الحلفاء عقد سلامٍ مع الدولة العثمانية.

6. مكماهون إلى حسين،
14 ديسمبر 1915
"ولايتا مرسين وأضنة": اتفاق معترف به.

"ولايتا حلب وبيروت": حيث إن مصالح حليفتنا فرنسا مرتبطة بهما، فستتطلب المسألة مراعاة أكثر وسنوجه اتصالاً آخر إليكم بخصوص الأمر.
"ولاية بغداد": نقترح تأجيل التفاوض.
أخرى: الردود حول التخوف من التوقيت مع التأكيد على أن بريطانيا "ليس لديها نية عقد أي سلامٍ لاتكون فيه حرية الشعب العربي من السيطرتين التركية والألمانية مكفولة"

7. حسين إلى مكماهون،
1 يناير 1916
"العراق": الموافقة على التسوية بعد الحرب

"الأجزاء الشمالية وسواحلها": رفض أي تعديلاتٍ أخرى قطعياً حيث: "من المستحيل السماح بأي انتقاصٍ يُعطي فرنسا -أو أية قوةٍ أخرى- شبر أرضٍ في تلك المناطق".[19]

8. مكماهون إلى حسين،
25 يناير 1916
الموافقة على نقاط الحسين السابقة.

"نقدر حق التقدير الدوافع التي تقودكم في هذه القضية الهامة ونعرف جيداً أنكم تعملون في صالح العرب"

9. حسين إلى مكماهون،
18 فبراير 1916
مناقشة التحضيرات الأولية للثورة. الطلب من مكماهون 50,000 جنيه استرليني ذهباً إضافة إلى أسلحةٍ وذخيرةٍ وطعام بانتظار المتطوعين في جيش الأمير فيصل.[19]
10. مكماهون إلى حسين،
10 مارس 1916
موافقة بريطانيا على الطلبات "يسرني أن أخبركم بأن حكومة جلالة الملك صادقت على جميع مطالبكم".[19] مناقشة التحضيرات الأولية للثورة. نهاية الخطابات العشر من المراسلات.

الحالة القانونية

يقول إيلي خضوري إن خطاب مكماهون في 24 تشرين الأول/أكتوبر لم يك معاهدة، وحتى إن كان كذلك فإن الحسين فشل تماماً بالوفاء بوعوده في خطاب 18 شباط/فبراير 1916.[20] على النقيض يصف فيكتور كاتان المراسلات بأنها "معاهدة سرية". يشير فيكتور إلى أن ممثلي الحكومة البريطانية أنفسهم دعوها معاهدةً أثناء مفاوضات مؤتمر فرساي للسلام (1919) حول تقسيم الأراضي العثمانية.[21] وينوّه إلى كتاب معاهدات التاريخ السرية المتضمن هذه المراسلات.

الثورة العربية (حزيران/يونيو 1916 إلى تشرين الأول/أكتوبر 1918)

جزء من مؤتمر فرساي للسلام 1919. وصف ديفيد لويد جورج المراسلات باسم "المعاهدة مع العرب".

كان العرب يرون خطابات مكماهون (بصفته ممثلاً رسمياً) كاتفاقٍ رسمي بينهم وبين بريطانيا. أطلق كل من لويد جورج وآرثر بلفور على المراسلات اسم معاهدةٍ أثناء مداولات ما بعد الحرب لمجلس الدول الأربع الكبرى المنتصرة.[22][21] طبقاً لهذا الفهم استقر التصور بأن العرب أسسوا قوة عسكرية تحت قيادة فيصل بن الحسين قاتلت بتوجيهٍ من لورانس العرب ضد الإمبراطورية العثمانية أثناء الثورة العربية.[23] في مذكرة المخابرات المحررة في كانون الأول/يناير 1916 وصف لورانس الثورة العربية بأنها:

"مفيدة لنا لأنها تسير مع أهدافنا الحالية لكسر الكتلة الإسلامية وهزيمة وإسقاط الإمبراطورية العثمانية، ولأن الشريف حسين سيتجه نحو النصر فإن الأتراك لن يستطيعوا إلحاق الضرر بنا. العرب أقل استقراراً حتى من الأتراك. إذا تعاملنا مع الأمر بحرصٍ فسيبقون في حالةٍ من الفسيفساء السياسية، نسيجٌ من الإمارات المتحاسدة [المتنافسة] وغير القادرة على التلاحم".[24]

بدأت الثورة العربية في حزيران/يونيو 1916 عندما زحف جيش عربي (وصل تعداده في النهاية حوالي 70,000 شخصٍ) ليهاجم القوات العثمانية. شارك هذا الجيش بالاستيلاء على العقبة وتدمير سكة حديد الحجاز وهي رابط إستراتيجي حيوي يربط بين دمشق والمدينة المنورة. سمح تشتيت قوى الجيش التركي لقوة التجريدة المصرية تحت قيادة الجنرال إدموند ألنبي بالتوغل في الأراضي العثمانية في فلسطين وسوريا. تُوّج التقدم البريطاني في معركة مجدو في أيلول/سبتمبر 1918 وبالنهاية استسلام الدولة العثمانية في 31 تشرين الأول/أكتوبر 1918.[25]

يرى المؤرخون أن الثورة العربية الكبرى هي أول حركةٍ قوميةٍ عربيةٍ منظمة. ضمت الثورة مجموعات عربيةً مختلفةً لأول مرة تحت هدفٍ واحدٍ هو القتال من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية. ينبع معظم تاريخ الاستقلال العربي في القرن العشرين من هذه الثورة بدءاً بالمملكة التي أسسها الشريف الحسين. بعد انتهاء الحرب كانت ثمة آثارٌ لهذه الثورة. في العراق كوّن مجموعة من ضباط الثورة العربية الكبرى حزباً سياسياً بزعامتهم، ونصّبت بريطانيا فيصل الأول ملكاً على العراق استناداً -بشكلٍ أساسي- إلى مشاركته فيها وشعبيته التي نالها بفعل هذه المشاركة. إن النخب العربية التي مارست الحكم والسياسة في العراق وبلاد الشام بعد الحرب وحتى ما بعد الاستقلال كانت في قسمٍ مهمٍّ منها من الضباط والمثقفين الذين شاركوا بها وأيّدوها. وسعى الحاج أمين الحسيني زعيم النضال الفلسطيني لاستقدام جثمان الشريف الحسين ودفنه في القدس (1931) تأليفاً لقلوب العرب من أحل فلسطين. يعود تحريض عبد العزيز آل سعود على ضم الحجاز في بعض أسبابه إلى رغبة بريطانيا بالتخلص من الشريف منعاً لتألّف قلوب العرب حوله وتحرراً من أي التزاماتٍ قد يُطالبها بها، حتى اليوم لاتزال المملكة الهاشمية في الأردن تعتبر نفسها وريثة أعمال القادة العرب في تلك الثورة.[26] كان للثورة العربية الكبرى وقع وأهمية في نفوس العرب في الخمسين سنة اللاحقة أكبر مما لها اليوم.

تعهدات مرتبطة (مايو 1916 إلى نوفمبر 1918)

اتفاقية سايكس بيكو

تمت اتفاقية سايكس بيكو Sykes-Picot السرية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا في أيار/مايو 1916، وأعلنها في كانون الثاني/ديسمبر 1917 البلاشفة بعد الثورة الروسية ونقلها الضابط عزيز علي المصري للقيادة العربية، وبيّنت أن الدول الحليفة كانت تخطط لتقسيم واحتلال أجزاءٍ من الأراضي العربية في الدولة العثمانية. كان الحسين راضياً ببرقيتين مخادعتين من السير ريجنالد ونجت خليفة مكماهون طمأنه فيهما بأن تعهدات بريطانيا للعرب لاتزال كما هي وأن اتفاقية سايكس بيكو ليست معاهدة رسمية.[27] استقال مكماهون بعد نشر اتفاقية سايكس بيكو.[28]

أوضحت العديد من المصادر أن "سايكس-بيكو" تعارضت مع مراسلات حسين مكماهون 1915-1916. ثمة العديد من نقاط الاختلاف بل التناقض أبْيَنُها ضم العراق إلى المنطقة البريطانية، بينما أقلها وضوحاً فكرة أن المستشارين البريطانيين والفرنسيين سيتحكمون في المنطقة التي تعتبر ضمن الدولة العربية المستقلة (المنطقتان "أ" و "ب" في الاتفاقية). أخيراً لم تذكر المراسلات أن فلسطين وحيفا سيكونان ضمن المناطق البريطانية، كما لم تذكر وضع القدس كمنطقة دوليةٍ وهو الأمر الذي تقرر في الاتفاقية بناءً لرغبة روسيا القيصرية.[29]

وعد بلفور

في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 منحت بريطانيا ما عرف "وعد بلفور" بوعدها بالمساعدة لتأسيس وطنٍ لليهود في فلسطين.[30] يعتبر المؤرخون هذا التصريح إضافة إلى اتفاقية سايكس-بيكو السبب الحقيقي أو التخيّلي لعدم التوافق بين المراسلات من جهة والاتفاقية والتصريح من جهة، خاصة في مسألة تقسيم فلسطين.[31] بكلمات البروفيسور ألبرت حوراني مؤسس مركز الشرق الأوسط في كلية سانت أنتوني-أوكسفورد: "الجدال حول تفسير هذه الاتفاقيات هو جدال من المستحيل إنهاؤه، لأنه كان من المقصود أن يحتمل الأمر أكثر من تفسير."[32]

رسالة هوجارث

طلب الحسين تفسيراً لتصريح بلفور فوصل وفد إلى جدة في كانون الثاني/يناير 1918 برئاسة القائد العسكري ديفيد هوجارث رئيس المكتب العربي في القاهرة التابع للمخابرات البريطانية موفداً من حكومة لندن إلى الشريف الحسين (الذي أصبح ملك الحجاز منذ كانون الأول/ديسمبر1916). طمأنت رسالة هوجارث الحسين بأن "الشعب العربي سيحصل على الفرصة الكاملة بأن يؤسس من جديد دولة عالمية" وأشار إلى "..حرية السكان الحاليين سواء الاقتصادية أو السياسية..". يقول فريدمان وقدوري إن الحسين قبل تصريح بلفور،[33][34] بينما يقول تشارلز سميث إن كلاً منهما حرّف الوثائق وخرق المعايير العلمية ليصل إلى هذا الاستنتاج.[35]

أرسل هوجارث تقريراً بأن الحسين "لن يقبل دولة يهودية مستقلة في فلسطين، كما أنني لم تصلني التعليمات بأن أحذره بأن بريطانيا العظمى عازمة بالفعل على قيام هذه الدولة".[36] وكان معنى هذا أنه أبقى الأمر ضبابياً وغائماً بينما لم يعد بإمكان الحسين المفاوضة والحرب تشارف على نهايتها.

التصريح إلى السبع

في ضوء مراسلات الحسين-مكماهون، ولكن في ظل الحذر بسبب وعد بلفور للصهاينة، إضافة إلى إعلان البلاشفة بعده بسنة عن اتفاقية سايكس بيكو السرية بين الروس والإنجليز والفرنسيين، انتقل سبعة وجهاء سوريين إلى القاهرة لتقديم مذكرةٍ طالبين فيها توضيحاً أكبر من الحكومة البريطانية يتضمن "ضماناً للاستقلال التام للعرب". جواباً من الحكومة البريطانية في 16 حزيران/يونيو 1918 جاء الرد البريطاني بما يُعرف باسم إعلان إلى السبعة الذي نص على أن السياسة البريطانية تقضي بأن حكومات المناطق التي كانت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية والمحتلة حالياً من قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى يجب أن تكون بناءً على موافقة المحكومين.[37][38]

طمأنة ألنبي لفيصل

في 19 تشرين الأول/أكتوبر 1918، أرسل الجنرال ألنبي تقريراً إلى الحكومة البريطانية يعلمها أنه قد أعطى فيصل:

"طمأنة رسمية بأن كافة الإجراءات التي تمت أثناء فترة الإدارة العسكرية هي إجراءات مؤقتة، ولايمكن السماح بالتحامل على القرار الأخير لمؤتمر السلام، وبلاشك سيكون للعرب فيه ممثل. أضفت أيضا أن التعليمات للقادة العسكريين تمنع تدخلهم في الأعمال السياسية، وأنني سوف أعزل أيّاً منهم إذا اكتشفت أنه يخالف هذه الأوامر. قمت أيضا بتذكير الأمير فيصل بأن الحلفاء كانوا في سعيٍ جاد من أجل الوصول إلى اتفاقٍ طبقاً لرغبات الشعوب التي استحثته ووضعت ثقتهم فيه".[39]

هذا في الوقت الذي خالفت "الإدارة العسكرية" مبدأ "الحفاظ على الوضع الراهن" منذ اليوم الأول بما يتعلق بالمسألة الصهيونية[40] (يمكن الاطلاع على المقبوس في صفحة "رونالد ستورس" أول حاكمِ إنجليزي للقدس).

التصريح الأنجلو-فرنسي

نص التصريح الأنجلو-فرنسي في 7 نوفمبر 1918 على:

الهدف الذي ترجوه كل من فرنسا والمملكة المتحدة في المحاكمة في الشرق وإرخاء طموحات ألمانيا هو التحرير الكامل والقاطع من الأتراك وتأسيس دول وإدارات قومية تستمد سلطتها من الخيار الحر والمبادر للشعوب والسكان.[41]

طبقا للموظف الحكومي أيري كرو الذي عاين الورقة الأصلية للتصريح: "أصدرنا بياناً قاطعاً ضد الإلحاق من أجل (1) تهدئة العرب و(2)لمنع الفرنسيين من ضم أي أجزاء من سوريا".[42] يعتبر المؤرخون التصريح مخادعاً في مجمله.

نتائج ما بعد الحرب (1919 إلى 1921)

الأمير فيصل في قصر فرساي أثناء مؤتمر فرساي للسلام 1919. من اليسار إلى اليمين: رستم حيدر (رئيس الديوان الأميري، من بعلبك-لبنان)، نوري السعيد (رئيس الوزراء العراقي فيما بعد، من العراق)، الأمير فيصل، كابتن بيساني (وراء فيصل)، توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، فيصل الغصين، النقيب تحسين قدري (مرافق الأمير فيصل، من دمشق-سوريا)

قبل يوم واحد فقط من انتهاء الحرب مع الدولة العثمانية، ناقش المكتب الخارجي البريطاني الخطة الشريفية التي وضعها ت. إ. لورانس والتي بموجبها سيُقدم أبناء الحسين كعرائس ملكية في سوريا والعراق. كان جزء من المسوغات إرضاء الاعتقاد العام لدى الإنجليز أن ثمة ديناً تتحمله بريطانيا لصالح الهاشميين بسبب مراسلات الحسين-مكماهون والثورة العربية. من بين أبناء الحسين كان فيصل هو اختيار لورانس المفضل، بينما لم يعتبر علياً قائداً قوياً، في حين كان زيد صغيرًا.، وعبد الله كسولاً.

عُقد مؤتمر فرساي للسلام أوائل عام 1919 بين الحلفاء للاتفاق على تقاسم غنائم الحرب. كان موضوع المراسلات المناطق التي ستصبح لاحقاً فلسطين ولبنان وسوريا والعراق والجزيرة العربية.

قدم فيصل ممثلاً عن والده مذكرة للمؤتمر يطلب الاعتراف بالشعوب القاطنة جنوب خط اسكندرون-دياربكر كمستقلةٍ بضمانة عصبة الأمم. بعد ذلك في كلمته أمام المؤتمر "أسهب في شرح مطالبته بحق العرب في تقرير مصيرهم بأنفسهم، وبالالتزام بالوعد الذي قطعه مكماهون، وبتنفيذ الإعلان الأنجلو فرنسي الصريح والقاطع...، وأعرب عن استعداده لاستثناء عدن... وأقر كذلك بأن فلسطين تتطلب نظاماً خاصاً وأن العراق سوف يقبل مساعدة بريطانيا العظمى وأن جبل لبنان سوف يقبل مساعدة مماثلة من فرنسا، أما بالنسبة للأجزاء الباقية فإن مطلب الأمير كان الاستقلال".[43] وكان هذا ما فسّرته خطأً صحيفة النيويورك تايمز عندما نشرت أن فيصل –نيابة عن والده- طلب دولة عربية تحت الانتداب البريطاني.[44] وقد أكد المؤتمر السوري العام فيما بعد على رفض أي انتدابٍ على سوريا وقرر -إن لم يكن بد- قبول مساعدةٍ فنيةٍ من الولايات المتحدة فقط.

في 6 كانون الأول/يناير1920 وقع الأمير فيصل اتفاقاً مع رئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو يعترف "بحق السوريين في الاتحاد وحكم أنفسهم كدولةٍ مستقلة".[45] أعلن المؤتمر السوري المنعقد بدمشق سوريا دولة مستقلة في 8 آذار/مارس1920 لقطع الطريق على بريطانيا وفرنسا ووضعهما أمام الأمر الواقع. شملت الدولة الجديدة سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن وهي إما مناطق مخصصة في اتفاقية سايكس بيكو لتكون دولة عربية مستقلة أو اتحاداً فيدرالياً (المنطقتان "A" ذات النفوذ الفرنسي و"B" ذات النفوذ البريطاني)، وإما مناطق احتلال مباشر من قبل فرنسا (المنطقة الزرقاء) وبريطانيا (المنطقة الحمراء). أعلن فيصل الأول ملكاً للدولة الوليد. عُقد مؤتمر سان ريمو على عجلٍ رداً على إعلان المملكة السورية العربية. في المؤتمر منح القنصل الأعلى للحلفاء انتداب فلسطين والعراق لبريطانيا، وسوريا ولبنان لفرنسا.[46] وافقت كل من المملكة المتحدة وفرنسا على الاتفاقية للاعتراف بالانتداب المؤقت على سوريا والعراق. قررت فرنسا احتلال سوريا بصورةٍ مباشرةٍ واتخذت إجراءاتٍ لتحقيق انتدابها قبل موافقة عصبة الأمم على الانتداب (الذي لم يصدر حتى حزيران/يونيو1922). تدخلت فرنسا عسكرياً في معركة ميسلون في 24 تموز/يوليو1920 لاحتلال دمشق التي غادرها الملك فيصل الأول بعدها بسويعات.[47]

في فلسطين عينت بريطانيا (1920) مندوباً سامياً الصهيوني هربرت صموئيل -الذي كان أول من وزّع مذكرةً على وزراء الحكومة البريطانية عندما كان وزيراً (1915) يقترح إنشاء وطنٍ لليهود في فلسطين، وخدم ابنه جندياً في الفيلق اليهودي في حملة اللنبي على فلسطين واحتلال القدس- وأصرت على إدراج "تصريح بلفور" في صك انتدابها من عصبة الأمم لتجعل سياستها في فلسطين تحت غطاء شرعيةٍ دولية. كانت اتفاقية فيصل وايزمان اتفاقية قصيرة للتعاون بين العرب واليهود حول تطوير وطنٍ لليهود في فلسطين، وهو ما فهمه فيصل بصورةٍ خاطئةٍ على أنه سيكون جزءاً من المملكة العربية. لم يعامل فيصل فلسطين بصورةٍ مختلفةٍ عما شرحه في مؤتمر السلام في 6 شباط/فبراير1919 حيث قال: "فلسطين –وبسبب سمتها العالمية- ستكون في جانب خاص للمناقشات المتبادلة لكل الأطراف المعنية".[48][49] في المؤتمر نفسه سأل روبرت لانسينغ وزير خارجية الولايات المتحدة وايزمان عما إذا كان الوطن القومي لليهود يعني قيام حكومةٍ يهوديةٍ تتمتع بالحكم الذاتي فأجاب رئيس الوفد الصهيوني بالنفي.

بيّن وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية لانسينغ عضو الوفد الأمريكي لمفاوضات السلام في فرساي أن نظام الانتداب الذي ينص على منح عصبة الأمم للدول المنتصرة صكوكَ انتدابٍ على الشعوب المحرَّرة -لمساعدتها في النهوض وتأسيس دولٍ وأنظمةٍ حديثةٍ- كان بكل بساطةٍ وسيلةً صنعتها القوى العظمى المنتصرة (عدا الولايات المتحدة التي لم تشارك في عصبة الأمم) لتخفي تقاسمها لغنائم الحرب. فإذا تم الاستيلاء على أراضي العدو بصورةٍ مباشرةٍ، فإن قيمة هذه الأراضي -في ظل القوانين الدولية- ستكون بديلاً لادعاءات الحلفاء بالمطالبة بتعويضاتٍ عن خسائر الحرب أو جزءٍ منها. يقول أحد المختصين بالقانون الدولي: "لو أرادت دول الحلفاء الاستيلاء على ممتلكات الدول الوسطى وحليفاتها وضمها إلى ممتلكاتها الخاصة "كمستعمرات" لكان عليها إذ ذاك حسم قيمة تلك المستعمرات والممتلكات المستولى عليها من أصل قيمة التعويضات التي فرضتها على الأعداء، ولكنها بفضل النظام الجديد الذي أبرزه الجنرال سمطس... تمكنت من تحاشي ذلك"[50] (معلوم أن التعويضات الجائرة التي فرضت على ألمانيا هي ما أدى إلى الحرب العالمية الثانية). هكذا فإن سوريا ولبنان -مثلاً- خضعتا للاحتلال الفرنسي المباشر -بموجب صك انتدابٍ من عصبة الأمم- وسددت حكوماتهما على مدى سنواتٍ أقساطاً مقررةً من الدين العثماني العام الذي تعود أصوله إلى القرن التاسع عشر.

وضح لانسينغ أيضاً أن الجنرال البريطاني جان سموتز هو صاحب المفهوم الأصلي للانتداب.

التحفظات الإقليمية وفلسطين

المقاطعات طبقا لرسالة مكماهون وتصنيفاتها الإدارية في الإمبراطورية العثمانية.

في 24 تشرين الأول/أكتوبر1915 أرسل مكماهون إلى الحسين معلناً عزم بريطانيا الاعتراف باستقلال العرب مع تحفظاتٍ معينة. تم إرسال المراسلات الأصلية باللغتين الإنجليزية والعربية مع وجود فروقٍ طفيفةٍ في الترجمة الإنجليزية.

"مقاطعتا مرسين واسكندرونة وأجزاء من سوريا واقعة غرب مقاطعات دمشق وحمص وحماة وحلب كلها مناطق لايمكن القول إنها عربية تماماً، ولذا يجب استثناؤها من الحدود المقترحة. مع التعديلات في الأعلى وبغض النظر عن معاهدتنا الحالية التي توصّلنا إليها مع القادة العرب، فقد قبلنا هذه الحدود. بخصوص الأراضي التي يحق لبريطانيا العظمى التصرف [المفاوضة] فيها بدون إضرارٍ بمصالح حليفتها فرنسا، وباسم حكومة بريطانيا العظمى أطمئنكم وأقدم لكم هذا الرد: بخصوص التعديلات في الأعلى، فإن بريطانيا العظمى مستعدة للاعتراف باستقلال العرب داخل الأراضي والحدود التي اقترحها شريف مكة."[51]

كُتبت المراسلات أولاً بالإنجليزية قبل ترجمتها إلى العربية، والعكس صحيحٌ بالنسبة إلى خطابات الشريف. من الجهة الإنجليزية ليس واضحاً من كتبها وترجمها والسبب أن مذكرات رونالد ستورس -السكرتير الشرقي للبعثة البريطانية في القاهرة والمسؤول عن العلاقات مع السلطة الشريفية- جاءت خلواً من ذكر مضمونها لأنها صدرت (1937) قبل رفع السرية عنها. استنتج قدوري وآخرون أن الاحتمال الأكبر أن صائغها والمسؤول عنها هو رونالد ستورس. في مذكراته يقول ستورس إن الرسائل (بالعربية) كانت من تحضير حسين روحي [رجل ستورس ومترجمه][52] ثم تأكد منها بنفسه.[53]

اعترضت الوفود العربية في مؤتمر المائدة المستديرة (لندن/1939) على بعض الترجمات من العربية إلى الإنجليزية وحضّرت اللجنة ترجماتٍ متفقاً عليها من الطرفين والتي تجعل النص الإنجليزي "خالياً من الأخطاء الفعلية".[54]

الجدل حول "أجزاء من سوريا"

أتى الجدل حول فلسطين من حقيقة أنها غير مذكورةٍ بوضوح في مراسلات الحسين-مكماهون فضلاً عن أنها مشمولة ضمن الحدود التي اقترحها الحسين منذ البداية. قبل مكماهون حدود الحسين "القابلة للتعديل[55] واقترح تعديلاتٍ بأن "المناطق في سوريا الواقعة غرب مقاطعات دمشق وحمص وحماة وحلب لايمكن أن نقول عنها إنها عربية بالكامل ويجب استثناؤها". اختلف الإنجليز والعرب حول ماإذا كانت فلسطين ضمن هذه المناطق المستثناة، وبدأ كل منهما تقديم الحجج التي تثبت ادعاءه بناءً على تفاصيل دقيقة في التعابير وكذلك في الظروف التاريخية المصاحبة للمراسلات.

الجدل حول "دون الإضرار بفرنسا"

في خطاب 24 أكتوبر نصت النسخة الإنجليزية على التالي:

"...نقبل هذه الحدود، وبخصوص الأراضي التي يحق لبريطانيا العظمى التصرف فيها بدون الإضرار بمصالح حليفتها فرنسا".

في اجتماع في وايتهول في كانون الأول/ديسمبر 1920 (بعد احتلال سوريا ولبنان من قبل فرنسا) تمت مقارنة النسختين العربية والإنجليزية من المراسلات. نص الرد الرسمي على التالي:

بالنسبة إلى النسخة العربية المرسلة إلى الملك الحسين فهي مترجمة لكي تُظهر بريطانيا العظمى بأنها ستتصرف دون الإضرار بفرنسا في كل الحدود المذكورة. هذا التسلسل هو الملاذ الأخير لنا حيث إنه سمح لنا بإخبار الفرنسيين أننا حفظنا حقوقهم، والعرب أن هناك مناطق عليهم الاتفاق بخصوصها مع فرنسا. من المحرج للغاية إزالة هذه الأرض الصلبة من تحت أقدامنا [بمعنى هذا التفسير هو الحل الأخير عند الإنجليز لإنقاذ ماء وجههم لدى الطرفين]. نعتقد أنهم سيستغلون الفرصة في الانتداب ويرسلون فيصل إلى العراق.

يقول بار إنه على الرغم من أن مكماهون أراد الحفاظ على مصالح فرنسا إلا أنه أضحى ضحية مهارته [اللغوية]، إذ إن المترجم روحي فقد الحس المؤهل في الجملة عند ترجمتها إلى النسخة العربية.[56] [افتقد الفحوى المقصود بسبب صعوبة عبارة مكماهون]

في تحليلات مجلس الوزراء للتطورات الدبلوماسية في أيار/مايو1917، قال عضو البرلمان ويليام أورمسبي جور:

"النيات الفرنسية في سوريا غير متفقةٍ بالتأكيد مع أهداف الحرب للحلفاء كما حُدّدت للحكومة الروسية. إذا كان التقرير الذاتي للمصير بالنسبة إلى الشعوب سيكون هو المبدأ، فإن تدخل فرنسا في اختيار الحكومة العربية للمستشارين، واقتراحها [فرنسا] أن يتم اختيار الأمراء من قبل العرب في الموصل وحلب ودمشق سيبدو بلا أدنى شك غير متوافقٍ مع أفكارنا عن تحرير الأمة العربية وتأسيس دولةٍ عربيةٍ مستقلةٍ وحرة.

الحكومة البريطانية -بإرسالها الرسائل للملك حسين قبل اندلاع الثورة العربية عن طريق السير مكماهون- تبدو كأنها تثير شكاً حول ماإذا كانت تعهداتنا للملك حسين -كزعيمٍ للأمة العربية- متناغمة مع النيات الفرنسية لجعل ليس فقط سوريا وإنما شمال العراق أيضاً تونس أخرى. إذا كان دعمنا -ذي الأصل والاعتبار الأقل وضوحاً- للملك حسين والقادة العرب الآخرين يعني شيئاً فهو يعني بأننا جاهزون للاعتراف بالاستقلال تام السيادة للعرب في الجزيرة العربية وسوريا. يبدو أننا سنحتاج وقتاً لإطلاع الحكومة الفرنسية بتعهداتنا التفصيلية للملك حسين، وكذلك لجعل الأمر واضحاً لهذا الأخير فيماإذا كان هو أو شخصٌ آخرُ سيكون حاكماً لدمشق العاصمة المحتملة للدولة العربية، مما قد يتطلب طاعة الأمراء العرب الآخرين.[57]

الموقف العربي وقضية فلسطين

كان موقف العرب أنه لايمكن اعتبار فلسطين من المناطق المستثناة كونها تقع جنوب المناطق المذكورة في خطاب مكماهون. جادل العرب خصوصاً أن ولاية دمشق غير موجودة وأن تعبير مقاطعة دمشق عنى فقط المنطقة المحيطة بالمدينة نفسها، وأن فلسطين كانت جزءاً من ولاية سوريا التي لم تذكر في المراسلات.[23]

لحظ مؤيدو هذا التفسير أيضاً أنه ألقيت أثناء الحرب آلاف المناشير بالطائرات خلال عام 1916 على كافة أنحاء فلسطين تحمل رسالة من الشريف الحسين من جهةٍ ورسالة من القائد البريطاني من الجهة الثانية تبين أن الاتفاق العربي-الإنجليزي قد تم، وتم تأكيد استقلال العرب، وهو دليل على أن بريطانيا اعتبرت سكان فلسطين معنيّون بهذا الأمر.

في كتابه "تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي" يذكر المستشرق الإنجليزي ستيفن لونغريغ: "أما سناجق القدس ونابلس وعكا فإنها لم تستثن ولم يرد ذكرها بالمقابل في المراسلات، ولذا فإن العرب أصروا دائماً على أن هذا القسم من سوريا الجنوبية كان مشمولاً في وعد الاستقلال، وأن هذه الدعوى غير قابلةٍ للنقض فعلاً إذا ماستندنا إلى بنود النص... والواقع أن مكماهون أعلن في 1939 أنه لم يقصد إدخالها".[58]

والحق كان يمكن ذكر فلسطين أو القدس أو غرب نهر الأردن أو أي تعبيرٍ يُقصد منه إدراج فلسطين مع المناطق التي طلب مكماهون استثناءها لكن ذلك لم يرد في الخطاب، كما أن مسوّغ الاستثناء -وهو الادعاء بأن هذه المناطق لايمكن اعتبارها عربيةً تماماً- أمرٌ غير واردٍ بالنسبة إلى فلسطين، وإذا كان بغرض التلميح لليهود فهو احتمال واهٍ لضآلة عددهم جداً وقتذاك مما لايمكن أن يؤثر على عروبة فلسطين.

كان توقيت نشر المراسلات في كتاب جورج أنطونيوس (1938) تسريباً من الإنجليز، ورسمياً من قبل الحكومة البريطانية (1939) لإدراجها في وثائق مؤتمر المائدة المستديرة في لندن (1939) حول فلسطين مناورةً سياسيةً لا أكثر للقول إن بريطانيا كانت استثنت فلسطين أصلاً من وعودها للشريف، بينما هي لم تك تريد -وقت المراسلات- أكثر من ذكر أنها أخذت بالاعتبار مصالح حليفتها فرنسا.

الموقف البريطاني

وضعت مذكرة في تشرين الثاني/نوفمبر1918 من قبل المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عندما كان موظفاً مؤقتاً في وزارة الخارجية في قسم المخابرات السياسية.[59] أمر أيري كرو -مساعد سكرتير البرلمان- وزارة الخارجية بوضع ملفٍّ من أجل مؤتمر السلام. بعد الوصول إلى باريس طلب الجنرال جان سموتز Smuts تلخيص المذكرات وكتب توينبي الوثيقة.[60]

اجتمعت اللجنة الشرقية لمجلس الوزراء البريطاني تسع مرات في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر لوضع جملة قراراتٍ للسير على هديها أثناء المفاوضات.[61] في اجتماع لها (5 كانون الأول/ديسمبر1918) حضره كل من اللورد كرزون واللورد بلفور والجنرال سموتز ولورد سيسيل والجنرال السير هنري ويلسون إضافةً إلى ممثلين عن وزارة الخارجية ووزارة الهند والأدميرالية ووزارة الحرب والخزانة، كما كان لورنس حاضراً أيضاً تداولت اللجنة مذكرة توينبي التي احتوت خريطة تفصيلية لموضوع المراسلات تضم فلسطين مع الدولة العربية مع أنها استثنت الساحل السوري وعدن والعراق منها وهي المناطق التي طلب الإنجليز استثناءها وتراوح جواب الحسين حولها ما بين الموافقة (عدن) والتأجيل لما بعد الحرب (العراق) والرفض (الساحل السوري).

في 21 تشرين الأول/أكتوبر طلب مجلس وزراء الحرب من سموتز أن يحضر خطاب السلام بشكلٍ مختصر، وبدوره عهد إلى إيرلي ريتشاردز بهذه المهمة. اختصر ريتشاردز وثيقة توينبي وقرارات اللجنة الشرقية في "المذكرة بي P-memo" كي تستخدم من قبل مفوضي مؤتمر السلام.[62][63]

بوجه النقد المتصاعد بسبب الالتزامات البيّنة التناقض ما بين كلٍّ من المراسلات واتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور قرر وزير المستعمرات ونستون تشرشل عام 1922 المبادرة لأول مرة بالإعلان أن فلسطين كانت دوماً مستثناةً من التعهدات للحسين فكان إصدار الكتاب الأبيض على الرغم من أن هذا يعارض صراحةً الوثائق الحكومية الهائلة العدد، ورأي مكماهون نفسه كما عبر عنه عام (1939).[58]

مقالات ذات صلة

مراجع

  1. Kattan 2009، صفحة 101.
  2. Huneidi 2001، صفحة 65.
  3. Kedouri 2014، صفحة xiii.
  4. Kedouri 2014، صفحة 3.
  5. Mathew 2011، صفحات 26–42.
  6. Huneidi 2001، صفحات 65–70.
  7. Palestine Royal Commission 1937، صفحة 16–22 (Chap. II.1).
  8. Antonius 1938، صفحة 169.
  9. Hurewitz 1979، صفحة 46.
  10. Yesilyurt 2006، صفحة 106-107.
  11. Yesilyurt 2006، صفحة 107-108.
  12. Charlwood 2014.
  13. Lieshout 2009.
  14. Paris 2003، صفحة 24.
  15. Biger 2004، صفحة 47.
  16. توجهات بريطانية-شرقية مذكرات السير رونالد ستورس: تر. رؤوف عباس، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004، ص 16.
  17. Letter from McMahon to Hardinge, 4 December 1915, Hardinge Papers, vol. 94 (خطاب من مكماهون لهاردينج: أوراق هاردينج، فصل ٩٤)
  18. McMahon & bin Ali 1939.
  19. مراسلات حسين مكماهون - ويكي مصدر نسخة محفوظة 3 أكتوبر 2018 على موقع واي باك مشين.
  20. Kedouri 2014، صفحة 246.
  21. Kattan 2009، صفحة 98.
  22. Council of Four 1919، صفحة 7.
  23. Biger 2004، صفحة 48.
  24. Hawa 2017، صفحة 155.
  25. Goren, Dolev & Sheffy 2014، صفحة 110-114.
  26. Khalidi 1991، صفحة 7.
  27. Khouri 1985.
  28. Ormsby-Gore, William. "CAB 24/271/3 Palestine: Policy of His Majesty's Government". The National Archives. مؤرشف من الأصل في 27 مارس 2019. ...the Sykes-Picot agreement, a document which caused the resignation of Sir Henry McMahon himself,...
  29. Yapp 1987، صفحة 281–2.
  30. Goren, Dolev & Sheffy 2014، صفحة 280–282.
  31. Shlaim 2009، صفحات 251–270.
  32. Hourani 1981، صفحة 211.
  33. Friedman 2000، صفحة 328.
  34. Kedouri 2014، صفحة 257.
  35. Smith 1993، صفحة 53-55.
  36. Huneidi 2001، صفحة 66.
  37. Friedman 2000، صفحة 195–197.
  38. Choueiri 2001، صفحة 149.
  39. Arab-British Committee 1939، صفحة Annex H.
  40. توجهات بريطانية-شرقية مذكرات السير رونالد ستورس: تر. رؤوف عباس، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004، ص 400.
  41. Arab-British Committee 1939، صفحة Annex I.
  42. Hughes 2013، صفحة 116-117.
  43. تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي: ستيفن لونغريغ، تر. بيار عقل، دار الحقيقة، بيروت، بلا تاريخ، 1958(الطبعة الإنجليزية)، ص 114
  44. Marshall, Ernest (8 فبراير 1919). "Desires of Hedjaz Stir Paris Critics" ( كتاب إلكتروني PDF ). New York Times. مؤرشف من الأصل ( كتاب إلكتروني PDF ) في 17 ديسمبر 2019.
  45. Paris 2003، صفحة 69.
  46. Biger 2004، صفحة 68, 173.
  47. Paris 2003، صفحة 67.
  48. Friedman 1973، صفحة 92.
  49. 📖 Arab Memorandum to the Paris Peace Conference. .
  50. رسالة في الانتداب: فؤاد مفرج، مطبعة صادر، بيروت، 1933، ص 12
  51. English version quoted in: Palestine: Legal Arguments Likely to be Advanced by Arab Representatives, Memorandum by the Secretary of State for Foreign Affairs (Lord Halifax), January 1939, المحفوظات الوطنية , CAB 24/282/19, CP 19 (39) نسخة محفوظة 25 أغسطس 2018 على موقع واي باك مشين.
  52. Kalisman 2016، صفحة 67.
  53. Storrs 1937، صفحة 168.
  54. Arab-British Committee 1939، صفحة Para 5.
  55. Rea & Wright 1997، صفحة 10.
  56. Barr 2011، Ch.2,9.
  57. Eastern Report, No. XVIII, 31 May 1917, المحفوظات الوطنية  CAB/24/143
  58. تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي: ستيفن لونغريغ، تر. بيار عقل، دار الحقيقة، بيروت، بلا تاريخ، (الطبعة الإنجليزية 1958)، ص 76، الهامش 8
  59. Political Intelligence Dept. Foreign office. "British Commitments to King Husein CAB 24/68/86". المحفوظات الوطنية . مؤرشف من الأصل في 2 أبريل 2019.
  60. Political Intelligence Dept. Foreign office. "The Settlement of Turkey and the Arablan Peninsula CAB 24/72/6". المحفوظات الوطنية . مؤرشف من الأصل في 2 أبريل 2019.
  61. Goldstein 1987، صفحة 423.
  62. Dockrill & Steiner 1980، صفحة 58.
  63. Prott 2016، صفحة 35.

وصلات خارجية

موسوعات ذات صلة :