الرئيسيةعريقبحث

الإسلام وفلسفة العلم الحديثة


☰ جدول المحتويات


إنَّ للمعرفة الإنسانيّة فرعان هما العلم والفلسفة، فالفلسفة "عقلانية" تعتمد على المعقولية والبرهان بالمناورة المنطقية، بينما العلم هو "علمي" أي يعتمد على البرهان بالتجربة العملية. إن العلم بالأساس هو وليد الفلسفة، فقد ظل ميدانا العلم والفلسفة متلاصقين ومن دون حد واضح أو ثابت بينهما مما يصعب معرفة حد أحدهما وبداية الآخر. على سبيل المثال إنّ دراسة الدماغ في نطاق العلم، ولكن دراسة العقل هي في نطاق الفلسفة. إنَّ مفهوم اللانهاية لا يزال مشتركاً بين علم الرياضيات والفلسفة وهنالك أيضاً «أشباه العلوم» pseudosciences العلوم الزائفة التي تقع على الحد الفاصل بين العلم والفلسفة لتربط بينهما [1]

أما فلسفة العلم فهي التي تعنى بالافتراضات والأسس والأساليب والاستخدامات العلمية بالإضافة إلى التأكيد على فائدة العلم وميزته البحثية وتداخله إلى حد ما مع الفلسفة الغيبيّة ما وراء الطبيعة. على العموم فإنَّ هذا الفرع من المعرفة قوبل بالريبة والتوجس من قبل العلماء على أنَّه عديم الفائدة، ولو أنَّ كثيراً منهم استخدموه بصورة عفوية في بحوثهم للتوصل إلى حقيقة علمية ما. وصف الفيزيائي ريتشارد فينمان فلسفة العلم على «أنَّ فائدتها للعلماء تقريباً بقدر فائدة علم الطيور للطيور» مما حدا بالعالم جوناثان شيفر بالرد قائلاً «من الممكن أن تكون معرفة علم الطيور مفيدة للطيور لو كان بمقدرتها الحصول على هذه المعرفة» [2].

ان علاقة الفكرة الفلسفية بالعلم تعود إلى زمن ارسطوطاليس و لكن "فلسفة العلم" كفرع مستقل للفلسفة تبلورت في اواسط القرن العشرين ابان حركة "الايجابية المنطقية logical positivism " التي هي اساس فلسفة العلم الحديثة. هدفت الايجابية المنطقية إلى وضع الاسس لمغزى التعابير الفلسفية وامكانية تقييمها موضوعياً. فلسفة العلم تتداخل مع ما وراء الطبيعة (ومنها علم الدين وفلسفة الدين ), وعلم الوجود ontology و نظرية المعرفة عندما تستكشف العلاقة بين العلم والحقيقة. ان فلسفة العلم وعلاقتها بالعلوم العلمية (اي التجريبية) تتجلى بوضوح في نظرية اينشتاين « النسبية العامة » لتجنب الارباك الذي قد يحصل بسبب عدم وضوح اللغة أوالادعاءات غير الموثقة [3] . لهذا فان فلسفة العلم تجسر بين الدين والعلوم التجريبية.

إنَّ الفلاسفة العرب من مسلمين وغيرهم ومن المسلمين غير العرب هم رواد العلم في القرنين العاشر والحادي عشر ومنهم الرازي وابن الهيثم والبيروني على سبيل المثال لا الحصر، باستخدامهم الطرائق المسماة «علمية» حالياً في التوصل إلى استنتاجاتهم. لحق بهم فلاسفة أوروبيّون من رواد الثورة العلمية في القرن السابع عشرالذين أعطوا اسماً لفكرة «التجربة العلمية» التي بدأها ومارسها المسلمون قبلهم بعدة قرون وأولهم ابن الهيثم( 965-1040 م) الذي هو أول من وصف الضوء علمياً فاستحق لقب « عالم » كما نعرّفه الآن، حين لم تكن كلمة «علم» معروفة بمعناها السائد الحالي. إنَّ الفيلسوف فرانسيس بيكون (1561-1626م) توفي بمرض ذات الرئة الذي أصيب به أثناء قيامه بتجربة تأثير التجميد في حفظ اللحم. لقد أشاع هذا الفيلسوف ولأوّل مرة «المنهجية الاستقرائية» inductive methodology في البحث العلمي التي سميت «المنهجية البيكونية» أي المنهجية العلمية. مما يجدر ذكره في هذا الخصوص هو أنَّ فرانسيس بيكون والعالم روبرت بويل وعالم الرياضيات جون دي كانوا أعضاء في «جمعية الصليب الوردي» Rosicrucian [4] التي تصف الكيمياء «على أنَّها ليست تحويل المعادن الأساسية إلى ذهب فحسب ولكن أيضاً هي تنوير الشخص البسيط بعملية روحيّة وتحويله إلى ‹ذهب روحيّ› في عملية سموها ‹الكيمياء الروحيّة› spiritual alchemy . حدث هذا في أوروبا قبل أربعة قرون في فترة كان العلم يعتبر فيها بدعةً وكفراً، ويبدو أنَّ هؤلاء الباحثين كانوا محظوظين في أنَّهم لم يسجنوا أو يحرقوا كبقية المفكرين التجريبيين آنذاك.

إنَّ النظريات الكونيّة والاجتماعيّة الجديدة تمثل الحدود الرمادية بين العلم والفلسفة إذ يكمل أحدهما الآخر بدلاً من أن يفنده أو يتعارض معه. إنَّ هذا التقارب المتوازي هو بسبب طبيعة كل منهما وليس بقصد أو تخطيط من قبل الباحثين في هذين المجالين بل بسبب عدم استطاعة الباحثين على تجاهله.

إنَّ عجز العلم عن تفسير الإيمان بالطرائق العلمية المتبعة حالياً حدا بالعالم الطبيعي ريتشارد دوكينزإلى الاستعانة بالمنطق الفلسفي في جدليته حول نفي وجود الخالق لتعزيز وجهة نظره غير المقنعة. هو وعلماء الحركة الداروينية الجديدة Neo-darwinism التي هي مثال على تداخل العلم مع الفلسفة يحاولون حتى تفسير الظواهر الاجتماعيّة بواسطة نظرية داروين وتحويل النظرية إلى «مذهب» مادي materialistic لاديني non-theistic فيما سمّي بعلم الأحياء الاجتماعيّ socio-biology ومفهوم الجين الأنانيّ selfish gene واللياقة الشاملة inclusive fitness [5]. لقد حول دوكينز وأتباع النظرية الداروينية الجديدة فرضياتهم إلى معتقد أيديولوجي فلسفي علماً بأنَّ داروين تعامل مع فرضيته التطورية على أنَّها نظرية علمية فحسب ولا يوجد ما يدل على أنَّه اعتبرها أيديولوجية.

إنَّ عدداً من نظريات وفرضيات علم الفضاء الآن هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى العلم، وإنَّ بعضاً من علماء فيزياء الفلك نحوا منحىً فلسفياً ميتافيزيقياً (غيبيّاً) بقولهم إنَّ الأشياء هي موجودة وغير موجودة في الوقت ذاته، وإنَّ أي ذرة توجد في كوننا قد تكون في الوقت ذاته موجودة في كون آخر موازٍ. هنالك مثال آخر على فلسفة العلم، وهو نظرية الغشاء membrane theory [6]التي تفترض أنَّ الحيّز space له أحد عشر بعداً. مما يجدر ذكره هو أنَّ هذه الطروحات الاجتماعيّة والكونيّة الجديدة لم تثبت بطريقة علمية، ولم تحصل على إجماع العلماء عليها.

أما العلوم الشمولية holistic sciences فهي أشباه علوم (العلوم الزائفة) تمثل حلقة الوصل بين العلم والفلسفة. مثلاً إنَّ دراسة جسم الإنسان هي علم، ولكن دراسة الإنسان ككل: الجسم والروح والنفس هي نهج شمولي holistic، وإنَّ ما يخص الكينونة existence هو علم، ولكن ما يخص العيش living هو نهج شمولي أيضاً. من الجدير بالذكر أنَّ كلاً من العلم والفلسفة عجزا عن فك لغز «الروح» مما يجعل المرء يفكر بأنَّ جهلنا هذا بماهية الروح هو مقدر من الخالق سبحانه، [سورة الإسراء: 85] ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.

إنَّ العلم العقلي science of mind (العلم المعرفي علوم استعرافية) هو نهج شمولي أيضاً، ويتمثل في علم النفس التحليلي الفرويدي (التحليل النفسي psycho-analysis) الذي وضع نظريات للسلوك البشري في مسعى للتغلب على الحدود بين العلم والفلسفة في هذا المجال بالذات. إنَّ الشمولية لها أيضاً تطبيقات في فيزياء الكم والطب، والهندسة، والبيئة، والأنثروبولوجيا، والاقتصاد، وعلم الاجتماع وعلم الأحياء. إذن، فمن المحتمل أن يحدث هذا في مجالات المعرفة الاخرى لردم الهوة بين العلم والفلسفة.

ليس باستطاعة العلم إثبات أو نفي وجود الخالق سبحانه، وذلك بحكم طبيعة منهجه البحثي، فهو يصف الخلق وتطوره كما هو من دون التطرق إلى ما قبل الخلق أو لما بعد الفناء. ولكن علينا أن نتذكّر ما قاله العالم ستيفن هوكينج «أنَّ مدى صحة أي نظرية علمية هو بقدر انطباق تكهناتها على الواقع واستنادها على فلسفة علمية ملائمة، ومع ذلك يظل إثبات صحتها مستحيلاً» [7]. لحد الآن، هنالك ألغاز حول الكون والمخلوقات الحيّة لم يتوصل العلم إلى حلها؛ فعلى سبيل المثال وليس الحصر هنالك عملية التركيب الضوئيphotosynthesis للنبات، وهل أنَّ للكون حدوداً؟ وما هي المادة المظلمة والطاقة المظلمة المفترضتان اللتان تكوّنان 95% من طاقة كتلة الكون mass-energy. يتحاشى العلماء دوماً التطرق إلى مفهوم «خلق الكون» مما يدل على أنَّ مبدأ الخلق هو خارج نطاق العلم حالياً على أقله. فمن الناحية العلمية لا يوجد تعليل لكيفية بدء الوجود وكذلك نهايته، والقول بأنَّ استمرار بقاء الأنواع يستدعي حظاً كبيراً في أن لا تحدث كارثة أرضيّة أو كونيّة تؤدي إلى انقراضها، مما يفتح الباب واسعاً للجدل الفلسفي [8]. بمعنى آخر إنَّ علوم الحياة هي أشبه بجزيرة من العلم في محيط مترامٍ من الفلسفة.

إنَّ الإيمان بالله هو عملية فكرية مستندة إلى حجة منطقية بالغة، ولو أنَّها غير مبنية على برهان علمي فهي لا تحتاج إثباتها علمياً, وقد قال البرت اينشتاين : «إنَّ الشخص المتديّن هو مؤمن بمعنى أنَّه لا يعتريه الشك في أهمية وسمو القضايا والأهداف الروحيّة التي لا تقوم على أساس علميّ ولا حتى هي بحاجة إلى هذا الأساس، وذلك لأنَّها حقيقة ضرورية كوجوده ذاته. إنَّ الدين هو المسعى الأزلي للبشرية لأن يعي الإنسان هذه القيم والأهداف الروحيّة بصورة تامة وواضحة ودائمية وذلك لتعزيزها وتوسيع نطاق تأثيرها. وعلى هذا، يبدو من المستحيل حدوث صراع بين العلم والدين وفاقاً لهذا الفهم. إنَّ مهمة العلم هي التحري فقط عن ‹ماهية الشيء› وليس عن ‹ما ينبغي أن يكون عليه› الذي هو خارج نطاق العلم، ولو أنَّ التوصل إلى أحكام للقيم الروحيّة يظل ضرورياً. أما الدين فهو لتقييم أفكار الإنسان وأفعاله وليس التطرق إلى الحقائق والعلاقة بينها. فبناءً على هذا التفسير، إنَّ سبب الصراعات الماضية المعروفة بين الدين والعلم هو سوء فهم للقضية» [9]. إنَّ التقدم والاكتشافات العلمية طالما كانت ذريعة للملحد أو المشكك في أن لا يؤمن بالله لأنَّه يعتقد فيها التفسير البديل لما حوله. ولكنها في الوقت ذاته تعزز إيمان المؤمن وحماسه بكشفها بداعة صنع الخالق الله سبحانه، وتؤدي إلى إحكام عقلانيّ للنهايات السائبة في تفكيره الإيمانيّ الغيبيّ.

إنَّ «الطبيعة» التي هي أساس الفهم العلمي لنشوء الكون والمخلوقات، تعبير غامض لم يتمكّن العلم من تعريفها بإسلوب علمي. إن استيعاب العلماء الطبيعيين لفكرة الخلق ضمن البحوث والاعتراف بأنَّ القوانين الطبيعية المكتشفة هي مصممة ومحكومة بإرادة مبدعة، وهو سبحانه الذي يقوم بتضبيطها الفائق الدقة، مما سيحل معضلات علمية كثيرة غير مفسرة. يتساءل البعض من خلق الله؟ وهو الذي ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [سورة الإخلاص: 3]، ولا يسألون من أنشأ عمليات الطبيعة وفصّلها بإحكام؟ وحتى إن كانت عملية محاولة وخطأ من دون إرادة ذكية ومبدعة كما يعتقدون فكيف يُقَرُّ الصحيح ومن يختاره فيسود؟ إنَّ العقل البشري، سواء أكان نتاجاً للخلق creation أو للتطورية بمغزاها العلمي evolutionism فهو بلا شك نتاج للعوامل والظواهر التي شكلت الكون، وهو بديناميتها ذاتها وتنوعها، وجزءٌ لا يتجزأ منها.

إنَّ إمكانية العقل محدودة واكتشاف كل الكون يعتبر مستحيلاَ من الناحية التقنية، ولكنها لا تمنع محاولة فهمه، وإن كان هذا هو أيضاً افتراضي، إذ قد يعجز العقل حتى عن فهمه. إنَّ مبدأ السببية causality يعني «أنَّ كل حدث يسببه حدث آخر الذي بدوره سببه حدث قبله وهكذا» ولكن العلماء يتحاشون الإجابة عن السؤال: من سبب أوّل حدث وبِدْء الكون؟ فهم إما يقولون أن ليس هنالك بداية للكون، أو أن أصل الكون هو خارج نطاق العلم لسبب ميتافيزيقي أو ديني. هنالك علماء آخرون يعترضون قائلين إنَّ كلا التعليلين ليس علمياً حيث إنَّ الادعاء الأوّل خاطئ لأنَّ الكون له بداية في الانفجار الأعظم big bang، والادعاء الثاني يعني عدم انطباق القوانين العلمية على مرحلة بدء الكون مما يعني أنَّها معرضة لعدم انطباقها في مراحل أخرى من عمر الكون، وهذا لايجوز علمياً إذ إنَّ قوانين العلم هي «علمية» لكونها سائدة دائماً [10].

لقد تميّز القرن العشرون بقفزات هائلة في العلوم كافة ومنها الفيزياء الفلكية والنظرية، ولكن من الجدير ذكره هو أنَّ هذا التقدم أدى في الوقت ذاته إلى إدراك العلماء للعقبات التي تكتنفهم فيما يخص الكون والتي تمنع أي تقدم لاحق، لكون هذه العقبات هي من صلب المفاهيم والقوانين ذاتها التي أدت إلى تطور معلوماتنا العلمية. مثال على ذلك هو مبدأ التيقن determinism «وهو إمكانية تحديد سرعة أي جسيم particle ومكانه في الوقت ذاته» ومبدأ «استحالة ذلك التحديد وهو ما يسمى بمبدأ الشك uncertainty»، وكلا المبدأين أساس نظرية ميكانيكا الكم . مثال آخر هو مبدأ التفردية singularity، «وهي عندما يكون الحجم صفراً والكتلة والكثافة لانهائية»، وهو من الأركان الأساسية لنظريات الانفجار الأعظم big bang لنشوء الكون والسحق الأعظم big crunch لفنائه. مثال ثالث هو مبرهنة النقص incompleteness theorem بأنَّه «توجد عقبة أساسية في علم الرياضيات لا يمكن التغلب عليها أبداً، وهي أنَّ هنالك مسائل لا يمكن حلها بأي طريقة ولا بأي قاعدة». ولو أنَّ جميع هذه المفاهيم والمبادئ أعلاه أدّت إلى تقدم هائل في فهم الكون فهي في الوقت ذاته عقبات في طريق التقدم اللاحق وأوصلت العلم إلى طريق مسدودة[11]. إنَّ جميع هذه المصاعب أمام العلم يمكن حلها فقط بتوسيع نطاق النقاش والبحث العلمي إلى التفكير بمبدأ الخلق حيث لا تعارض بين الاثنين.

القرآن الكريم ; خاتم الكتب السماوية

الآيات:

[سورة طه: 114] ﴿...وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾

[سورة فاطر: 28] ﴿...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...﴾.

[سورة آل عمران: 7] ﴿...وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ...﴾

[ سورة النساء: 162] ﴿لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ...﴾

[سورة آل عمران: 18] ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ .... ﴾

[سورة الروم: 56] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ...﴾

[ سورة المجادلة:11] ﴿ ...يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ...﴾

[ سورة العنكبوت:49] ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ﴾

إنَّ المعلومات العلمية، لم تكن معروفة لا للعامة ولا للمفكرين، وقت نـزول القرآن، أو وقت تأليف التفاسير التقليدية المعتمدةّ التي تخص الخلق والظواهر الطبيعية والأحداث التاريخية الدينية، ومنها ما سبق ذكره في التوراة والإنجيل.

إنَّ سبحانه وتعالى أنـزل القرآن بهذه المعلومات على نبيّه محمّد (ص) إما بأسلوب مباشر وصريح وخصوصاً ما سبق ذكره منها في الكتب السماوية الأخرى ولو أكثر تفصيلاً، وإما أنَّها وردت بأسلوب مضمر. كان القرآن ثورة ثقافية سابقة لزمانها بأكثر من ألف سنة، تفوق قابلية البشر في تلك الفترة على فهمها واستيعابها، ناهيك لو ورد صراحة ما هو أكثر تعقيداً كتفاصيل خلق الوجود. لا بدّ من التأكيد هنا على أنّ النبيّ محمّداً(ص) هو أوّل مفسر للقرآن بأحاديثه وهو القائل « اطلبوا العلم ولو في الصين ». إنَّ اهتمام الدين بالعلم يفند الأساس الذي اتهم عليه الفلاسفة والعلماء بأنَّهم «معتزلة» بسبب محاولتهم مد الجسور بين الدين الإسلامي القائم على مفهوم «الإيحاء الإلهي والإيمان» , والفلسفة التي تعنى بمفهوم «المنطق». وصم المفكرون بعضهم بعضاً بصفة «الاعتزال» أثناء فترة التنوير العلمي الإسلامي في أواخر الألف الأوّل للميلاد لأسباب شخصية أو سياسية، وخصوصاً بعد وفاة الخليفة المأمون الذي كان يرفل العلماء والفلاسفة برعايته. حدث ذلك من دون دليل على علاقة عضويّة بالمعتزلة التي هي حتى يستعصي على الباحث تعريفها بدقة، وتحديد من لها ومن عليها على مدى القرون؛ فهي منظومة من العقائد والأفكار. بتقادم الزمن تحول «الاعتزال» إلى صفة ازدرائية كصفة «الهرطقة - أي ابتداع البدع » التي هي أيضاً تعبير فضفاض غير محدد الملامح في أوروبا القرون الوسطى، خصوصاً وأنَّ المفكرين العرب والمسلمين الذين وصفوا كمعتزلة هم أنفسهم وصفوا كمهرطقين من قبل الأوروبيّين بعد قرون. للدلالة على عدم دقة هذه التعابير، كان الأوروبيّون في تلك الحقبة يميلون إلى رأي الغزالي بنهجه الصوفي المحافظ ولو أنَّه أيضاً عالم . إنَّ نهج المفكرين الأوائل نقل تفسير القرآن إلى آفاق جديدة ومتجددة على مدى القرون، وأدى إلى تميز الدور الذي لعبه المفكرون العرب والمسلمون في حضارة العالم الحديث، كما أعطى الباحثين من بعدهم الفرصة للتوغل في معاني القرآن وسبر غور ما يحتويه من الحقائق العلمية المعاصرة.

قال النبي (ص) في حديث شريف « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر » مما اعتبره البيهقي ( 384-458 هجري ) دليل على انه وكَّل بعض الاحكام إلى اجتهاد العلماء والباحثين وجعل لهم الأجر على ذلك الاجتهاد. إنَّ القرآن، وهو آخر الكتب السماوية، نزل في وقت تطورت فيه الإنسانيّة بعد الإنجيل بأكثر من ستة قرون، لذا فهو أكثرها عمقاً وشمولية وتناسباً مع هذا التغيير وخصوصاً في إعطاء تفاصيل أكثر عن الخلق ورصد العلاقات الاجتماعيّة والتطرق إلى مفاهيم اقتصادية وسياسية وحتى عسكرية. إنَّ التطور وقابلية التكيف والتغيير والتقدم تنجلي في براعة ودقة وجمال الخلق حولنا . برزت دراسات في السنوات الاخيرة، وهي تكتسب زخماً مضطرداً ؛ التطور الإيماني theistic evolution , التطورية الإيمانية theistic evolutionism , والخلقية التطورية evolutionary creationism .

الايمان والثورة العلمية [12]

[سورة فاطر: 28] ﴿...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...﴾.

إن العلم هو الوسيلة التي تتم بها دراسة حكمة الله فكان الإيمان بالله هو المحرك الأول للنهضة العلمية الحديثة التي شهدتها أوروبا بعد نهاية العصور الوسطى المظلمة، وكان روادها العظام يتمتعون بإيمان عميق بوجود قوة مطلقة عظمى تقوم على هذا الكون .

قال العالم الفلكي نيكولاس كوبيرنيكوس (1437-1543) « إن على العالم ان يطلب الحقيقة في كل شئ إلى المدى الذي يؤهله له المنطق الذي منحه الله اياه».

قال العالم غاليليو (1564-1642) « لا اعتقد ان الله الذي منحنا موهبة الحواس والمنطق والحكمة يدعونا إلى التخلي عن كل ذلك »

قال العالم "أبو الكيمياء" والفيلسوف والمخترع روبرت بويل(1627-1691) « عندما أتأمل الكواكب والنجوم بواسطة التلسكوب، وأتبين الابداع الفذ الذي لا يضاهى في دقة الصنعة بواسطة المكروسكوب، واقرأ كتاب الطبيعة في مختبرات الكيمياء أجد نفسي تهتف دائماً :كم هو بديع صنعك يا إلهي، إنها حكمتك التي أبدعت كل شئ ».

قال العالم اسحق نيوتن (1642-1727) وهو الأكثر تأثيراً في مسار التطور العلمي ومؤلف أشهر كتاب علمي (برنسبا ماثميتيكا Principa Mathematica) « لقد كتبت كتابي وانا اضع نصب عيني ان يكون سبيلاً إلى مساعدة الناس على ان يؤمنوا بالله المعبود، ولن يسعدني شئ أكثر من تحقيق هذه الغاية ". ومن اقواله المأثورة « يكفي ان انظر لإبهامي حتى اكون مؤمناً بالله » .

قال العالم تشارلز داروين (1809-1882) قبل وفاته بثلاث سنوات « أبداً لم اكن ملحداً بمعنى عدم الاعتراف بوجود الله . » [13]

قال العالم البرت أينشتاين (1879-1955) « ثمرة العلم الحقيقي هي ذلك الشعور العميق الجميل بالروحانية، إن من لا يعرف ذلك الشعور ولا يقف مستغرقاً امام عظمة الكون برهبة وخشية هو شخص في عداد الاموات » . وقال ايضاً « أريد أن اكتشف كيف خلق الله الكون لا اهتماماً بعنصر أو بظاهرة بل اريد ان اتوصل إلى حكمته، والباقي مجرد تفاصيل ».

قال العالم ماكس بلانك (1858-1947) الذي حاز على جائزة نوبل لتوصله إلى نظرية فيزياء الكم « لا غنى للعلم ولا للدين عن الإيمان بالله، فالايمان بالله هو البداية بالنسبة للدين، اما بالنسبة للعلم فالايمان بالله فهو نتيجة كل الابحاث والنهاية التي نتوج بها نظرتنا العامة للكون ».

قال العالم فرانسيس كولنز مدير مشروع خارطة الجينوم البشري « إن الله الذي نعرفه في الجينات ونعبده في اماكن العبادة كما في المختبرات، مخلوقاته عظيمة وبديعة ومحكمة التعقيد وجميلة ايضاً ».

ناهيك عن افكار ابن سينا وابن رشد والفارابي والغزالي والبيروني والرازي وابن الهيثم والكندي ومئات غيرهم من العلماء المسلمين والعرب الذين رفعوا بإيمانهم بالله شعلة العلم لعدة قرون، إلى آفاق ما سبقهم اليها أحد.[سورة الزمر:9] ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾.

وحدانية الخالق وكماله

إنَّ قوانين العلوم الطبيعية كالفيزياء والأحياء والطبيعة كلها تنطبق على الكون كله وعلى مخلوقاته كافة؛ فنظام الكون كله محكوم بقيد الجاذبية gravitationally bound، وهناك تجانس بين المخلوقات الحيّة كما يظهر من علم التشريح المقارن.

إن علم الأحياء الكميمي quantum biology وهو علم حديث تبلور في السنوات الاخيرة، قد أثبت ما هو أكثر دلالة على وحدة الخلق، إذ ربط كافة العلوم الطبيعية; الاحياء والفيزياء والكيمياء بحلقة وصل هي ميكانيكا الكم quantum mechanics. إن العمليات الأحيائية كالتركيب الضوئي في النبات وكيفية عمل إنزيم وحدوث الطفرات الوراثية المفترضة في المخلوقات وكيمياء عملية الشم وتوجيه الطيور إلى اماكن تكاثرها على بعد آلاف الأميال، كلها تعتمد على قوانين فيزياء الكم التي تتحكم بالجسيمات دون الذرية subatomic particles في ذرات المواد التي تتكون منها الخلايا.

ليس هذا فقط، فاننا لو بحثنا على الشبكة الالكترونية ( الإنترنيت) أو مواقع دوائر المعرفة، عن تعابير عشوائية تمزج أكثر من علم أو نظرية سنكتشف عدداً كبيراً من العلوم أو النظريات المركبة تجسّرها مع بعضها، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك اللوغارثمات التطورية وعلم الكون التطوري وعلم الأحياء الاجتماعي والاحياء الفيزياوي الكميمي وعلم النفس المعرفي والكيمياء الفيزياوية ومئات اخرى .

هذه أدلة على وجود حكمة موحدة تجسّر بين العلوم كافة، وخلق متجانس من أصغر حجم إلى أكبر حجم ومن الطبيعة إلى المخلوقات، فمثلاً هناك أدلة علمية على ان مبدأ «الانتقاء الطبيعي» التطوري للمخلوقات هو أيضاً كوني .

إنَّ أوّل من استعمل تعبير الميتافيزيقية metaphysics وتناول الجدلية الطبيعية الدينية Physico -theological argument [14]هو ارسطوطاليس في القرن الرابع (ق.م)، وتطورت هذه الجدلية بعده لتعني «أنَّ الأشياء في العالم ليست عشوائية وإنَّما مرتبة بحكمة ومسببة بقدرة ذكية بارعة، ولا يمكن أن تكون من دون هدف، وأنَّ وحدة العلاقة بين الأجزاء في العالم تدل على أنَّ هناك مسبِّباً واحداً لكل شيء، وهذا المسبب يتسم بالكمال والحكمة والقوة والاكتفاء الذاتي» [15]. وهذا أيضاً ما توصل إليه الفيلسوف الأندلسيّ بقية بن بالكوفة Bachya bin Paquda سنة 1040م، فقد جاء في كتابه (الفرائض في هداية القلوب )[16] «إنَّ تجانس كل ما هو موجود في الطبيعة واعتماد المخلوقات على بعضها والخطة الرائعة والحكمة التي تتجلى في تركيب المخلوقات الحيّة من أكبرها إلى أصغرها، من الفيل إلى النملة، يدل على مصمم واحد عظيم».

الوجود

إنَّ الله تعالى خلق كل شيء بإرادته وبقدرته ليس عبثاً ولكن لغرض. إنَّ ذلك الغرض هو توفير مستلزمات الحياة للبشر والدلالة القاطعة على قدرته وعظمته والحجة البالغة كي يعبده البشر بإرادتهم الحرة وهو القادر على خلقهم كلهم مؤمنين كالملائكة والمخلوقات الأخرى من حيوان ونبات وأجرام سماوية، [سورة الأنبياء: 16] ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾. إنَّ الكون وما عليه من مخلوقات ونبات بالإضافة إلى الظواهر المناخية والكونيّة قد سخرها لتوفر للإنسان الظروف المتوازنة لتأمين مستلزمات عيشه كافة من خلال الأنظمة البيئية الشاملة الضرورية للحياة Universal or Global eco-systems. يعيش على الأرض ثلاثون مليون نوع من المخلوقات، وهذا التنوع الحياتيّ هو الذي وفر للبشر ما لا يمكن حصره من العطايا، ومنها المناخ المستقر والهواء النقي والماء العذب والطعام وحتى قيمنا الحضارية.

إنَّ الكون مصمم لتوفير ما يريده الإنسان ويحتاجه، وهو ما يسمى علمياً بالمبدأ الإنسانيّ الكونيّ anthropic cosmological principle الذي يقول: «بأنَّ الكون مصمم للإنسان الذي لا يستطيع العيش في أيّ كون لا يشبه كوننا هذا» [17] [18] وكذلك مصمم للمخلوقات المتعايشة معه bio-centric اي « إن الحياة والمخلوقات جوهريتان للوجود وللحقيقة وللكون» ,الكون الملائم لاشكال الحياة كافة.

أشار فريمان دايسون إلى هذا المفهوم نفسه بقوله:«كلما أطلت التفكير بالكون وتفاصيل تركيبه كلما ظهر البرهان لدي أكثر وضوحاً بأنَّ الكون لا بدّ أن يكون قد علم بشكل أو بآخر بقدومنا» [19]. الآية [سورة الإسراء:70] ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.

المصادر

Hawking, Stephen, The Universe in a Nutshell (Bantam Press, 2001)

Desmond, Adrian; Moore, James (1991). Darwin. London: Michael Joseph, Penguin Group

Barrow, John D.; Gregory Laughlin, The Anthropic Cosmological Principle (Oxford University Press, 1986)

R. Dawkins, The Selfish Gene. Oxford, UK: Oxford University Press, 1976)

المراجع

  1. Al-Ali، Muneer (3rd Edition ,2017). A scientific tafsir of Qur'anic verses : interplay of faith and science . North Charleston, S.C.: CreateSpace Independent Publishing Platform.
  2. http://www.philostv.com/craig-callender-and-jonathan-schaffer
  3. Michael Friedman, Reconsidering Logical Positivism (New York: Cambridge University Press, 1999), p xiv
  4. Karin Gutman, Secret Societies, the Hidden Masters of the World (Kandour Ltd, 2007), pp 40–41
  5. R. Dawkins, The Selfish Gene. Oxford, UK: Oxford University Press, 1976) ISBN 0-19-286092.
  6. Hawking, Stephen, The Universe in a Nutshell (Bantam Press, 2001).
  7. Hawking, Stephen, The Universe in a Nutshell (Bantam Press, 2001).
  8. Fortey, Richard, Survivors “Great Dying”, BBC, on 24 Jan. 2012
  9. “Albert Einstein: Religion and Science,” New York Times Magazine,November 9, 1930, pp 1–4. It has been reprinted in (Ideas and Opinions, Crown Publishers, Inc. 1954, pp 36–40). It also appears in Einstein’s book, The World as I See It, (New York: Philosophical Library, 1949), pp. 24–28
  10. Hawking, Stephen, The Universe in a Nutshell (Bantam Press, 2001).
  11. Hawking, Stephen, The Universe in a Nutshell (Bantam Press, 2001).
  12. http://www.aljazeera.net/news/scienceandtechnology/2016/6/29
  13. Desmond, Adrian; Moore, James (1991). Darwin. London: Michael Joseph, Penguin Group.
  14. Reeve, C. D. C. Substantial Knowledge: Aristotle’s Metaphysics (Indianapolis: Hackett, 2000).
  15. Caygill, Howard. A Kant Dictionary. (Wiley-Blackwell,1995) International Standard Book Number http://books.google.com/ ?id=8S4yK8Pn6gYC, ISBN0-631-17535-0.
  16. Ibn Pakuda, Bachya; Yaakov Feldman, Duties of the Heart (Northvale, NJ: Jason Aronson, 1996), pp 20–21
  17. Barrow, John D.; Gregory Laughlin, The Anthropic Cosmological Principle (Oxford University Press, 1986),
  18. Mosterín, Jesús. “Anthropic Explanations in Cosmology,” in P. Háyek, L. Valdés, and D. Westerstahl (ed.), Logic, Methodology and Philosophy of Science, Proceedings of the 12th International Congress of the LMPS (London: King’s College Publications, 2005) pp. 441–473, .
  19. Disturbing the Universe (New York: Harper & Row, 1979), 250.


موسوعات ذات صلة :